سردية رومانسية ناعمة بطعم المنفى في "ياسمين"

رواية خالد موافي تجربة حية لا تفتقر إلى  الرمزية، يجتاز الراوي خلالها الغرض الأساسي من مزج الماضي بالحاضر جامعا بين طرفي نقيض: الشرق والغرب.
صابر وياسمين يلتقيان في الغربة المختارة أو المفروضة عليهما، ولدى كل منهما أمل في الخلاص من مشكلاته وفي بناء حياة جديدة
مثال أو رمز دال على واحدة من قصص أبناء الجيل الثاني في الغرب هؤلاء الذين يعانون فعلا إزدوجية طاحنة

لم أشعر بالقلق ينتابني بسبب التملك والاستحواذ الذي شغل ثلاثة أرباع رواية "ياسمين" للكاتب - المصري الأصل - السويدي الجنسية - خالد موافي والصادرة  في طبعتها الثانية عن دار الحضارة العربية للنشر بالقاهرة العام 2019 ، إلا في الثلث الأخير منها، فالرواية على خلاف ما فعل الكاتب الكبير بهاء طاهر في روايته "الحب في المنفي"، تبدو كتجربة حية لا تفتقر إلى  الرمزية، يجتاز الراوي خلالها الغرض الأساسي من مزج الماضي بالحاضر جامعا بين طرفي نقيض: الشرق والغرب، الحب والعاصفة المتقدة بالأحقاد التي مهما توارت لفترة سرعان ما تلبث أن تظهر مجددا في حياته أو حيواتنا جميعا، بما يصاحبها من غرور وجشع وفجور في المجتمعات التي صرنا جزءا منها.
 بوسعك عزيزي القارئ أن تطالع أجزاء من هذه الوقائع والمشاهد التي يجيد الأوروبيون إخفاءها عن بقية البشر الذين يعيشون في عالمهم المتظاهر بالرقي الحضاري والأخلاقي في إطار دولة القانون والرفاهية، حيث تنكسر إرادة الأفراد ويتعرضون للاضطهاد والتمييز من كل لون ونوع، فنشتاق إلى تحقيق السلام الذي وعدت، والحياة الكريمة التي بشرت بها التكنولوجيا الجبارة.

الرياح رغم جبروتها وقسوتها تصل بالسفينة إلى بر الأمان بعد عدد من الأحداث القوية في نهايتها. فماذا فقد الركاب، وهل حقا أن هذه النهاية تروقهم أم أنها اختيارات القدر

بطل هذه الرواية الدكتور صابر شاب مصري طموح يصل إلى الهناك ليصبح ألمانياً، ويتزوج وينجب ويستقر ويحفر لنفسه مكانا وعملا، ومع الأيام تصير موهبته أسطورة تتحرك. تعززها قدراته الخلاقه واعتراف الآخرين بها، إلا أنها تحرك أيضا ما وغر في الصدور من أحقاد قديمة مطمورة تحت ذلك السطح القانوني الأملس، عندئذ تتحول حياته الهادئة المطمئنة إلى أثر بعد عين، فزوجته التي كان يظن أنها أقرب الناس إليه تغار من نجاحه الذي حققه في بلادها والثروة التي حاز عليها، وهي العاطلة من المواهب غير قادرة على التعاطي مع أخلاقيات كانت تدعيها في الماضي، ههنا يبدأ الصراع القانوني المسعور بهدف واحد لا غير وهو تجريد صابر النابغة من الثروة وتركعيه، لكن أولاده لازالوا في سن صغيرة، كما أن ثروته ربما تشمل حتي أملاك العائلة في مصر البعيدة بحجة أنه يخفي مدخراته التي هي حقها وحق أولادها منه، فيتحول الدكتور صابر إلي إنسان خائر القوى، مستنفذ العزيمة، يبحث عن الخطأ الذي اقترفه وهو يدير معركته مع أم أولاده الألمانية التي اكتشفت بلا سبب واضح أو مبرر موضوعي أن زوجها أقل من ناحية العرق، فهي كائن أبيض مسيطر متأثر بالنزعة العنصرية الجديدة – القديمة، تؤمن بتفوقها العرقي علي كل شعوب الدنيا، سواء كان ذلك حقيقيا أو مصطنعا.
ينحو الكاتب خالد موافي في هذه السردية الرومانسية الناعمة منحى دراميا آخر، أو لنقل إنه مهد لذلك من قبل في عجالة درامية شديدة الخصوصية والخصوبة، عندما يختار له القدر "ياسمين" الفتاة المولودة في ألمانيا ذات الأصول العراقية، فتاة عربية الجوهر والمسلك لم تؤثر فيها الغربة القهرية والرحيل، تسلك ياسمين خطا موازيا في رحلة إثبات الذات دون أن تفرط في هويتها، وكأنها تستشرف المستقبل المتوقع حينما تنشب الحروب ويحل الخراب في بلدها الأصلي، ولا يكون أمامها غير أن تسعى لجمع باقي العائلة من العراق ليكونوا مهاجرين أو لاجئين. لكن المهاجر لا يأخذ معه الإرث الثقافي فقط، بل يحمل كذلك الخلافات العشائرية والفروق الطبقية في وطنه والتي لاتزال سببا في ألوان شتي من التعاسة والشقاء. 
يلتقي صابر وياسمين في تلك الغربة المختارة أو المفروضة عليهما، ولدى كل منهما أمل في الخلاص من مشكلاته وفي بناء حياة جديدة. فكيف يمكنهما تجاوز كل الرؤوس المتأرجحة بين عالمين: عالم غربي مرعب، وآخر شرقي يزايد على الخراب عاما بعد عام، حتى أنه عاد نحو ألف عام للوراء. 

رواية رومانسية
النهايات المفتوحة 

توقف خالد موافي عند لحظة الصدمة أو الحقيقة والسؤال عما يمكن أن يحققه الفرد - أي فرد - بالعقل والإيمان بذاته في ظل ظروف معقولة نسبيا من الأمان النفسي والاجتماعي، وكأنه يلقي بيانه السياسي في هذه القصة دون أن يشعر القارئ بها، فها هي فكرة عمالة السخرة والهيمنة التي كنا نسمع عنها في الأزمنة الغابرة تتحقق حينما يكون أطرافها عربا أو مسلمين، وها هي الأيدلوجيات العنصرية لا تزال تجد صداها لدي المجتمعات الأوروبية الحديثة، وسوف نلاحظ ذلك عند متابعة الصحف ووسائل الإعلام بوجهها المتحفز والمتحيز بحيث إنها تجرح الآخرين وتؤذي مشاعرهم إما بالترويج المتعصب ضدهم أو عبر احتقار ثقافتهم، والعمل ضدهم في بلادهم الأصلية، بل والنيل منهم حينما يحضرون إليه موهومين بأن الفرص ستكون متكافئة وأن الفوز سيكون للموهبة المتفردة. 
أما الفكرة المحورية التي تغلف رواية خالد موافي "ياسمين" فهي مشكلة أو بالأحرى أزمة الجيل الثاني والثالث من أبناء المهاجرين في أوروبا ومدى علاقتهم بمجتمعاتهم الأم، وذلك عبر قصة رومانسية ذات بنية سردية سلسة وجذابة، تتناول مسألة اختلاف المذاهب بين المسلمين، واختلاف الثقافات والجنسيات الذي جعل الإطار الغربي يصبح حاضنة لا بد منها، وهو إطار عام ذو سمات مادية تزيد من تعقيد الحياة، ولئن كانت نهايته سعيدة لكي تعطينا بعض الأمل في هذا العصر، فالأعالي التي ينشدها المؤلف؛ تنتهي بما يشبه النهايات المفتوحة والتي حاول أن يقربها إلى النهايات السعيدة، وإن لم يقل ذلك صراحة، فالرياح رغم جبروتها وقسوتها تصل بالسفينة إلى بر الأمان بعد عدد من الأحداث القوية في نهايتها. فماذا فقد الركاب، وهل حقا أن هذه النهاية تروقهم أم أنها اختيارات القدر / المؤلف التي لا سبيل إلى إجراء التعديل عليها أو التوافق معها؟
"صابر وياسمين"، إذن هما مثال أو رمز دال على واحدة من قصص أبناء الجيل الثاني في الغرب هؤلاء الذين يعانون فعلا إزدوجية طاحنة صنعتها ظروف وأحداث ومشكلات تخرج من بطون التاريخ، بعضها يخالف توقعاتنا السطحية والبعض الآخر يسقط في الفخ. وهذه قصة أخرى ربما لم تكتب بعد.