'مملكة الفحم' لسِنكلير نضال من أجل تحقيق العدالة والمُساواة للعمال

الرواية تحكي قصة شاب يتخفّى بين عمال المناجم في كولورادو ليختبر معاناتهم، فيكتشف استغلال الشركة لهم ويسعى لتنظيمهم في نقابة، لكنه يواجه قمعًا عنيفًا.

تدور أحداث رواية "مملكة الفحم" للكاتب الأميركي أبتون سِنكلير حول "هال وارنر"، وهو شاب من شرق الولايات المتحدة يقرر السفر تحت اسم مُستعار إلى معسكر الفحم في نورث فالي بولاية كولورادو؛ ليجرب حياةَ عمال المناجم ويعيشها بنفسه. يُصدَم "هال" من ظروف العمل المُروعة والمحفوفة بالمَخاطر، وساعات العمل الطويلة، والأجور الزهيدة.

كما يكتشف "هال" فساد شركة الفحم، ونظامها الجائر الذي يَستغل العمال، ويَقمع أي محاوَلات لتشكيل اتحادات عمالية تحمي حقوقهم وتخدم مصالحهم؛ ومن ثَم يسعى إلى تشكيل اتحادٍ نِقابي للعمال، ويُطالب بإتاحة ظروف أفضل لهم، إلا أن طلَبه يُقابَل بمعارَضة عنيفة من قِبَل الشركة والحكومة على حد سواء، وتصل هذه المعارضة إلى حد استخدام العُنف الشُّرطي والتهديد بالقتل. ولكن بالرغم من المَخاطر والهزائم، يواصل "هال" النضال من أجل تحقيق العدالة والمُساواة لعمَّال المناجم البائسين.

في مقدمته للرواية التي ترجمتها ياسمين العربي وصدرت عن مؤسسة هنداوي يؤكد الناقد جورج براندز أن سِنكلير يعد أحد الكتاب القليلين الذين خصصوا حياتهم للمطالبة بالعدالة الاجتماعية، والذين وضعوا فنهم أيضا في خدمة غرضٍ محدد. ولكونه صاحب حماس لا ينطفئ، لم يتراجع قطُّ عن تقديم التضحيات. وكان يحقِّق بين الحين والآخر نجاحاتٍ مادية كبيرة من اشتغاله بالكتابة، ولكنه دائما ما كان يستثمر أرباحه ويخسرها في المشروعات التي أمَلَ أن يدرأ، من خلالها، الظلمَ وأن يعزز سعادة الإنسان. وعلى الرغم من خيبة أمله المتكررة، لم يفقد الإيمان ولا الشجاعة للبدءِ من جديد.

ويضيف "بوصف سِنكلير اشتراكيا صميما ومُدافعا مُتحمسا عن المذاهب التي لا تحظى بشعبية، وكاشفًا للظروف الاجتماعية التي كان من الممكن أن تظلَّ مخفيَّة عن عامة الناس لولا ذلك، كان عادةً ما تهاجمه المجلات الأكثر تأثيرًا في بلاده. وعلى الرغم من كونه فقيرًا، وكونه لم يوافق قطُّ على تقديم تنازلاتٍ لناشِريه كي يحقِّقَ شهرةً واسعة، من خلال توفير طبعاتٍ عديدة، فقد قُدِّم، بنوايا مُغرِضة، بوَصفه عاطلًا راديكاليًّا ومليونيرًا اشتراكيًّا. واضطُر عدة مراتٍ إلى تغيير ناشِره، وهو ما يُثبت أنه لم يكن يبحث عن المكسب المادي.

ويرى براندز أن سِنكلير هو أحد أكثر الكُتَّاب المعاصرين الذين يستحقون اهتمامًا خاصًّا وتعاطفًا مُتفهِّمًا. إنه يُبرهِن على وطنيَّته الأميركية، ليس بالمشاركة في التغنِّي بنموذج الحرية المشروطة لدى الولايات المتحدة، ولكن من خلال الحَثِّ على إمدادها بإكسير الحياة المتمثِّل في الحرية الحقيقية؛ حرية الإنسانية والبشرية جَمعاء. إنه لا يقتصر على وصف واقعِ الحال وصفًا مجرَّدًا وممتعًا. ولكنه، في مناشداتِه لمواطني بلده بالتحلِّي بالأمانة وحُسن العِشرَة، يفتحُ أعينهم على الظروف المروِّعة التي يعيش فيها مئاتُ الآلاف من العبيدِ الأُجَرَاء. وكان هدفُه هو تحسين هذه الظروف غير الإنسانية، لكي يجدَ للمواطنين الأشدِّ فقرًا بَصيصًا من الضوء والسعادة، وليجعلهم أيضًا يعيشون الإحساسَ بدفءِ الرفاهية ويَهنَئُون بالراحة والسَّكينة، عندما يعلمون أنَّ في مقدورهم، هم أيضًا، أنْ يحظَوا بالعدالة.

ويقول إن سِنكلير نذر هذه المرة نفسَه لدراسة حياة عامِل المناجم في المناجم المنعَزِلة في جبال رُوكي، وبفضل عقلِه المرهَف المتحمِّس استطاع أن يقدم للعالَم نظيرا أمريكيا لرواية "جرمينال"، رائعة إميل زولا الفَنية. غير أنَّ الظروف الموصوفة في الكتابَين مختلفة اختلافًا جَوهريًّا. فبينما كان عمال زولا جميعهم مواطنين فرنسيين، نلتقي في كتاب سِنكلير بمجموعة متنوعة من المهاجرين الأوروبيين، الذين يتحدثون لغاتٍ مختلفة، ومن ثَم لا يتسنَّى لهم تشكيل نقابة من نوعٍ ما لحماية أنفسهم من استغلال الشركة المحدودة المجهولة الهوية. وعلى الرغم من هذا العائق الطبيعي أمام توحُّد العبيد المأجورين، تشعر الشركة أنها بعيدة كُلَّ البُعد عن الهدوء واستقرار الأمور، وتحرس مصالحها بحَيطةٍ وحَذرٍ ضد أيِّ محاولة لتنظيم العُمَّال في ائتلافٍ ما.

ويتابع براندز "يَبرُز شابٌّ أميركي من الطبقة العُليا، يُكِنُّ الكثيرَ من التعاطُف تجاه المضطهَدين، ولديه رغبةٌ صادقة في الحصول على معلوماتٍ من المضطهَدين أنفسهم عن ظروفهم من أجل مساعدتهم، ويقرِّر هذا الشاب الحصولَ على وظيفة في أحدِ المناجم تحت اسمٍ وَهمي، ويرتدي زيَّ العُمَّال. تُثير طريقتُه، غير المعتادة في محاولة الحصول على عملٍ، الشكوكَ. فيُعتقَد أنه زعيمُ إضراباتٍ محترِف أُرسِل لتنظيم عُمَّال المناجم في تشكيلٍ نقابي ضد مُستغلِيهم، ولم يقف الأمرُ عند عدم حصوله على عملٍ فحسب، بل تعرَّضَ للضرب المبرِّح بلا رحمة. وعندما ينجح أخيرًا في الدخول إلى معسكر الفحم، يَزيدُ من سخطه واستيائه اكتشافُ الطريقة الوَقِحة واللاإنسانية التي يُستغَل بها أولئك الذين يستخرجون الفحم الأسود".

ويلفت إلى أن هذه الأفكار لا تُعطي سوى فكرةٍ ضئيلة عن الأسلوب الفني المبدِع للمؤلِّف. ويظهر هذا الأسلوب في أبهى صُوَره في علاقة هال بفتاةٍ أيرلندية شابَّة، وهي ماري الصَّهباء. إنها فتاةٌ فقيرة، وحياتها اليومية قاسية وكئيبة، لكن جمالها المدهش من أبرز سِمات الكتاب. الانطباعُ الأول عن ماري أنَّها عذراءُ سِلتية ذات قلبٍ حنون تجاه الأطفال الصغار. تتطوَّر شخصيتُها لتُصبح الربَّة فالكيري للطبقة العاملة، فهي على استعدادٍ دائم للنضال من أجل حقوق العُمال. في الفصولِ الأخيرة من الكتاب، يُقدِّم المؤلِّف وصفًا لثورة عُمَّال المناجم ضد الشركة. إنهم يُصرُّون على إثبات حقِّهم في اختيار مندوبٍ لمراقبة عملية وزن الفحم الذي يستخرجونه، ويُصرُّون أيضًا على رشِّ المناجم بانتظامٍ لمنع انفجارها. كما يطالبون بأن تكون لهم الحرية في شراء طعامهم وأدواتهم من حيث يشاءون، حتى وإن كان من المتاجر غير التابعة للشركة.

يشرح سِنكلير، بنهاية الرواية تحت عنوان "تعقيب"، الحقائقَ الأساسية التي بنى عليها روايته. ولكن حتى من دون هذا التعقيب، لا يسعُ المرءَ إلا أن يشعر بقناعةٍ تامة بأنَّ الظروف الاجتماعية التي يَصِفها تتوافق مع واقع الحياة. الفكرة الأساسية هي أن سِنكلير لم يسمح لنفسه بأن يسترشِد بالعبارات المتداوَلة التي تقول إنَّ العبودية والظلم وغيرهما من الشرور والجرائم التي كانت ترتكبها الممالكُ قد قُضِيَ عليها في الجمهوريات، بل يشير بجدية إلى الأساس الخَرِب الذي قامت عليه أعظمُ القُوى الاقتصادية الحديثة. أساسُ هذه القوة ليس الجرانيت، بل المناجم. إنها تعيش وتتنفَّس في النور؛ لأنَّ لديها آلافَ البائسين الذين يكدحون في الظلام. إنها تعيشُ وتتمتع بكيانها بحريةٍ وخُيَلاء؛ لأنَّ الآلافَ يُستعبَدون من أجلها، وعبوديتُهم هي ثمنُ هذه الحرية. هذا هو الانطباعُ الذي تهدف هذه الرواية المثيرة أن تُوصِّله إلى القارئ.