مَن المسئول عن التطور الدلالي للغة؟

الباحثون يرون أن تغير دلالات الألفاظ بمرور الزمن نتيجةً لعوامل مختلفة يرتبط بعوامل اجتماعية وثقافية، حيث يسهم الأدباء ومجامع اللغة في تشكيل الدلالات الجديدة، كما أن للصرف دورًا أساسيًا في تحديد المعاني وفقًا لبنية الكلمات.

ليس هناك شك في أن اللغة وعاء للأفكار، كما أنها صورة للهوية القومية للناس، وهي الوسيلة الأولى والأساسية للتعبير. وإذا كان الأدباء يقولون إن اللغة هي المادة الأساسية للأديب، فليس من شك في أن الأديب يعاني عددًا من المشكلات، أهمها الدلالة وتطورها، فاللفظ حين يعطي مدلولًا معينًا لا يظل هذا المدلول ثابتًا على مدار الأيام ومرور الزمان.
وأكد الناقد د. عبدالله سرور أن الكلمة في العصر الجاهلي تعطي مدلولًا يختلف عنه في العصر العباسي، كما أنهما يختلفان عن مدلول هذه الكلمة اليوم. هذه مشكلة، إضافة إلى أن محاولات التجديد في الأدب اليوم قد أكثرت من التركيز على ما يسمى بتفجير اللغة ومحاولة استخدامها في نواحٍ جديدة، وكل هذا دفع التطور الدلالي للغة إلى الأمام.
وقد أوضح الدكتور زين الخويسكي – أستاذ علم النحو واللغة في كلية التربية بجامعة الإسكندرية – في إحدى محاضراته أن علم اللغة الحديث حين يعرض لظاهرة لغوية، سواء كانت ممثلة بالشعر أو النثر، فإنه يعرضها من خلال أربعة مستويات هي: المستوى الصوتي، والمستوى النحوي، والمستوى الصرفي، والمستوى الدلالي. وركّز على المستوى الدلالي أو تطور الدلالة وما ظهر عن هذا التطور من مظاهر.
ويرى الخويسكي أن قضية المعنى هي أهم شيء بالنسبة للقصيدة أو للجملة النثرية أو لأي معنى ينجم عنه كلام، فالمهم إذن هو المعنى، المعنى المراد مما يقال. (اللفظة + الفكر)، أي أن نعرف معنى هذه الصيغة أو معنى هذه اللفظة من خلال الفكر. فنحن حين نفكر، فإننا لا نفكر بألفاظ، وإنما نتكلم ونفكر من خلال جمل، سواء كانت اسمية أو فعلية.
إذن، يجب أن نقف على جوانب الجملة، اللفظة ومعناها أو الصيغة ومعناها، فالألفاظ تتغير من آن إلى آن، ومن مرحلة إلى مرحلة، والكلمات كالكائن الحي تندثر أو تموت أو تحيا أو تعيش، هذا بالإضافة إلى دخول ألفاظ جديدة. فهناك إذن ألفاظ اندثرت وألفاظ ماتت، وألفاظ تغيرت دلالتها، أي نفس اللفظة، ولكنها تحمل معنى آخر في عصر آخر.
ولكي نقف على دلالة الألفاظ، لا بد أن نعي المقال والمقام، ولكل مقام مقال كما يقول المثل. فالمقام هو الركيزة الأولى التي تتصل بالجانب الوصفي للكلمة، أما المقال فيتصل بالجانب الوظيفي. والمقام حينما يقال فيه كلام، لا بد أن يكون مرتبطًا بمستويات اجتماعية أو بموقف معين أو بحالة معينة. ولكي نفهم المقام الذي قيل فيه هذا الكلام، فإننا نجد دليلًا على ذلك في الأحكام التي تصدر على الكلمات خارج سياقها، مثلما يحكم البعض على كلمة الحجاج بن يوسف الثقفي "أنا ابن جلا" دون معرفة سياقها، ولكن حين نعلم حقيقة الكلام، وأن عبدالملك بن مروان أرسله إلى العراق، فإننا نستحسن كلام الحجاج.
وفي مقام الكلام، ومن خلال الحديث عن المعنى والدلالة، نجد أن هناك علاقة قوية جدًا بين الكلام والصرف، وبين الدلالة والصوت، ولا يمكننا الفصل بينهما، فتدرج الصوت يؤثر تأثيرًا عميقًا في المعنى، مثل "السلام" و"يا سلام".
ويؤكد الخويسكي أن تطور الدلالة يكون خاضعًا لعاملين أساسيين، هما: الاستعمال، والحاجة إلى هذا الاستعمال. فمن العوامل التي أدت إلى تطور اللغة الاستعمال، ويدخل تحت الاستعمال: سوء الفهم، وبِلى الألفاظ، والابتذال.
وبالنسبة لسوء الفهم، فهناك العديد من الألفاظ التي يمكن أن يُساء فهمها، ومن ذلك ما نراه من سوء الفهم عند الأطفال، مثل اسم اللعبة التي يلعب بها، فأحيانًا يعطي الطفل اسمًا للعبة من عنده غير اسمها الحقيقي. وسوء الفهم موجود في كتب التراث وكتب اللغة، وقد نَوَّه عنه العرب القدامى.
أما بالنسبة لبِلى الألفاظ، فهو يرجع في أساسه إلى التقارب الصوتي للحروف، ونحن نعلم أن هناك تقاربًا بين السين والتاء مثلًا، مثل السغب والتغب، وقد يحدث العكس، فمثلًا كلمة "القمَّاش" في اللغة القديمة تعني أرذل الناس.
أما بالنسبة للابتذال، وهذه قضية مهمة بالنسبة للمعاني، فهي قضية غير محببة في اللغة، فالابتذال كل ما هو غير مقبول، وهناك عدة عوامل أدت إلى الابتذال، منها ما هو اجتماعي، ومنها ما هو عاطفي، ومنها ما هو سياسي، ومنها ما هو اقتصادي.
إن مظاهر تطور الدلالة تتبدى في عدة أمور، منها تخصيص الدلالة، ومنها رُقي الدلالة أو انحطاط الدلالة أو تعميم الدلالة. فبالنسبة لتخصيص الدلالة، نقول: شجرة، ثم شجرة البرتقال، ثم شجرة البرتقال في حديقتي، فتصبح أكثر تخصصًا. ويرجع تطور الدلالة للعصر ذاته ولاستخدام الكلمة.
ويرى الخويسكي أن الشعراء والأدباء ومجامع اللغة هم المسؤولون الأوَل عن تطور الدلالة، وأيضًا التأثير والتأثر والانفتاح على الثقافات المختلفة.
أما بالنسبة للدلالة وعلاقتها بالصرف، فإنه لا يمكن فهم الدلالة دون الرجوع إلى الصرف، فزيادة المبنى – كما نعرف – تؤدي إلى زيادة المعنى، مثل "نزل المطر"، و"أنزل المطر". إن الهمزة تؤدي إلى حوالي 27 معنى حينما تزداد على الكلمة، أما التضعيف فيؤدي إلى حوالي 21 معنى حينما يزداد على الكلمة... إلخ. إذن، هناك علاقة قوية جدًا بين الدلالة والصرف.