قراءة قانونية لمذكرة اعتقال نتنياهو
تعتبر المحكمة الجنائية الدولية من أبرز الهيئات القضائية الدولية المختصة بملاحقة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية. الا ان القضية تتعقد عندما يتعلق الامر بشخصيات سياسية كرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فهل يمكن للمحكمة فرض سلطتها على الساحة الدولية؟ أم إن السياسة تقف عائقًا أمام تحقيق العدالة؟
تأسست المحكمة الجنائية الدولية بموجب نظام روما الأساسي في 17 يوليو/تموز 1998، ودخلت حيز التنفيذ في يوليو/تموز 2002، وقامت المحكمة نتيجة الحاجة لجهة قضائية دائمة تتولى التحقيق في الجرائم الدولية الكبرى ومحاسبة مرتكبيها، بهدف عدم الإفلات من العقاب وتعزيز العدالة الدولية.
تتألف المحكمة من 18 قاضيًا، يتم انتخابهم من قبل الدول الأعضاء لفترة تسع سنوات غير قابلة للتجديد، ونظرت حتى الآن في 32 قضية. وتختص المحكمة في أربعة أنواع من الجرائم: هي الجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، وجرائم العدوان.
أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة. وقالت إن هناك "أسبابا منطقية" للاعتقاد بأنهما ارتكبا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة. وأضافت أن "هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن نتنياهو وغالانت أشرفا على هجمات على السكان المدنيين". وأوضح القرار أن جرائم الحرب المنسوبة إلى نتنياهو وغالانت تشمل استخدام التجويع سلاحا للحرب، كما تشمل جرائم ضد الإنسانية والمتمثلة في القتل والاضطهاد وغيرهما من الأفعال غير الإنسانية. كما أصدرت أيضا مذكرة توقيف بحق قائد كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الفلسطينية (حماس) محمد الضيف.
وجاء القرار نتيجة طلب المدعي العام في 20 مايو/أيار الماضي للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، إصدار مذكرات توقيف بحق قادة من حركة حماس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على خلفية هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 والحرب على غزة.
ووفق ما جاء في القرار فإن نتنياهو وغالانت متهمان بـ"جريمة الحرب المتمثلة في استخدام التجويع وسيلة للحرب، والجرائم ضد الإنسانية المتمثلة في القتل والاضطهاد وغيرها من الأعمال اللاإنسانية". وأوضح القرار، أن "ثمة أسبابا معقولة للاعتقاد بأن المتهمين حرما عمدا وعن علم السكان المدنيين في غزة من الأشياء التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك الطعام والماء والأدوية والإمدادات الطبية، وكذلك الوقود والكهرباء- من 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 على الأقل إلى 20 مايو/أيار 2024". وأضاف "من خلال تقييد أو منع وصول الإمدادات الطبية والأدوية إلى غزة، لاسيما مواد وآلات التخدير، فإن الرجلين مسؤولان أيضا عن إلحاق معاناة كبيرة عن طريق أعمال غير إنسانية بالأشخاص الذين يحتاجون إلى العلاج". كما حمّلت المحكمة نتنياهو وغالانت المسؤولية عن الأعمال التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية تحت قيادتهما، بما في ذلك حالات التعذيب والعنف الوحشي والقتل والاغتصاب وتدمير الممتلكات .وتشمل الاتهامات التي يواجهها نتنياهو وغالانت: التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، والقتل، والاضطهاد، والأعمال اللاإنسانية.
يشار الى ان المدعي العام استند الى الفقرة الرابعة من المادة (99) من النظام الأساسي التي تجيز له أن يباشر بعض أعمال التحقيق دون حضور سلطات الدولة الموجه إليها الطلب وداخل إقليم هذه الدولة، وأن بوسعه على وجه الخصوص جمع إفادات الشهود وإجراء المعاينة. فواقعا إن قيام المدعي العام بمثل هذه الصلاحيات لا يشكل مساساً بالسيادة الوطنية للدول، وسند ذلك نص المادتين 54، 57/3 وأحكام الباب التاسع من النظام الأساسي المتعلق بالتعاون الدولي والمساعدة القضائية التي نصت على بعض الأحكام الإجرائية التي تكفل احترام السيادة الوطنية عند ممارسة المدعي العام لاختصاصاته، وما حكم الفقرة الرابعة من المادة (99) إلا استثناء من هذه القاعدة، والمشروط أولاً بأن تكون الدولة الطرف الموجه إليها الطلب هي دولة ادعت ارتكاب جريمة في إقليمها، وكان هناك قرار بشأن القبول بموجب المادة (18) أو المادة (19) وثانياً، فإن المدعي العام ملزم بإجراء كافة المشاورات الممكنة مع الدولة الطرف الموجه إليها الطلب قبل مباشرة إجراءاته.
وعلى الرغم من أهمية المحكمة، إلا أنها لا تمتلك سلطة تنفيذية لاعتقال المتهمين، وتعتمد على تعاون الدول الأعضاء لتنفيذ أوامر الاعتقال، ما يجعل مذكراتها قابلة للتنفيذ فقط في الدول الموقعة على نظام روما الأساسي.ويشار هنا ان إسرائيل ليست من الدول الأعضاء في المحكمة، ما يعقّد تنفيذ مذكرات الاعتقال بحق قادة إسرائيليين، كما أن معظم دول الشرق الأوسط ليست أعضاءً في المحكمة، ما يتيح لنتنياهو وغالانت التحرك بحرية نسبية في هذه الدول.
لقد أصدرت المحكمة منذ تأسيسها 59 مذكرة اعتقال، من بينها: مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مارس/اذار 2023، ومذكرات اعتقال بحق الزعيم الليبي معمر القذافي وابنه سيف الإسلام القذافي في العام 2011، وأيضا بحق الرئيس السوداني عمر البشير. ورغم ذلك، لا تزال العديد من الشخصيات طليقة بسبب غياب التعاون الدولي.
ثمة سيناريوهان امام نتنياهو، الأول الاعتقال أثناء السفر، في حال قرر السفر إلى دولة عضو في المحكمة الجنائية الدولية، فقد يُعتقل ويُسلم إلى المحكمة .واما استمرار الإفلات، ومن المرجح أن يبقى نتنياهو وغالانت طليقين، بسبب الحماية السياسية والدبلوماسية التي توفرها الدول غير الأعضاء.
ثمة تحديات كثيرة تواجهها المحكمة، فحتى في حال اعتقال نتنياهو، سيخضع لإجراءات قانونية طويلة ومعقدة داخل المحكمة، ما يجعل تنفيذ الأحكام أمرًا غير مضمون.، اذ ان مذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية خطوة رمزية في مواجهة الإفلات من العقاب، لكنها تواجه تحديات كبيرة بفعل المصالح السياسية والجغرافية.
ويبقى السؤال: هل يمكن للقانون الدولي أن ينتصر على النفوذ السياسي؟ أم إن العدالة ستظل مرتبطة بالحدود التي يرسمها النظام الدولي؟