الكتابة المشاكسة في 'سوق النساء' لعباس سليمان
لقد غدت الكتابة الواعية بذاتها ملمحا هاما من ملامح الرواية ما بعد الحداثية والقصة التجريبية، وهي كتابة يقحم فيها المؤلف نفسه داخل عالم القصّ ليثير قضايا الكتابة والإبداع، فيضعها موضع نقاش أو يجعل المتلقي طرفا أساسيا في مواجهتها محاولا تفعيل نشاطه القرائي. هذه الظاهرة يصطلح البعض على وسمها بـ"الميتا قصّ" أو "النص الواصف" وهي "الانزياحات السردية التي يقدم لنا المؤلف خلالها تعليقا على النص الذي هو بصدد كتابته، أو تأملا ذا طابع أدبي أو شخصي. حينها يتخلى عن السرد المحض لصالح خطاب من الدرجة الثانية يظهر خلاله المؤلف بوصفه شخصا حقيقيا" (1)
وقد ظهرت ملامح هذه الكتابة الواعية بذاتها (الميتاقص/النص الواصف) في الرواية العربية منذ الستينات ولعل بدايتها كانت قبل ذلك مع "القصر المسحور" سنة 1936 حيث يظهر المؤلفان طه حسين وتوفيق الحكيم باسميهما الحقيقيين لتطارح إشكاليات الكتابة وعلاقة المؤلف بشخصياته. لتتواتر بعد ذلك الروايات التي وظفت هذا الضرب من الخطابات الميتاقصيّة مع عدد من الروائيين العرب انطلاقا من السبعينات، ومن هؤلاء صنع الله إبراهيم "تلك الرائحة"، حنا مينا "النجوم تحاكم القمر"، يوسف القعيد "يحدث الآن في مصر"، أحلام مستغانمي "عابر سرير – فوضى الحواس"، محمد برادة "لعبة النسيان"..
غير أن الميتاقص أو النص الواصف بدا أقل حضورا وتواترا في الأقصوصة وربما لم يحظ بما يكفي من العناية والدرس (2) وقد رأينا في مجموعة عباس سليمان القصصية "سوق النساء" (3) حضورا هاما لهذه النزعة وتمظهرات مختلفة لها تستحق التمعن والتدبر. ولعل توظيف الميتاقص في تسع أقاصيص من مجموع ثلاث وثلاثين قصة مؤشر هام على أهمية هذه الظاهرة التي يتقاطع فيها النقدي مع السردي مما يسمح بالتساؤل عن أهم تمظهرات النص الواصف أو الميتاقص في مجموعة "سوق النساء" وعن الإشكاليات النقدية الإبداعية التي يثيرها القاصّ طيّ السرد، ثم ما الذي يغري القاصّ بمشاكسة القارئ وتقمص دور الناقد وهو يبني عالمه التخييلي سردا؟ ألا يفضي خلط الأوراق بين سلطة الناقد وسلطة القاص إلى الإخلال بحبكة القصة وهدم البناء التخييلي؟
إشكاليات الكتابة الإبداعية/تمظهرات الميتاقص:
من أهم ملامح الميتاقص كسر الحاجز الوهمي بين المؤلف والقارئ وتوجه المؤلف بالخطاب المباشر إلى القارئ، وإن تخفّى ظاهريا وراء إحدى شخصياته أو توحّد مع الراوي. يقول الراوي في قصة "لن أنشرها": "لن تصدق أيها القارئ هذه القصة ولكني لأبرهن لك على صدقي أطلب منك أن تتصل بالناشر وتتأكد مما إذا كنت أودعت لديه فعلا رواية.." ص118 وقد يجعل المؤلف شخصياته تخوض حوارا معه وتناقشه في طريقة نسج الأحداث ورسم ملامحها (قصة "لن أنشرها") وفي ذلك صدى لمسرحية الكاتب الإيطالي بيراندللو في مسرحيته "ست شخصيات تبحث عن مؤلف".
كما قد يعمد الكاتب أحيانا إلى أنسنة القصة نفسها وتشخيصها فإذا هي تحاور كاتبها وتطلب تغيير بعض الأحداث فتنازعه صلاحياته. "سألتها حانقا: لم أعد أدري من منّا يمسك بناصية الآخر.. أأنا من يكتبك أم أنت من يملي عليّ ما أكتب؟" ص133. على أن الشكل الأبرز والأكثر تواترا للنص الواصف (الميتاقص) في "سوق النساء" يتمثل في جعل الراوي/الشخصية يتماهى مع شخصية كاتب القصة وهو ما يسمح بإثارة إشكاليات الكتابة الإبداعية فيمارس بذلك دور الناقد متقنعا بالشخصية القصصية.
يتقاطع في قصص "سوق النساء" السردي والنقدي، يلتفت المؤلف إلى عالم القصة الداخلي فاضحا بعض قواعد اللعبة السردية للقارئ، كاشفا روافد الكتابة وصعوباتها، واصفا علاقة المؤلف بشخصياته القصصية وبعض وظائف الكتابة ودوافعها.
يستعرض عباس سليمان بعض روافد الكتابة ومصادر "إلهام" الكاتب باعتبارها تخضع إلى عوامل عديدة أهمها القلق والحيرة وهموم الواقع الاجتماعي، إضافة إلى التجربة الذاتية والمعيش اليومي (الطفولة والذكريات) وقد تتجاوزها إلى الخرافات الشعبية والغرائب، وقد تكون العزلة وحدها أحيانا محفز الإلهام القاص (قصة "وجدتها").
على أن كل هذه الروافد لا تنفي صعوبات الكتابة الإبداعية وتعسّرها الذي لا يدركه القارئ، إذ لا يرى النص إلا وقد اكتمل ونضج وتكفل الكاتب بتشذيب نتوءاته وتعديل خلله حتى يجد فيه المتلقي المتعة المرجوّة. ففي قصة "وجدتها" تتماهى شخصية الراوي مع الكاتب (المؤلف الضمني) ويشي عنوان هذه القصة بصعوبات ولادة النص وعسر المخاض. يستعير الكاتب للقصة صورة المرأة المتمنعة يراودها فلا تستجيب "منذ مدة وأنا أتصيّدها وأترصدها وأتحايل عليها وأترقبها فيما هي متمنعة مستعصية كأن لم يكن بيني وبينها سابق معرفة ولا حبّ ولا وصال ولا ماء ولا ملح ولا شاي". ص79
وقد يجد الكاتب نفسه مدفوعا إلى إعادة صياغة نصه مرات عديدة لذا نرى الراوي/الكاتب في أقصوصة "أربع ميتات" يسرد حدث موت الشخصية وما تولّد عنه من أحداث في أربع صيغ مختلفة معللا التعديلات الطارئة في كل مرة بخضوعه لأوامر قصته "لم يعد ثمة بدّ من أن أحوّل وجهتي، عدلت عما كنت سأكتبه وأطعت أوامر قصتي" ص 128.
وفي أقصوصة "6 فيفري 2012" يتوسّع عباس سليمان أكثر في عرض صعوبات الكتابة وطقوس العملية الإبداعية، مشيرا إلى مؤشرات العمل الناجح "تذكرت كلاما قاله لي كاتب كبير كنت أعرض عليه نصوصي الأولى: إذا لم يعصف بك القلق ولم تنتبك الحيرة ولم تشعر بالعجز فلن يكون ما كتبته ذا قيمة. إذا لم يتلبسك نصّك ويشدك ويسكنك وأنت تكتبه إلى درجة أن تفضل مصارعته وعذابه على تلبية دعوة زوجتك وهي تناديك من غرفة نومكما بغنج مفضوح فلا شيء يدل على أنك ستخرج نصا يدوم ذكره" ص 127.
وتعتبر صلة الأدب بالواقع من أهم الإشكاليات التي تناولها النقد قديما وحديثا وتولدت عنها نظريات عديدة منها ما يرى في القصة والرواية انعكاسا للواقع ومنها ما يهدم هذا التصور ليقرّ باستحالة "نقل" الواقع باعتبار أن التخييل هو عماد السرد مهما اختلفت أدواته وأشكاله.
فهل تكون القصة مجرد انعكاس للواقع أم هي إعادة خلق له وتشكيل جديد؟ ما الذي يجعل القراء يخلطون في الكثير من الأحيان بين أحداث القصة وسيرة الكاتب؟ يجيب الكاتب على لسان القصة تحاور كاتبها: "ما فائدة الأدب إن كان ينقل لنا ما جرى كما جرى؟ ألست كاتبا؟ ألست تدعي أنك قصاص ماهر؟ أخرج لنا مهارتك .. هيا أرنا أنه حيّ وأنه لم يمت وأثبت أنك كاتب قصة لا كاتب عمومي" ص126. وهو ما يجعل الكاتب يعيد صياغة نصّه مرات عديدة تاركا حرية الخيار للقارئ (قصّة "6 فيفري 2012").
أما علاقة القارئ بالمؤلف وتصور القراء لوظيفة الأدب فتجلوهما قصتان على الأقل هما "وجدتها" و"أربع ميتات".. إذ تتبدى فيهما بعض تصورات القارئ الساذجة والسلبية لوظيفة الأدب: "تخيطون الكلام بعضه ببعض كيفما اتفق لطبعه وبيعه". "هل ستغير بقصتك العالم؟ هل ستخفض قصتك الأسعار وتشغل العاطلين عن العمل؟ وتخفف عن البؤساء بؤسهم وتشفي المرضى وتنزل الغيث؟". وتقدم قصة "انتصار في الفراش" التصور النقيض والإيجابي لوظيفة الأدب (قد يكون تصور الكاتب نفسه)، حيث تغدو المطالعة السبيل الأمثل لتجاوز أوجاع الواقع والهروب من عالم القهر والقمع، وتبدو الكتابة أداة مثالية لخلق عالم جديد ينتصر فيه الإنسان على الألم بل ويحقق سعادته.
ينقل عباس سليمان صوت القارئ العادي وتصوراته لكنه يوظف الميتاقص ليمارس دور الناقد محاولا تصحيح هذه التصورات، كاشفا بعض أسباب العزوف عن القراءة وسوء الظن بالكاتب والكتابة، ناقدا معايير إسناد الجوائز الأدبية التي تستند إلى العلاقات الشخصية والجندرية أحيانا (قصة "أعلمها الرماية") متوسّعا في عرض معايير جودة القصة "الناجحة"، رافضا "السرد البسيط الساذج الذي لا تفكر فيه ولا تدبر"، مؤمنا أنه على القاصّ أن يكسو قصته "فتنة وتشويقا في حبكة دقيقة ولغة أخاذة، تنتهي إلى نهاية مثيرة تربك القارئ وتكسر أفق توقعه وتجعله يتلذذ القصة وفنّ القصّ" ص111.
وبذلك تغدو الكتابة القصصية في "سوق النساء" فضاء نقديا يكشف هواجس الكاتب ويرصد إشكالات الكتابة التي يواجهها حين يتخلق النص. يشاكس فيه الكاتب القارئ عبر النص الواصف مخيبا أفق توقعه، ملقيا به في متاهات السؤال.
لكن ألا يفضي خلط الأوراق بين سلطة الناقد وسلطة القاص إلى الإخلال بحبكة القصة وتقويض البناء التخييلي؟
الكتابة المشاكسة ومكر السرد:
رغم إقرار عديد الدارسين أن القصة "فنّ مراوغ نعجز عن محاصرته" ورغم تأكيد بعضهم على "تفلت الأقصوصة" (4) نظرا لقدرتها على التمرد على قواعد الجنس، فإن عددا من السمات المميزة لها تبقى أساسية لعل أهمها سمات التكثيف والإيجاز وهاجس الواقعية والتهويل الحاسم (أوزوالد).
غير أن جماليات القصّ في "سوق النساء" لا تخضع فقط لهذه السمات والمقومات التي حاول الكاتب الحفاظ عليها، بل تعود في غالب الأحيان إلى ضروب الانزياحات السردية وضروب التجريب التي وظفها عباس سليمان في خرق واضح لقواعد اللعبة متعمدا خلط الأوراق عبر تنويعات ميتاقصية عديدة. هي قصص يتعمد فيها الكاتب مشاكسة القارئ في مكر واضح كاسرا الحواجز بين المؤلف والمتلقي، بخلط الأدوار وجعل الشخصيات القصصية تحاكم المؤلف وتطالب بحقوقها. انزياحات سردية وانحرافات يتقمص فيها القاص دور الناقد، وتتحول فيها القصة نفسها شخصية قصصية تحاور مؤلفها وتطالب بحقها في بناء عالمها السردي وفق رؤيتها ويغدو معها الكاتب أداة مطيعة.
يعمد عباس سليمان إلى نوع من التغريب البريشتي بكسر الحواجز بين الواقع والتخييل محملا المتلقي مسؤولية سد الفجوات والمشاركة في بناء العالم التخييلي وحرية اختيار النهايات المناسبة لتصوراته ورؤاه بتقديم "الترضيات" المختلفة للقارئ (قصة 6 فيفري) وبتنويع صياغة الأحداث وإعادة كتابة القصة بأشكال مختلفة (قصة وجدتها).
على أن سمة أخرى هامة في مجموعة "سوق النساء" نراها مميزة لجل الأقاصيص حتى تلك التي لم توظف الميتاقص، هي روح السخرية والهزل تنتشر في ثنايا الخطاب القصصي وتخفف من صرامة المواضيع النقدية وعسر تقبلها. والسخرية هي "وسيلة اختبارية تشاكس كل صور الجمود والغفلة والنقص والاستبداد وتستفزها" (5) وقوامها في قصص عباس سليمان المفارقة في شتى ألوانها.
تهيمن السخرية على عدد هام من الأقاصيص ترسم معاناة المبدع بدءا من ولادة النص إلى علاقة النص بمعيش الكاتب وحياته الخاصة إلى علاقته بالقراء إلى معايير إسناد الجوائز فإذا هي الوجه الآخر للمأساة. "توسلت بقصص أخرى، قلت أضاجعها لألد منها" ص80. "حين أيقنت أني أوغلت في أنانيتي وأن قصة قصيرة لا تستحق أن أخرب من أجلها الدنيا، لعنت القصص والروايات ولوثة الأدب واستغفرت الله واعتذرت للقراء الذين كنت سأفجعهم بخيالي المريض" ص100. "أوقفت القصة عند ذلك الحدّ وأنا أعاتب نفسي وأسدد لها اللوم تلو اللوم، ولو استطعت أن أصفعها وأركلها لما ترددت..." ص262. وهي مفارقات لا تتجلى في مستوى اللغة والأسلوب فقط وإنما تمتد إلى بنية القصص تجلوها لحظات الذروة فيها ("أعلمها الرماية" و"أربع ميتات").
يولي عباس سليمان المتلقي/القارئ في "سوق النساء" أهمية خاصة عبر تنويعات الميتاقص وكأنه بذلك ينفي قصدية المؤلف ويلغي فكرة الحقيقة المطلقة، بل هو يزعزع المعنى، مؤكدا مبدأ الحرية، حرية القارئ في تأويل النص، وحقه في رفض وصاية الناقد والمؤلف. ويكون الميتاقص بذلك قد أسهم في كسر الحواجز بين الأجناس الأدبية (القصة والنقد) وكسر أعراف الكتابة القصصية وساهم في تسريد النقد وتقريبه من المتلقي. فإذا النص الواصف نص متعدد الأصوات بوليفوني النزعة تتواجد فيه منظورات مختلفة ومتناقضة، تجلو تصورا جديدا للكتابة وللعلاقة بين المؤلف والمتلقي، قوامه زعزعة الثوابت وغايته استعادة سلطة القارئ في فضاء الكتابة، وتأكيد هوية المؤلف في كتابة واعية بذاتها عبر مرايا السرد النرجسي.
الهوامش والإحالات:
1-إيف ستالوني: معجم الرواية، ترجمة محمد آيت ميهوب، كلمة، أبوظبي، ط1، 2024
2-انظر دراسة "الميتاقص في القصة السعودية" لنوال بنت ناصر السويلم، مجلة العلوم الإنسانية، عدد 29، 2017
3-عباس سليمان: سوق النساء، الدار التونسية للكتاب، ط1، 2024
4-أحمد السماوي: تفلت الأقصوصة، مكتبة علاء الدين تونس، ط1، 2018
5- محمد العمري: البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول، أفريقيا للنشر، المغرب 2005 ص 98