العراق، المطعم الكبير

يجد العراقيون تحديا في هويتهم ابتداء من ثقافة الطبخ لديهم.

أقام الأميركان بعد احتلال العراق نظاما سياسيا قائما على مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية والذي هو في حقيقته نظام محاصصة بين الأحزاب الدينية والقومية التي التحقت بمشروع الاحتلال قبل عام 2003.

لا أعتقد أن سلطة الاحتلال وقد توصلت إلى ذلك الحل التفكيكي كانت تفكر في مكافأة أنصارها من العراقيين بقدر ما كانت تفكر في مستقبل العراق، بلدا لن تقوم له قائمة على الخريطة السياسية للشرق الأوسط.

الآن مضى أكثر من عشرين عاما على البدء بتنفيذ المشروع الأميركي ولا يزال العراق دولة فاشلة بمعنى عجزها عن تلبية حاجات مواطنيها الأساسية في الأمن والسكن والغذاء والتعليم والصحة وسواها من مفردات البنية الأساسية.

ما من شيء يشير إلى أن العراق سيكون غير ذلك في السنوات العشر، أو العشرين المقبلة إذا ما استمر نظام المحاصصة الحزبية قائما. فالأحزاب التي احتكرت تمثيل المكونات الاجتماعية هي في حقيقتها كيانات مغلقة على مصالحها ولا علاقة لها بأية شراكة وطنية.

عراق اليوم هو عبارة عن بُنى كارتونية يمكن أن تزول إذا ما ضربتها أصغر العواصف. تساءل ممثل مصري زار العراق مؤخرا "أيعقل أن تكون عاصمة الخلافة العباسية مجرد مطعم كبير؟" ذلك السؤال تتضمنه كل تعليقات زوار العاصمة العراقية الذين صدموا بأن العراق قد تم إفراغه من محتواه الإنساني العميق ليظهر كما لو أنه حدث طارئ.

كلما سمعت أحدهم وهو يتحدث عن زيارته للعراق شعرت أنه يتحدث عن بلد آخر. بلد غير الذي عشت فيه وأعرفه وأعرف ناسه ولا يزال شيء من هوائه في رئتي. سنة الحياة تقول إن كل شيء يتغير. ذلك شيء مؤكد. ولكن ما جرى للعراق لا يمكن اختصاره بالتغير. هناك قوة ألقت بالبلد في ما يشبه الثقب الأسود.

عراق اليوم ليس فيه أي صفة من صفات العراق التاريخي. لقد تم إفساد كل الصفات التي كان العراقي من خلالها يضع تعريفا لبلده ولموقعه في ذلك البلد. فعلى سبيل المثال فإن العراقي بالرغم من مزاجه المتطرف حين يحب أو يكره، حين يفرح أو يحزن، حين يقبل أو يرفض فإنه لم يكن عنصريا أو طائفيا إلا إذا كان المزاح هو الهدف فيكون مزاحه حينها ثقيلا ولكن سرعان ما يعود كل شيء إلى طبيعته. ذلك صار من الماضي الذي لا يفكر أحد في استعادته حتى لو كان الكثيرون يكررون عبارة "الزمن الجميل".

عراق اليوم أشبه بحفلة فقد المشاركون فيها حواسهم. لا أحد يرى. لا أحد يسمع. لا أحد يشم. لا أحد يتذوق. لا أحد يلمس. عام 2023 استورد العراق نحو 14,185 طن من مادة الاندومي بكلفة 17.7 مليون دولار. على المستوى السياسي أثار الرقم استغراب البنك الفيدرالي الأميركي من جهة أنه قد يكون وسيلة للتضليل من أجل تهريب العملة الصعبة إلى إيران. ذلك لا يهمني الآن. ما يهمني أن الأمر يشير إلى انهيار الذائقة الغذائية العراقية وعدم اكتراث السلطات المسؤولة بصحة المواطنين الجدد الذين أشك أنهم سيبقون على شيء من صفات المطبخ العراقي العريق في المستقبل القريب.

والاندومي لمَن لا يعرفه هو نولدلز "شعيرية" اندونيسي. لم تكن المعكرونة الايطالية وجبة غذاء يعرفها العراقيون الذين كانوا يوما ما يسخرون من الملوخية والمصعقة ولا يعتبرون الهمبرغر والفلافل وجبات رئيسة. فكيف هي الحال إذا تعلق الامر بالنودلز الصيني أو التايلندي أو الكوري؟

ذلك تفصيل صغير من تفاصيل إنهيار المطبخ العراقي. ولا اعتقد أن ذلك حدث يمكن التغاضي عنه. فالعراقي لمَن يعرفه جيدا هو مطبخه الذي يعود في بعض أجزائه إلى أكثر من خمسة آلاف سنة.

لم يكن العراقيون يقبلون على الأطعمة الطارئة، بل ويقاومونها. ذلك هو دأبهم في التعامل مع كل ما يتعارض مع شخصيتهم. ولكن ذلك كله صار من الماضي. لا لأن العراقيين يتلونون حسب ما يتعرضون له من ضغوط وهو ما لا يمكن أن أؤكده، بل لأنهم عبر العشرين سنة الماضية قد تعرضوا لحملة غير مسبوقة عالميا لغسل أدمغتهم وانتاج أجيال جديدة تنتمي إلى العراق بطبيعة الحال غير أنها ليست عراقية تماما على مستوى الاتصال بصفاته التاريخية.

ما فعلته سلطة الاحتلال الأميركي أنها سلمت البلد بحجة المحاصصة لأحزاب دينية ستعمل على تطبيع ولائها لإيران. ذلك كان أول السيل الذي طمر كل ما وجده أمامه. فسلام على هضبات العراق التي لم تعد تُرى.