ما الذي ينتظر أهل غزة؟
لا يملك أهل غزة سلطة القرار فيما يتعلق بمصيرهم. ما كانوا يملكون تلك السلطة أصلا. لقد عبثت بهم رياح الحرب. وها هي أخيرا تلقي بهم في العراء.
عراء أهل غزة ليس مجازا لغويا. حين عادوا إلى مدينتهم لم يجدوها. لقد اختفت. حتى ما تبقى من أطلالها لا يشير إلى أي نوع من الذكرى التي تستدعي التأمل.
"مَن مات قد مات"، تلك جملة جارحة يتم تداولها أما عن طريق الغفلة أو بقصد إشاعة النسيان، بحثا عن عمر مضاف للجريمة التي شقت غزة بالطول وبالعرض.
يتسلى الإعلام الموجه بوجبات المحررين من الجانبين كما لو أنه حدث غير مسبوق جاء تتويجا لانتصار الطرفين اللذين نظفا ساحة حربهما المجنونة.
كان التفكير باليوم التالي للحرب يوم كانت نيرانها مشتعلة قد انصب على مسألة مَن سيحكم غزة بعد اعتزال حركة حماس نشاطها السياسي ولم يكن ترامب قد ظهر في الصورة.
ولكن ترامب وقد أصبح "سيد العالم" وضع على الطاولة خطة تشبهه هي عبارة عن خريطة جديدة لا تمر بنفق السياسة الفلسطينية الداخلية. لم ير ترامب من الفلسطينيين إلا شعبا باحثا عن أرض تأويه.
وإذا ما كان ترامب قد بدأ بإفراغ الولايات المتحدة من المهاجرين غير الشرعيين واعادتهم إلى بلدانهم الأصلية فإنه قرر أن يستعمل التقنية نفسها في إفراغ غزة من مواطنيها وفرض هجرة جديدة عليهم.
"إسرائيل صغيرة" لم يقلها نتنياهو المطلوب إلى الجنائية الدولية بسبب عمليات الإبادة التي ارتكبها في غزة بل قالها زعيم الدولة التي قامت أصلا على إبادة سكانها الأصليين من أجل أن يتمدد نظام سوقها ليغزو العقول.
تتطلب خطة ترامب نقل شعب من أرضه كما لو أن الضيافة قد انتهت. ذلك إجراء مجنون يصعب انجازه. أما القبول به فهو نوع من مبايعة الجنون.
لا أحد ينتظر من حركة حماس أن تقول رأيها. ولكن ما رأي محور المقاومة الذي تتزعمه إيران وقد أظهر حماسة مبالغا فيها يوم قام السنوار بمغامرته التي لم تنته إلا بمقتله ومقتل القيادات العسكرية التي رافقته؟
لا أعتقد أن إيران ستكون معنية بالأمر. ما يهمها أن لا تظهر صورتها في الأحداث. أما حزب الله الذي أوكلت إليه مهمة تنفيذ أجندة وحدة الساحات المقاومة فقد اختفى وصار على اللبنانيين أن ينظفوا دولتهم من بقاياه.
رفضت مصر والاردن خطة ترامب في ترحيل أهل غزة إليهما. لن يسندهما أحد في العالم. ذلك لأن إعمار غزة هذه المرة سيتطلب أموالا هائلة لا يرغب في أن يقدمها أحد. لا خوفا من إسرائيل وهو أمر مؤكد بل وأيضا لأن الغرب لم يعد يثق بالفلسطينيين الذين طغت أصوات الانتصار بين صفوفهم على مشهد المأساة الذي انتهت إليه غزة.
لا يعني الرفض العربي لخطة ترامب أنها لن تجد طريقها إلى التنفيذ. ترامب شخص عملي وشيطانه يعمل على إيقاع واقعي. والواقع يقول حقائق عن غزة لا يمكن إنكارها. اليأس هو الحقيقة التي صار علينا أن نسمعها من أفواه العائدين إلى غزة. "ما من غزة التي غادرناها".
تصديق ذلك هو ما يضع الأمور في نصابها. حرب استمرت أكثر من سنة وثلاثة أشهر لا يمكن أن تترك حجرا على حجر. لا بيوت ولا شوارع ولا مستشفيات ولا مدارس ولا أسواق في غزة. غزة التي كان من الممكن أن تكون واحدا من أعظم المنتجعات في العالم بسبب موقعها الجغرافي هي اليوم أرض خراب حرثها بوم الشؤم بنعيقه.
ترامب هو بوم الشؤم.
الصوت العربي الرافض لخطته في تهجير أهل غزة لم يكن مناسبا، بل أنه كان خائفا. ولو استمعنا جيدا إلى خطابي الرئيس الكولومبي والرئيسة المكسيكية الرافضين لطريقة ترامب غير المتحضرة في التعامل مع مواطني الدولتين لاكتشفنا الفرق ما بين مَن يقدم حرية شعبه على مصالحه وبين مَن يقدم مصالحه على حرية شعبه. هل المساعدات الأميركية قيد عبودية في ظلها تتلاشى حرية الدول؟
خوف الدول العربية من أن يكون ترامب جادا في تنفيذ خطته ليس له ما يبرره. لا يعقل أن يهب العرب مساحة مضافة لإسرائيل لكي تكون أكبر مثلما يشاء ترامب في عصر صار الفرد العادي فيه يقول كلمته بحرية. من المعيب فعلا أن ينتظر العرب من ترامب أن يقرر مصير أهل غزة.