توازنات إستراتيجية أوروبية: الملف السوري والقرار 2254
هُيئ للبعض بأن الهرولة الأوروبية تُجاه سوريا تأتي في إطار "انتصار دمشق"، لاسيما أن ما كشفته الوثيقة الأوروبية عن رسالة قدّمها وزراء خارجية 7 دول، لتشكيل كتلة داخل الاتحاد الأوروبي لمراجعة السياسة المعتمدة مع دمشق، طالبت بالتخلّي عن "اللاءات الثلاث" المتعلّقة بالعقوبات والتطبيع والإعمار، ومبدأ أنه "لا يمكن تحقيق السلام في سوريا في ظلّ النظام السياسي الحالي". لكن في المقابل فقد أقرّ مجلس الاتحاد الأوروبي في أبريل/نيسان 2017، الإستراتيجية الأوروبية إزاء سوريا التي عُدّلت مرارًا، إلى أن أصبحت تقوم على "ثلاث لاءات" هي: "لا للتطبيع مع دمشق، لا لرفع العقوبات، لا لإعمار سوريا ما لم يتمّ تحقيق تقدّمٍ ملموسٍ في العملية السياسية حسب القرار الدولي رقم 2254".
الملف السوري وما يرتبط به من عناوين سياسية، لم يشهد أي تطورات يمكن البناء عليها بُغية إعادة تفعيل المسار السياسي وإنهاء الأزمة، وكذا فإن سيطرة دمشق على حوالي 70% من الجغرافية السورية، لم يُحقق أي إستقرار جديّ في المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن سيطرة دمشق بمساعدة حلفاؤها حققت نوعًا من التوازن الإقليمي والدولي؛ هذا التوازن كرّس تأثيراً وحضوراً إيرانيًا وتركيًا وروسيًا وأميركيًا، وتشابكًا على مستوى المصالح ومناطق النفوذ، وبالتوازي فإن هذا التوازن عمل على إبعاد اللاعب الأوروبي عن الملف السوري، وبات الدور الأوروبي ربطًا بذلك ضعيفًا ودونما تأثير في المنطقة.
استشعرت الدول الأوروبية الأثار السلبية لإبتعادها عن الملف السوري، الأمر الذي حفزّ القارة العجوز على تبني إستراتيجية جديدة وبناء مقاربات مغايرة تُحاكي التطورات الحالية في سوريا. لكن في العمق فإن الإهتمام الأوروبي تُجاه دمشق، لا ينطلق من محددات تبحث عن توازنات إستراتيجيّة جديدة فقط، بل ثمة تبدلات جذرية في إعتماد سياسات جديدة مع دمشق، تحمل أبعاداً إستراتيجية على رأسها تكريس وتفعيل التواجد الأوروبي في المنطقة من البوابة السورية، وذلك لمنافسة روسيا في سوريا وعموم المنطقة، وكذلك تضييق الخناق على النفوذ الإيراني، مع مسعى جدي لضبط الانفتاح التركي على سوريا، بعدما باتت أنقرة تغرّد بعيدًا عن الإجماع لحلف شمال الأطلسي.
ثمة قناعة أوروبية راسخة ترتكز على أن الأزمة السورية أفرزت تغييرات عميقة في عموم مناطق الجغرافية السورية، وبات التغيير الديمغرافي عنوانًا يُخيف الأوروبيين، ولابد من اعتماد مقاربات جديدة حيال ذلك، ورغم هدوء المسار العسكري وحالة الإستقرار التي شهدتها مناطق كثيرة في سوريا، إلا أن النزوح السوري لم يتوقف، خاصة أن من نزح جراء الحرب لا يستطيع العودة نتيجة عوامل كثيرة، والنظام السياسي الحالي لا يستطيع أن يضع خطط لعودة النازحين، ويقوم باستثمار هذه الورقة سياسيًا بحسب الأوروبيين، وهذا ما يتطلب تفاوضًا مباشراً مع دمشق.
بدأت دول الإتحاد الأوروبي تتلمس بشكل جدي الخطر القادم إليها من سوريا. فالهجرة غير الشرعية إرتفعت بشكل يُهدد المجتمع الأوروبي، ولابد في هذا الإطار من وضع خطط تقوم على إعادة الإنفتاح على دمشق، لوضع خطط لإعادة النازحين، لكن بطبيعة الحال فقد إعتمد التقارب الأوروبي مع دمشق على مبدأ "التدخل في الساحة السورية"، خاصة أن العملية السياسية المتعلقة بمسار أستانا وغيره من المسارات، لم تحقق أي تقدم على صعيد الداخل السوري، واستمرار الواقع السوري بعناوينه الحالية، ورفض السلطة وحلفاؤها تطبيق القرار الأممي 2254، كل ذلك جعل من الأزمة السورية عابرة للحدود، وأصبحت أزمة عالمية تمثلت في هجرات غير شرعية.
الهرولة الأوروبية ستُشكل حضوراً أوروبياً في سوريا، لكنه حضور سيكون مُحدداً في الإطار الدبلوماسي الباحث عن سُبل تطبيق القرار 2254، أو في ما يتعلق بتسهيل عودة النازحين، لكن في المقابل فإن التغيير الديموغرافي الذي حدث في سوريا، يفرض تحدياً لابد من تأطير تداعياته، ويبدو أن أوروبا وبقرار أميركي تحتاج إلى الحد من الحضور الروسي في سوريا، على اعتبار أن غياب أي دور أوروبي يصبّ بالقطع لصالح روسيا، وكذلك فإن الحرب الروسية في أوكرانيا دفعت الأوروبيين إلى فتح جبهة جديدة ضد روسيا في الساحة السورية، بهدف تشتيت قدرات روسيا من خلال إداراتها لأزمات مختلفة.
الرغبات الأوروبية تُجاه الإنفتاح على سوريا، هي عملية بالغة التعقيد في ظل الواقع الحالي الذي تشهده سوريا، وقد تجري رياح الانفتاح عكس سفن تقديراتهم، خاصةً أن القرار في سوريا ليس قراراً سوريًا خالصاً، بل هناك تدخّلات واضحة في شؤونها، لاسيما إيرانية وروسية.
كل ذلك مدعاة أوروبية للهرولة تُجاه دمشق، بغية محاولة ترميم المشهد السوري والحدّ من موجات النزوح، ومقابلة النفوذ الروسي والإيراني في سوريا ووضع حدود له، والبحث عن طُرق لتطبيق القرار 2254، خاصة أن القرار الأخير يُعد بوابة للحل في سوريا، ووسيلة لإنهاء الأزمة السورية.