أعراض سياسية لداء "كورونا" - 2

يمكن أن تعزز آثار قرارات العزل الإجباري للمناطق دور الحكومات الإقليمية والمجالس المحلية بما يزيد من نزعة اللامركزية.

يوما بعد يوم تكشف الأنباء الواردة من مختلف بقاع الأرض عن آثار جديدة لانتشار فيروس كورونا المتجدد، المعروف باسم "كوفيد – 19"، مما يعطي حافزا لتتبع هذه الآثار والاستقصاء عن نتائجها المحتملة على الحياة والتي تتجاوز إحصاءات أعداد المصابين والوفيات التي تغص بها اليوم نشرات الأخبار.

وقد تناولنا في مقال آخر بعض الآثار السياسية الجانبية للداء، والتي تعرضت لها بعض الدول والحكومات في مختلف البلاد، وكذلك بعض الظواهر السياسية التي ارتبطت بانتشار المرض أو الخوف منه، لنكمل هنا الحديث في نفس السياق، تنبيها للمتابعين وإعانة للدارسين والباحثين.

فلئن وجدنا سابقا مظاهر للعجز السياسي الدولي لبعض الدول التي تفشى فيها المرض، فإننا نشهد اليوم بوادر شلل محلي يصيب بعض الحكومات ويكاد يعطل أو يوقف النشاط السياسي فيها، ليتحول ثقلها واهتمامها بشكل شبه كامل تجاه القطاع الطبي الذي لا يحوز عادة هذه الدرجة من الاهتمامات الحكومية.

فقد بدأت بعض الحكومات بتعطيل أجزاء من نظامها السياسي والإداري تماما، لتوقفه عن العمل مؤقتا إلى حين انقشاع غمامة الخوف، كما هو حاصل في إيران التي أوقفت نشاطات برلمانها الجديد بعد أنباء عن إصابة العشرات من أعضاء بالمرض، ومخاوف من انتشاره إليهم إلى المزيد من مسؤولي البلاد الذين أصيب عدد منهم به خلال الأسابيع الماضية، وكذلك فإن سير الأمور في العراق يبدو أنها ستتجه بهذا الاتجاه رغم الأزمة السياسية التي تمر بها البلاد اليوم، بعد استقالة رئيس وزرائها عادل عبدالمهدي والعجز عن تحقيق توافق بخصوص مرشح جديد لشغل المنصب الشاغر حاليا، ما يعني مزيدا من التعطل في بغداد بتعطل عملي الجهازين التنفيذي والتشريعي في الدولة هناك.

ونجد أن الحكومات بدأت تتوقف عن تقديم بعض الخدمات تجنبا لأي اجتماعات كبيرة قد تسبب انتشار الوباء، فإغلاق المدارس والجامعات بدأ يتصاعد في مختلف البلدان، وإغلاق السجون بدأ في بلد واحد حاليا هو إيران ولا يستبعد أن يتخذ إجراء مماثل في بلدان أخرى خلال الأيام القادمة بحسب درجة انتشار المرض فيها، في الوقت الذي يبدأ الحديث عن إغلاق كل الدوائر الحكومية وتوقفها عن استقبال المراجعين وإمضاء معاملات المواطنين في العراق قريبا.

هذا التعطل المؤقت لعمل الحكومات إن استمر طويلا بشكل مترافق مع حالة الإغلاق والعزل للمدن والمناطق عن بعضها البعض من شأنه أن يقوي منهج اللامركزية في الإدارة الحكومية، بحيث تقوم المجالس والحكومات المحلية بدور أكبر في إدارة المناطق التي تحكمها وتتلقى على ذلك الدعم من الحكومات المركزية.

وفي الوقت نفسه الذي تتوقف فيه قطاعات حكومية كبيرة عن العمل، فإن أحمالا إضافية توضع على كواهل الحكومات، بسبب حالات الإغلاق الكبيرة للمؤسسات الخاصة التي تقدم الجزء الأكبر من الخدمات للسكان، وذلك بسبب الحاجة لضغط النفقات في ظل الخسائر الكبيرة التي تتعرض قطاعات الاقتصاد المختلفة، وهكذا تجد الحكومات أنفسها ملزمة بالنزول إلى الشارع من جديد لتوفير السلع والخدمات الأساسية للناس، وذلك في جو من تراجع واردات الخزينة سببه خسائر دافعي الضرائب وحالة العزل الدولية التي ستضعف بشكل كبير عائدات الجمارك والتأشيرات والإقامات وغيرها من الرسوم الحكومية المفروضة على حركتي التجارة والسفر الدوليين.

ومن جانب آخر فإن حالة الخوف من الوباء من شأنها أن تجمد أو تبطئ نوعا ما الحراك السياسي في مختلف البلدان، فالحكومات كما ذكرنا تمر بحالة عصيبة لتأمين النجاح في مكافحة انتشار المرض في بلدانها، وتأمين الموارد والخطط اللازمة لتحقيق ذلك، ولكن في نفس الوقت فإن أصوات المعارضات تخفت في الأوقات العصيبة، حيث يتجه الشعور العام للناس نحو التضامن والتعاون لإنقاذ البلاد من محنتها والوقوف صفا واحدا ضد العدو المشترك أو لتحقيق الهدف المشترك، حتى يصبح أي صوت خارج هذا "الكورال" نشازا، وأي محاولة لاستغلال الوضع الصعب للحكومات للطعن فيها جبنا وانتهازية وربما يتصاعد إلى موقف الخيانة في بعض الأوقات.

ويضاف إلى ذلك أن الحراك السياسي يقوم على العمل الجماعي الموجه لتحقيق هدف معين، وحالة العزل الجبري المفروضة على الناس في بعض الأماكن -كما رأينا في حالة ووهان بالصين- تعيق كثيرا حشد الناس لتحقيق الهدف، خاصة مع ابتعاد الناس عن التجمعات السياسية والدينية وغيرها تجنبا للعدوى، وهذا ما تسعى الحكومات وأنصارها إلى تعزيزه لإضعاف الموقف المعارض لها وتفتيته، كما هو حاصل من الدعوات لفض التظاهرات في العراق والتي اتجهت إلى منحى التحذير من تفشي الأمراض بعد أن فشل أصحابها سابقا في محاولات أخرى اكتست بثوب التحذير من تفتت البلاد أو تدمير الاقتصاد أو إشتعال العنف، وغيرها من الدعوات التي لم يلق لها المتظاهرون بالا طوال الشهور الماضية.

ولو بقينا في مسألة التجمعات السياسية أيضا فإن مسألة تقييدها سيؤثر على الانتخابات القادمة في كثير من البلدان، حيث يعتمد المرشحون على إبراز شعبيتهم وقوة جمهورهم من خلال حشد الأعداد الأكبر من الناس في تجمعاتهم الانتخابية التي يلقون فيها كلماتهم الحماسية ووعودهم لما يأملون تحقيقه بعد انتخابهم، ومع تصاعد المخاوف من كورونا فإن مسألة السماح بها قد تصبح محل شك، ما يعني إمكانية التمديد لبعض الرؤساء والحكومات في ظل حالة الطوارئ، وحتى مع السماح بها من قبل الدول فإن حضور الناس لها بالزخم الموجود سابقا قد تضعف احتمالاته، ما يترك آثارا سلبية على الحملات الدعائية للمرشحين، ويقيد نشاطاتهم بوسائل الإعلام وخاصة ما يتعلق منها بشبكة الإنترنت.

بل لا نستبعد في ظل الرهاب الحاصل الآن من عدوى "كوفيد – 19" أن تعتبر مراكز الانتخاب نفسها مصدر خطر لنشر المرض عند بعض الناس، وبالتالي عزوفهم عن الدخول إليها للمشاركة في انتخاب المرشحين، ما سيترك أثرا على نسبة المشاركة في الانتخابات بشكل كامل أو جزئي، بحيث تقل نسبة المشاركة في بعض المناطق من الدولة والتي تكثر فيها الإصابات بالمرض وترتفع فيها المخاوف من انتشاره بسبب ذلك، وهذا ما قد يؤثر على نتائج الانتخابات بشكل جزئي، خاصة وأن المرشحين يتقاسمون غالبا النفوذ في المناطق المختلفة، ولذلك وجدنا المرشح غانتس يتهم منافسه نتنياهو بتعمد إثارة الرعب من كورونا بين سكان مدينة جفعاتايم لصدهم عن المشاركة في الانتخابات، وبالتالي إضعاف نتائج منافسيه كونه لا يملك شعبية كبيرة بين سكان هذه المدينة.

وهكذا فإنه وبالرغم من الضغوط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يفرضها "كوفيد – 19" على الحكومات في البلدان التي تفشى فيها، فإن آثاره يبدو أنها تساعد على تقوية مواقف الحكومات القائمة أكثر من مواقف معارضيها، مع عدم استبعاد احتمالات زعزعة للاستقرار بسبب الضغط الاقتصادي والمعاشي الكبير المسلط على الناس والذي ربما لا يحتملون آثاره لفترة طويلة، كما تتجه الأمور إلى حالة حكومات الطوارئ تهدف إلى تطويق الأزمات وتجاوزها أكثر من كونها حكومات طبيعية تمارس دورها بما يحقق رضى الجماهير عنها.

ويمكن أن تعزز آثار قرارات العزل الإجباري للمناطق دور الحكومات الإقليمية والمجالس المحلية بما يزيد من نزعة اللامركزية في الإدارة الحكومية.