أعمال برهان صالح تضع أسس مفاهيم جمالية جديدة

الفنان التشكيلي برهان صالح لا يحتمي بالجاهز من الصور وإستعاراتها ولا يكتفي باللجوء إلى مفردات لها دلالة واحدة ويتجنب الواقع كما يتجنب التجريد ويتجنب كذلك عزل الصورة الإنسانية داخل إطار ما.

منذ زمن ليس بالقليل وأنا أحاول الإقتراب من أعمال الفنان التشكيلي برهان صالح (1956 كركوك)، فكلما عزمت الرحيل إليها وحملت نفسي وقلمي ليكونا جواز سفري للعوم في فضاءاتها وجدت بعد ساعات من الإبحار أني وقلمي مازالا صامتين في محرابها، وأنا الذي اعتدت الغوص بشبكة ناعمة جزئياً وأعود بلآلئ وكنوز ثمينة في كل محاولة من محاولاتي.
 فعالم برهان صالح وعلى نحو أخص في السنوات الأخيرة مكتظ بمعالجات تتخطى مفاهيم العلاقة ما بين الألوان المضاءة بطموحات هي أقرب إلى السعي نحو نمط ما من التفكير باللحظة الحاسمة وما بين تلمس معالم التراث وإدراك تحولاتها.
 فبرهان صالح يدفع بجذور ماضيه نحو السطح تحمل رؤيته كإنسان باحث عن نفسه أولاً وعن تلك الأشياء التي تفقد مسوغ حضورها ثانياً وعن مسافات مرّ بوعي في الذاكرة المفقودة منذ إقترابه من حركات تشبه الممارسات الطقوسية التي تجري في حفلات المريدين الدينية ثالثاً فيطرح صالح تساؤلات روحية قلقة تكاد تكون ملخصاً لإجابة كبيرة ربما كان يبحث عنها منذ سعيه لبلوغ الزمن ومعرفة لحظة اللقاء الذي يوقظ الماضي لديه بآفاق مختلفة، ملخصاً لإجابة ترتبط بالضرورة بإستخداماته الجمالية التي هي أشبه بأشرطة موسيقية.

 برهان صالح يدفع بجذور ماضيه نحو السطح
برهان صالح يدفع بجذور ماضيه نحو السطح

 ويتحوّل العمل لديه إلى ما يشبه دوائر حلزونية تحدد ملامح المرحلة، فهو يتجنب الواقع كما يتجنب التجريد وكذلك يتجنب عزل الصورة الإنسانية داخل إطار ما، فهذا التوجه شبه الواعي يأخذ منحى ذي دلالات تعبيرية، ولعل إستخدامه رقصة المولوية كتعبير عن إدراك مفهومي لشيء حسي يحقق به فعل الفن كنشاط إنساني مستمداً أنموذجه من فلسفة التباينات اللونية متخطياً السماء التاسعة في التحليق دون أي تجاهل لمحور دوائره وهي تبرز لتضم مختلف النطاقات بما فيها الأكثر صفاء، فالحركة العذبة التي يخلقونها في التواصل مع السموات تلك وجعلها قريبة من تلك الشظايا للحقيقة المتفجرة هنا والعميقة هناك بإيحاءاتها المتداخلة وكأنها مساحات متموجة ذات إيماءات فيها الكثير من الإختزالات التعبيرية.

لإكتشاف آفاق فردوسية
لإكتشاف آفاق فردوسية

 فبرهان صالح يتناول خطوط مفرطة في الأبعاد لإكتشاف آفاق فردوسية عبر وضع أسس لمفاهيم جمالية جديدة تنطلق من تولّد إنفعالات جديدة فيجعل ألوانه تتدرج بالكثافة الموضوعة على القماش، فليس هناك مواد غريبة كما لم يكن همه الوصول إلى إستعارات رمزية ولا التعرف على الإختلاف في المرئيات بل الإنطلاق برؤى تلامس اللاوعي، تلامس تلك الأحاسيس المنطلقة من معطيات خاصة فيقبض عليها في فضاءاته كلها ثم يحررها لاحقاً للتناغم مع الإدراك البصري مع الإستعانة بالسعي لإكتشاف حركة ذي مسار ملائم لعالمه اللامرئي متمسكاً في الغالب بالحالة الحاملة للقيمة الفنية والروحية معاً.

العمل لديه يتحول إلى ما يشبه دوائر حلزونية
العمل لديه يتحول إلى ما يشبه دوائر حلزونية

والمرجح أن برهان صالح كان على قدر كبير من وعي وهو يبتدع مجازاته التي تحتمي برموز لا تخفق في حضورها، بل تدرك ما تحمله من طاقات تقوده نحو إبتداع دلالاتها التي تكاد تعصف بكل ما يدفع بنصه/ منتجه نحو دروب أقلها تلك التي تفي بحاجتها الجمالية، فالناظر في طرائقه التي يعمد فيها باللجوء إلى الأساطير في توزيع مقاطعه الجمالية يشعر بأنه يقف معها على حواف موغلة في الزمن، أو لنقل في خيوطه التي تشد الماضي بجاذبية، وبرؤية تحتفي بها وهي تروي حكاياه المقدسة، أقول الناظر هنا يتلبس الحال الذي ينشده صالح نظاماً من داخل الفوضى نفسها لا تمجيداً للحياة فحسب بل ما يسمو عليها بإعلانه عن حقائق ما، لا تسليماً بالوصول المستمد نوره من عتبات في رحابها يتقاطع الواقع مع اللاواقع، الواقع مع الخيال، محتفلاً بشعريتها، وبإحياء بعدها الأسطوري على الأرض ملتحفاً بالغياب وبجوانب صامتة لامرئية.

 يطرح تساؤلات روحية قلقة
يطرح تساؤلات روحية قلقة

وهذه من أكثر المظاهر استحضاراً في مكوناته من قاعها لسطحها كعمليات فيها تتجلى الإشارات لأشكال لا تعجز في الإرتقاء، ولا في الحرص على التكثيف الدلالي كمصابيح في رسم مشاهده وهي تتوسع في المكان بماهيتها وبما شحن بأسلوبه الذي يوفر من الدهشة عويلها، ومن الإستغراب نبرته، ومن الصور حركتها وما لا يزحزح إحتماءها بلحظات الإستدعاء للمدرك ودلالاته الذاتية، وباللامدرك وأبعاده التي ستنكشف بدورها على القياس والتقريب، على القياس الذي غايته التقريب، تقريب سيرورة تلغي المسافات وفواصلها بين النفس في شهيقه وزفيره، بينها وبين العدم في صمته وسكونه حتى تبدو أغنية تنفذ إلى المجهول فينا، في حضرة الخلق والخالق .

أعماله تطرح رؤيته كإنسان
أعماله تطرح رؤيته كإنسان

إن النظر في نص برهان صالح بوصفه خطاب جمالي ويمتثل لمقرراته سيكشف لنا عن ذلك الهدير الذي ينتجه، الهدير الذي لا سبيل إلى التخلي عنه، فهو يسهم إلى حد كبير في إيجاد حاجاته من إندفاعات لرؤى تنحدر من رؤيته ذاتها التي تهفو إلى بلوغ سبل تحفل بلحظات إنفعالية وبكل محاولاته في خلق مبنى ملائم لنصه والإعتناء بها، ملائم لإحتضان مجمل تصوراته التي يشتغل عليها من تعميق وتطوير.

  الواقع يتقاطع مع الخيال
الواقع يتقاطع مع الخيال

فتصبح الإطلالة على مناطق أشد عتمة وخفاءة، على زمن يبنيه بإتساع رؤيته تلك حتى تمتثل لحظة المكاشفة في حضرته كخالق، مهما كانت المرفقات ترمي بإستعصاءاتها ومهما تكتمت عن أسرارها، فهو لا يحتمي بالجاهز من الصور وإستعاراتها، ولا يكتفي باللجوء إلى مفردات لها دلالة واحدة بل يبتني قائمة من دفقات دلالية لها طاقتها في إنتشال خطابه من أزقة ضيقة، أو من دوائر لولبية، وإخراجها إلى الساحات المفتوحة ربما ذلك وحده يفي بحاجته الجمالية التي ينشدها.
 ولا إستحالة في ذلك فهو فنان مجتهد له كل الرغبة، بل كل الفعل في تأسيس دائرته الفنية والإرتقاء بها مستنهضاً المتلقي لمناصرتها .