آري بابان والتدفق التلقائي للمشاعر

عمر عبيد المعروف بآري بابان أحد رواد الفن التشكيلي في كردستان العراق يرحل عن الحياة بعد رحلة طويلة من الابداع وخبرة جمالية خلصته من التقليد وجعلته يغرد خارج سرب الأطر المألوفة وينطلق بخياله في عوالم الإكتشاف والإبتكار.
طريق آري بابان يشبه كثيراً طريق الروائي غابرييل غارثيا ماركيز الذي تكلل بواقعية سحرية

لماذا الجميلون يتركون المكان مبكراً، ففي الأمس القريب ذهب الشاعر والملحن والفنان محمد علي شاكر أحد أهم الموسيقيين الكورد، وفيما بعد وبأيام معدودة يلتحق به مسرعاً الفنان عمر عبيد المعروف ب آري بابان ( 1953-2020 ) أحد رواد الفن التشكيلي في كردستان العراق، أتساءل لماذا يختار الرب الشجرة المثمرة ليقتلعها، هل هي الأقرب لروحه فيلتقطها، أم أنه يدرك بأن تربتها لم تعد صالحة لها، فلا بد من تربة جديدة حتى تستمر هذه الشجرة بالإنتاج، تربة قد تكون من نور وضوء وروح، فيرجعها إلى أصولها، إلى تقاربها الزماني والمكاني، و كأنه يلعب دوراً مهماً في عمليات الترابط هذه، فميوله الأخلاقية تقوم على أساس مبادئ خاصة بالتعاطف والإنفعالات الموجهة نحو الآخرين، وقد يكون في ذلك ما تفضله السماء في رسم لوحاتها الزاهية الملونة التي تقوم على ظلال تلك الأشجار وثمارها حتى تدهش الآلهة وتخرجهم من عروشهم المنطوية إلى الإنبساط  والنشاط، فالمتغيرات السياقية تلعب دوراً مهماً في الإنصياع للمعايير الجمالية الفنية لحدوث فعلي الخلق والتذوق.
إذا عرفنا أن المعرض الفردي الأول لبابان كان في عام 1972، ورحيله في 26-12-2020 فإنه رحلته في قطار الفن تمتد لستين عاماً تقريباً، وهي رحلة طويلة ترسم علاقة شخصيته الفنية بفنه، أو شخصيته الإبداعية بإبداعه، الرحلة التي تحتوي أعماله وما تحمله من دوافع وإنفعالات وصور وقيم، الرحلة التي ستحرر القوى الحيوية لديه من خيال وتأمل مع حضور خبرة جمالية تخلصه من الأطر المألوفة، وبالتالي تهرب به هروباً مؤقتاً من قبضة النحن إلى قبضة الأنا الشعوري / الواعي.

وصول الى البهجة الإنفعالية عبر ثلاثية الخيال واللون والضوء
وصول الى البهجة الإنفعالية عبر ثلاثية الخيال واللون والضوء

 وقد يسقطه هذا في العزلة أو في الوحدة بين الذات والعالم، وهذا شعور يذهب به إلى الطفولة المبكرة ومعايشة ما ينبغي العودة إليها، بمعنى آخر البحث عن الشرط المبكر للجمال، فالتدفق التلقائي للمشاعر هنا يحضر بقوة وإن كان هذا التدفق نجده بكثافة في الشعر ولدى الشعراء، هذا يجعلني أقول بثقة أن لوحات بابان كانت قصائد باللون والخط، لكثرة ما فيها من تدفقات عميقة، مع أهمية التكامل والتفاعل الحميم بين جوانبها المختلفة.
كان لا بد لبابان أن ينأى بنفسه عن التقليد كي يرى العالم بوضوح من جهة ومن جهة كي ينطلق بخياله في عوالم الإكتشاف والإبتكار، فيوسع من هامش التلقائية لديه ضمن أُطر تخصه هو، فيترك زمام التعبير لخبرته وهي تحاول إطلاق الإنفعالات، ساعياً إلى إزالة كل أشكال الإنفصال بين الذات والموضوع حتى يتمكن القيام ببداية جديدة تكون هي خارطة طريقه، وهو من القلائل الذين اهتدوا على هذا الطريق والذي يشبه كثيراً طريق الروائي الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز ( 1927-2014 ) في الأدب، الطريق الذي تكلل بواقعية سحرية حملته إلى جائزة نوبل وكذلك إلى وضع صورته على العملة الورقية لبلاده.
 فهذه الواقعية هي التي عزف عليها بابان لسنوات طويلة وأبدع فيها وتمايز أيضاً، وقد يعود إليه الفضل في فتح هذا الطريق لبعض الأسماء الشابة لاحقاً، فغرق بابان في الأسطورة مستلهماً منها حكايات تكاد تسيطر على مساره التشكيلي، وترسخ طريقه وتدعم نظريته في الإبداع، وتبرز خصوصيته المجنحة، وتكسبها القيمة الجمالية المتحققة من اللعب بالخيال مع اللون والضوء حتى يصل ونحن معه إلى تلك البهجة الإنفعالية 

رحلته في قطار الفن تمتد لستين سنة
رحلته في قطار الفن تمتد لستين سنة

كم هي رائعة و جميلة أمنيات الفنان الحقيقي فلنقرأ آري بابان وهو يخط لنا حلمه :"كم أتمنى أن يكون الفن جزءاً أساسياً من ثقافة المجتمع، وأن أرى لوحات الفنانين الكرد في المستشفيات والمقاهي والأماكن العامة، و في المتاحف الكردية .. " هذه الأمنية التي بقيت تلازم آري بابان ( كركوك 1953 ) أحد رواد الفن التشكيلي في كردستان العراق تكاد تكون أمنية الفنانين على إمتداد ولاداتهم، أمنية لو تحققت لأعطتنا سوية المجتمع وهويته، ولبينت لنا على أي باب نقف، وأن فتح هذا الباب سيضعنا أمام مرآة تعكس قاماتنا، بحضارتها التي تنطق تاريخاً بمظهره الحسي، وحكاياتها التي تروى بطابع موضوعي في ضوء تصورات شاملة، وقد يحدث أن نكتشف أنفسنا بعقول متأملة تضج بالجمال وبملكتها الحسية الخاصة، فبتحقيق هذه الأمنية سيجعلنا ندرك الدرج الذي نقف عليه.
 وليس إعتباطاً حين قيل تقاس الأمم بمبدعيها، فلماذا لا نطلق سراح المبدعين في رسم تاريخنا الحاضر والذي سيكون قنديلاً للقادم، و لماذا لا نجعل الفن قُوْتَنا وقوُّتنا في جذب الحياة و بناء إنساننا، فحلم بابان ليس صعباً، كما هو ليس سهلاً، ليس صعباً فالأمر يحتاج إلى إلتفاتة تستحقها مع الإهتمام به كأي جانب آخر، وليس سهلاً طالما كان السياسي يرتعد من فك خطواته .
والجدير بالذكر أن آري بابان من أبناء كركوك، و درسفي جامعة المستنصرية / كلية الآداب - قسم المكتبات والمعلومات متخرجاً منها عام 1976، ليشغل لسنوات طويلة منصب مدير المكتبة العامة في السليمانية، ولعل الحريق الذي إندلع في بيته عام 2008 أفقدته ما يقارب مائة لوحة أكلتها ألسنة النيران، هل سيلتفت القائمون على الشأن الثقافي في كردستان العراق لجمع ما تبقى ما إرث هذا الفنان الذي أصر أن يغادرنا تاركاً لنا عطراً فنياً يكفينا أن نغسل أرواحنا بها لسنوات طويلة، وليس لي غير أقول : المبدعون لا يموتون بل يولدون.