العالم العربي وسؤال الحرية

بعد عقود من الهزائم والخيبات والكوارث والمرارات والانكسارات وانطفاء الثقة والخصومات بين العربي وأخيه لم يعد الحد الأدنى من الأمل بحزب البعث ممكنا.

يقول أحد الظرفاء "حكم حزب البعث بلدين عربيين جارين، كانا متخاصمين غير أن أحدا منهما لم يتخل عن شعار الحزب الثلاثي ’وحدة حرية إشتراكية‘. لم نر شيئا من الوحدة ولم تضربنا نسمة حرية ولم نتمتع بواحدة من نعم الإشتراكية". قبل سبعين سنة كان من الممكن أن توهم المواطن العربي أن وحدة العالم العربي قابلة للتطبيق وأن حرية الفرد ممكنة بعد أن ينعم النظام السياسي بالإستقرار ويتراجع خطر المؤامرات الخارجية وأن العدالة الاجتماعية التي تحققها الإشتراكية ستكون مضمونة ما أن يتم وضع اليد على ثروات الأغنياء ليكون للفقراء حق فيها.

بعد عقود من الهزائم والخيبات والكوارث والمرارات والإنكسارات وإنطفاء الثقة والخصومات بين العربي وأخيه لم يعد الحد الأدنى من الأمل ممكنا. لقد صارت وحدة العالم العربي فخا والإشتراكية وهما أما حرية الإنسان فقد تم طي صفحتها إلى وقت، صار المواطن العربي لا يرى من خلاله الضوء في نهاية النفق كما ردد غير زعيم عربي. لقد عمل الجميع بجهل أو دراية على تفخيخ الوحدة واستبعاد الإشتراكية واستعباد الحرية. فبات المواطن العربي عبارة عن كائن يحلم بالستر والسلامة وتأمين خبز يومه كفاف عيشه من غير أن يتطلع إلى غد، لا يقول فيه الهارب من بلاده "لقد نجوت".

"لا مستقبل لتلك البلاد" وتلك البلاد هي بلاده التي لم تبخل عليها الطبيعة بالخيرات ولم يكن انسانها المتعلم بأقل ذكاء وخبرة وكفاءة من سواه في العالم إضافة إلى أنها تملك تاريخا يضعها في المتاحف في المقدمة على مستوى بناء الدولة والتعددية العقائدية وتفوق العقل البشري في الإختراع العلمي والإنجاز الثقافي. العالم العربي هو مركز العالم القديم، فيه قامت أولى الحضارات وظهرت أولى الأديان ولولاه لتأخرت البشرية آلافا من السنين لتهتدي إلى حضارتها الحديثة. كل هذا صحيح. لكن المواطن العربي على حق حين يكشف عن يأسه من المستقبل. الجهلة وحدهم ما زالوا يراهنون على الماضي من غير أن يدركوا أن ذلك الماضي لم يعد لهم.

منذ أن تم زرع الكيان الصهيوني في أرض فلسطين والعالم العربي في حالة تدهور على جميع المستويات. لقد تم إهدار زمن طويل وثروات هائلة من أجل تحرير فلسطين لكي يتبين بعد سبعين سنة أن ذلك المسعى كان مجرد شعار إستهلاكي، بسببه تم إنهاء الوحدة العربية ومصادرة حرية الإنسان العربي حتى في بيته ورمي الإشتراكية في براميل النفايات باعتبارها بضاعة شيوعية. هل فتحت ثورات العسكر في مختلف أنحاء العربي بابا أمام الإنسان العربي ليتعرف من خلاله على إنسانيته؟ جمال عبدالناصر في مصر والبعثيون في العراق وسوريا ومعمر القذافي في ليبيا وعبدالله السلال في اليمن وجعفر النميري في السودان أصابوا الإنسان العربي بأمراضهم من غير أن يحرروه من واقعه الفقير الذي صار يلتفت إليه بعد سبعين سنة فيراه زمنا جميلا.

لم تتحرر فلسطين التي كان تحريرها غطاء لإنهاء التعددية الحزبية ومصادرة الحريات ومحاربة الأفراد في رزقهم. كلما طالبتَ بحرية الكلام والتعبير قيل لك إن ذلك يناقض الأمن القومي الذي هو صمام الأمان في مواجهة الأعداء. كلما صرحتَ بحاجة الوطن والمواطن إلى شيء من الهواء النقي ليتنفساه قيل لك إن القضية تحتاج إلى ذلك الهواء. لقد تم خنق الناس باسم فلسطين وفلسطين بريئة من كل ذلك. والدليل على ذلك تلك النهايات الكئيبة التي يعيشها سكان غزة بعد أن تمكنت إيران من حق الوصاية على القضية الفلسطينية ودفعت حركة حماس إلى جر غزة شعبها إلى مغامرتها.

لم أتعرف شخصيا على ميشيل عفلق وهو مؤسس حزب البعث العربي الإشتراكي غير أنني تعرفت على عدة أشخاص كانوا على صلة به وهم الذي أسروا لي كم كان الرجل نادما على الكذبة التي انتهى إليها حزبه وكم كان حزينا على ضياع فكرته في الوحدة والحرية والإشتراكية. يمكنني أن أصدق أن ذلك الشاب، خريج الجامعة الأميركية ببيروت كان قد أسس على الورق وطنا عربيا جميلا غير أن ذلك الوطن ظل سجين كتاباته بدليل أن حكومة البعث في سوريا وهي بلاده كانت قد حكمت عليه بالإعدام. حتى ميشيل عفلق وهو مخترع شعار "وحدة حرية إشتراكية" لم يكن حرا. وكان هناك الكثير من الشائعات عن إقامته الجبرية في بغداد.