"أمام العرش" رؤية نجيب محفوظ التنبؤية

كتاب يصعب توصيفه، فلا هو بالرواية، ولا هو بالقصص القصيرة، ولا هو بالمسرحية، ولا هو حتى مجموعة من المقالات.                                                                                          
نصوص روائية استلهمت أحداث التاريخ وشخصياته، واختزلت في صيغتها النصية الزمان والمكان
العلاقة بين الرواية والتاريخ ستبقى دائما علاقة جدلية بامتياز

"عندما يغتصب الحاكم حقوق شعبه يخلق منه خصما".
سعد زغلول في "أمام العرش" ص 205.
العلاقة بين الرواية والتاريخ ستبقى دائما علاقة جدلية بامتياز، تحكمها رؤية ثنائية تكمن في طبيعة المنبع وما يرفده من حقائق وثوابت تاريخية موثقّة، وشكل المصب وصيغته الحاكمة في احتواء حقائق التاريخ وثوابته في نسق سردي فني روائي يحقق الأسئلة الجدلية للرواية بأبعادها المختلفة، خاصة وأن حقل السرديات في حداثته الآنية، حقق في هذا المجال إعادة لصياغات روائية تعانق فيها منطق التاريخ مع رؤية ونسق السرد الروائي، في آلية أخذت وحققت من أحداث التاريخ خطوطها العريضة، ومن الفن الروائي الصيغة، والنسق، والشكل السردي، ومن ثم خرجت إلى الوجود نصوص روائية استلهمت أحداث التاريخ وشخصياته، واختزلت في صيغتها النصية الزمان والمكان واللحظات التاريخية المحققة والثابتة في آفاق الخيال المنتهي من الذاكرة، وتكاد أسئلة الرواية وأسئلة التاريخ في بعض الأحيان تتطابقان في العديد من الرؤى الحاكمة لآليات استخدام التاريخ في السرد الروائي أو استخدام الرواية في عرض التاريخ، أو ما يسمى في هذه الحالة بـ (روينة) التاريخ أو (ترخنة) الرواية إن صح هذا التعبير. ولعل أقرب مثال على ذلك هو عالم نجيب محفوظ الروائي الذي بدأ تاريخيا في نصوصه الأولى ثم ما لبث أن تحّول إلى مناطق أخرى من السرد الروائي الحديث، إلا أن التاريخ في كثير من الأحيان كان يلح على هاجس الرؤية عند نجيب محفوظ، لذا نجده بعد أكثر من أربعين عاما من بداياته التاريخية الأولى يعود إلى نفس النسق السياق التاريخى مرة أخرى ليصوغ منه رؤية جديدة، ويستعيد من خلاله وجها آخر من وجوه التعبير السردي المولع هو به، والمحقق عنده نزوعه إلى عصر الفراعنة العظيم يستلهم منه أجواء الحياة العصرية في شكلها وجوهرها ما كان يعبر عنه الفراعنة من رؤى للحياة، من فلسفة حياتهم رؤية للحياة المعاصرة بكل سراديبها ومستويات العلاقات فيها، فكان نص "أمام العرش" الذي حاكم فيه نجيب محفوظ فراعنة مصر وبعض الشخصيات من أفراد الشعب، وزعماء ورؤساء مصر السابقين حتى نهاية عصر السادات، ثم رواية "العائش في الحقيقة" والذي جسّد فيها شخصية إخناتون ووحدانية الإله أتون. 

novel
أسئلة النص

ويعد نص "أمام العرش" كما يشير بعض النقاد حول بنيته الفنية، نصا يستعصى على التوصيف والتصنيف: "هو كتاب يصعب توصيفه، فلا هو بالرواية، ولا هو بالقصص القصيرة، ولا هو بالمسرحية، ولا هو حتى مجموعة من المقالات". (1) وعليه فإن هذا النص بالشكل الذي خرج به كان جملة اعتراضية في مسيرة نجيب محفوظ الروائية أراد بها أن يقول شيئا ما في هذه المرحلة التي أعقبت حادث المنصة واغتيال الرئيس السادات، فلم تكن هذه المحاكمات التي أخذت الشكل الحواري في بعض مراحلها بالشيء العفوي في تشكّلها، بل هي شيء أشبه بتوجيه متعمد وحاكم لدفع دفة السفينة المصرية المترنحة أو دفة الحكم تجاه المسار الذي من أجله قامت ثورات الشعب المصري على مر العصور، لذلك كانت هناك زوايا حادة عديدة أوجدها نجيب محفوظ خلال هذه المحاكمات أوضحت رؤيته الخاصة تجاه ما عاشه هو، وما عاشته مصر، خلال سنين ثورة عام 1952، مما أثار لديه كوامن مختزنة رأى أن وقت خروجها قد حان في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ مصر، ولعل رحيل السادات بهذه الطريقة المأسوية كان دافعا لتفجّر هذه الخطابات السياسية المستمرة والملحة عند نجيب محفوظ، أراد بها أن يحقق من هذه اللحظات الفارقة من عمر مصر، خطابا يرفد من داخله طبيعة المرحلة التالية بأن يستعرض تاريخ مصر من خلال محاكمات رموز الحياة المصرية على مدار الزمن القديم والحديث مستخدما البنية التحتية للتاريخ، ولهذه الموتيفات المتواترة في محاكمة كل شخصية من شخصيات الملوك والزعماء وهي متلفعة بكفنها، وكأنه يدلل في هذه الخصوصية على إشكالية مهمة، وهي عبثية الحياة والموت، ومختزلا لواقع حياة كل شخصية مكثفا أعمالها، ومقيّما لطبيعة هذه الأعمال، ومختتما محاكمة كل ملك وزعيم وشخصية برؤية الإلهة إيزيس حول الشخصية، ثم يصدر حكم الإله أوزوريس فيما إن كانت الشخصية ستجلس مع الخالدين أم مع الأسفلين أم يتركها لمحكمة عقيدتها بعد ذلك.
     وهل كان هذا الكتاب هو رؤية تنبؤية بأن محاكمة الرؤساء هو شيء مطلوب دائما للوقوف على طبيعة الشعب المصري في المطالبة بالعدالة والحرية، وكأن نجيب محفوظ كان يريد بهذه الرؤية التنبؤية أن يقول إنه يجب استئصال الفساد المتجذر داخل نفوس السلطة بأن قام هو بمحاكمة عدد كبير من الملوك والرؤساء القدامى منذ مينا وحتى السادات، وكأنه كان يقول للشعب بأن هذه المحاكمات مهمة بل هى ضرورية لكل خارج عن الصواب في استخدام السلطة، لذا سبق نجيب محفوظ ما حدث بعد ثورتي 25 يناير و30 يونيو بمحاكمة السلطة المصرية القديمة منذ مينا وحتى الآن، وكأنه فتح الباب على مصراعيه بهذه المحاكمات التي تمت على الورق. ليقوم الشعب بعد ذلك باستكمال محاكمة رؤسائه الذين يسيئون إليه فكانت ثورة 25 يناير على حسني مبارك وثورة 30 يونيو على حكم الأخوان الذين سرقوا الثورة بعد ذلك ونسبوها لأنفسهم. 
وكان أمام العرش يقف كل فرعون ورئيس ليقول ما فعله للشعب ويحدد رؤيته أيا كانت في حكمه. وقد بدأ نجيب محفوظ الرؤية منذ الفراعنة حتى يستعرض في محاكماته كل أنواع الأحكام التي كانت تتم على مر التاريخ حتى الآن.
صدر هذا النص عام 1983 وهو نفس العام الذي صدر فيه نص "رحلة ابن فطومة". في هذين النصين احتفى نجيب محفوظ بعالمين مختلفين تماما في بنية نصية جديدة مغايرة، حاول فيهما أن يجرّب رؤيتين مختلفتين لنسق الرواية من خلال رحلة أسطورية وهمية متخيّلة لابن فطومة، في رواية "رحلة ابن فطومة"، ورؤية نصية حوارية أخرى مثيرة للجدل والتساؤل في نص "أمام العرش"، وهو نص جاء على شكل حوارات، أو ما سماه هو في عتبته الأولى "حوار مع رجال مصر من مينا حتى أنور السادات"، كتب نجيب محفوظ هذا النص بعد اغتيال السادات مباشرة من خلال رؤيته الخاصة المتفقة مع هذه الحادثة، والتي تفتق عنها بعد ذلك نص آخر هو رواية "يوم قتل الزعيم" وذلك بعد عامين من صدور "أمام العرش"، ولعل رؤية نجيب محفوظ في هذا النص، خاصة بعد هذه الأحداث التي شهدتها مصر، وما شاهده هو أثناء ثورة يوليو 52 وعزل الملك فاروق عن حكم مصر، ووقوف الشعب بجانب الجيش في ذلك الوقت، وما حدث بعدها من ممارسات على أرض الواقع اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا بحيث انعكست هذه الممارسات جميعها على شكل الحياة المصرية خلال تلك الفترة من عام 52 وحتى 81، ولأن هذه الفترة اتسمت بتغييرات جذرية شملت كل أوجه الحياة في مصر وما حولها، ولما كانت الحاجة ماسة لتبصرة أولى الأمر بما مرت به مصر خلال عقودها السابقة، بل وأيضا منذ آلاف السنين بدءًا من توحيد القطرين على يد مينا وحتى كتابة هذا النص، فقد اشتغل نجيب محفوظ على هذا النص مستخدما الوثيقة التاريخية بكل أبعادها، حقائقها وشخوصها، وما حملته الحياة في مصر من عهود ازدهار واضمحلال وثورات، وعمل من خلال هذا النص الملتبس الذي يحمل في شكله الفني ملامح القص وملامح الوثيقة التاريخية المباشرة: "إن هذا الشكل القصصي هو حوار دائم عبر العصور، يتمثل فيه الحكام وفتراتهم المختلفة، وما أرادوه وما أنجزوه، فيتضح السجل الحافل بالصراعات وتتجسد مسيرة التاريخ الوطني التي لا تتوقف، ولهذا فإن العرض القصصي هو عرض للوقائع والأحداث، وهو ومضات سريعة عن نفوس الحكام المتوارية زمن الحكم بألف خدعة وبهرجة، فنراهم أمامنا وقد تعروا من ملابسهم الديكورية التاريخية، فمنهم الذي اندفع للبناء وتعمير الأرض وخدمة الوطن والدفاع عنه ضد الغزاة ومن كرس الوطن وخيراته لذاته". (2) 
وكان لا بد من محاكمة خاصة للحكام أمام محكمة التاريخ من خلال بعد سياسي، وهي سمة كان يتمتع بها نجيب محفوظ حين اضطلع بمهمة تعرية الواقع السياسي والاجتماعي في معظم ما كتب من إبداع روائي وقصصي سابق على صدور هذا النص، ولكنه في هذا النص أراد أن يحاكم في رؤية مباشرة رموز الحكم في التاريخ المصري المعاصر من خلال استدعاء رموز العصور الفرعونية القديمة منذ عهد مينا وحتى بسامتيك آخر فراعنة مصر، ثم وضع بعض الشخصيات التاريخية النمطية الشعبية الأخرى والقريبة من السلطة على المحك أيضا تحت طائلة قانون المحاكمة ثم محاكمة رؤساء مصر السابقين حتى نهاية عصر الرئيس السادات الذي اغتيل في أكتوبر/تشرين الأول 1981، ولعل الحنين إلى التاريخ والكتابة عن التاريخ الفرعوني على وجه التحديد كان لا يزال يراوح ويراود نجيب محفوظ ويرفد هاجسه الذاتي بين الحين والآخر حتى كتب هذا النص الملتبس في شكله والذي جاء على شكل حوارات. 

novel
دلالات وتأويلات 

إلا أن هذا النص بما يثيره من جدل ورؤى تتفق أو تختلف مع رؤية نجيب محفوظ نفسه، حول ما جاء به من حوارات وآراء على لسان الملوك والحكام ما جعل الفكر السياسي عند نجيب محفوظ وكأنه فكر تنبئي فيما كانت فيه مصر خلال تاريخها الطويل، وما هي عليه الآن من أمور وأحوال، وما يجب أن تكون عليه في المستقبل القريب والبعيد، لذا نراه يعرض كل هذه الرؤى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والتحليلات الدائرة حولها والمستلهمة من آراء التاريخ والساسة والثوار الذين تجمعوا أمام محكمة التاريخ في حقبهم التاريخية المختلفة، في هذا النص وكأنه يستلهم من هذا الواقع رؤية تنبؤية للمستقبل، ولما كان هذا النص قد صدر عام 1983 فكأنه كان يبعث برسالة مباشرة إلى الشعب المصري وحاكمه الجديد الذي جاء بعد اغتيال الرئيس السادات في حادث المنصة المعروف، فكأنه كان يقول لهم جميعا من خلال هذه الحوارات وهذه المحاكمات ما يجب أن تكون عليه آليات الحكم ورسم السياسة في هذا البلد الذى عمّر أكثر من سبعة آلاف عام ومرت عليه كل هذه الخطوب والثورات والحكام خلال تلك الفترة، كأنه كان يحذره من مغبة الوقوع فيما وقع فيه غيره من المفسدين الذين يحاكمهم التاريخ الآن، كان يبعث له فى هذا النص برسالة خطية نصية يقول له فيها كل الآراء التي جاءت على لسان الملوك والحكام وأفراد الشعب الواقفين أمام العرش، ولعل ذكاء نجيب محفوظ وعفويته في التعبير عن الرؤية السياسية الحامل لها نص "أمام العرش" أنه جعل الحكام والساسة الذين رضي عنهم التاريخ يشاركون في محاكمة غيرهم من المفسدين، كل منهم يفنّد مزاعم حكمه بمزاياه ومساوئه ويسقطها على محاكمة من جاء بعده من الملوك والحكام، ولعل محاكمة عبدالناصر والسادات التي جاءت آخر المحاكمات كانت هي التى وضع فيها نجيب محفوظ الرؤية الصافية الضافية في شأن محاكمة الحكام الذين تتابعوا على حكم مصر، ففي محاكمة جمال عبدالناصر تحدث كل من الملك رمسيس الثاني، والملك مينا والملك الشاب الثائر أبنوم، وتحتمس الثالث وسعد زغلول ومصطفى النحاس، ولعل النقد الذي وجهه مصطفى النحاس إلى جمال عبدالناصر حين قال جمال عبدالناصر: "الديمقراطية الحقيقية كانت تعني عندي تحرير المصري من الاستعمار والاستغلال والفقر"، ولأن نجيب محفوظ كان وفديا لذا فإن رأيه عن حكم عبدالناصر فنده في مقولة مصطفى النحاس أحد أقطاب الوفد حين رد على مقولة عبدالناصر: "وأغفلت الحرية وحقوق الإنسان، ولا أنكر أنك كنت أمانا للفقراء، ولكنك كنت وبالا على أهل الرأي والمثقفين وهم طليعة أبناء الأمة، أنهلت عليهم اعتقالا وسجنا وشنقا وقتلا حتى أذللت كرامتهم وأهنت إنسانيتهم ومحقت إيجابيتهم وخربت بناء شخصياتهم والله وحده يعلم متى يعاد بناؤها، أولئك الذين جعلت منهم ثورة 1919 أهل المبادرة والإبداع في شتى المناشط السياسية والاقتصادية والثقافية، بل أفسد الاستبداد عليك أجمل قراراتك، انظر كيف فسد التعليم، وتفسخ القطاع العام، وكيف قادك التحدي للقوى العالمية إلى الهزائم المخجلة والخسائر الفادحة، لم تفد من الرأي الآخر ولم تتعظ بتجربة محمد علي، وماذا كانت النتيجة؟ دوي وجلجلة وأساطير فارغة تقوم على تل من الضرائب".(3).
ولعل هذه المقولة كانت بمثابة رؤية نجيب محفوظ في رسالته الخاصة ككاتب ومفكّر وروائي له فلسفته الخاصة في التعبير عن واقع الحياة أرسلها إلى حاكم مصر الجديد الذي جاء بعد السادات مباشرة والذي أولاه الشعب أمانة الحكم لهذا البلد، كما كانت كل الآراء السابقة الذي حواه النص موجها جميعها إلى الحاكم الجديد حتى تكون أمامه وهو قادم إلى حكم مصر في مرحلة ما بعد الاغتيال، ولعل هذا النص أيضا ينسحب على كل حاكم يفد إلى هذا البلد ليحكمها فيما بعد، فما قاله نجيب محفوظ في هذا النص ربما يكون دستورا خاصا رأى أنه يمكن أن يساهم في الترويج لحاكم ديموقراطي عادل له من الشفافية والحب لبلده ما يجعلها في مصاف الأمم الكبرى.
شكل نجيب محفوظ محكمته الخاصة من نفر قليل من آلهة الفراعنة، الآلهة إيزيس وابنها الإله حورس ورأسها كبير الآلهة أوزوريس، موظفا في ذلك التراث الأسطوري الفرعوني القديم في شأن تشكيل هذه المحكمة واضطلع تحوت كاتب الآلهة والذي أطلق عليه بعد ذلك بالكاتب المصري القديم والرامزة جلسته إلى عالم الكتابة والكتب، اضطلع هذا الإله بكتابة وقائع الجلسات والأحكام الناجمة عنها: "انعقدت المحكمة بكامل هيئتها المقدسة في قاعة العدل بجدرانها العالية المنقوشة بالرموز الإلهية وسقفها المذهب تسبح في سمائه أحلام البشر. أوزوريس في الصدر على عرشه الذهبي، على يمينه إيزيس على عرشها، وإلى يساره حورس على عرشه، وعلى مبعدة يسيرة من قدميه تربع تحوت كاتب الآلهة مسندا ساقية المشتبكتين الكتاب الجامع، وعلى جانبي القاعة صفت الكراسي المكسوة بقشرة من الذهب الخالص تنتظر من سيكتب لهم الخلاص من القادمين". (4) . 
لقد كان اختيار هذه المحكمة وتشكيلها بحسب ما جاء في الأساطير الفرعونية القديمة ترميزا خاصا مستمدا من أسطورة أوزوريس إله الخير، وتأكيدا على فلسفة نجيب محفوظ الخاصة في التعبير عن رؤاه الفلسفية والسياسية والاجتماعية في هذه الأمور الشديدة الحساسية.
وبقدر ما كان نجيب محفوظ قاسيا في محاكمته للملوك والرؤساء الذين امتلأت صفحات حكمهم بالقسوة والفساد واللامبالاة بقدر ما كان رحيما وذكيا في أحكامه القضائية على الصالحين منهم، فهو في هذه الرسالة التي وجهها إلى حكام مصر الجدد بعد السادات من خلال هذا النص كان: "في مجمل أحكامه أكثر ميلا إلى الإنصاف أو إعطاء العذر، كما نراه منصفا عطوفا حنونا، أميل إلى المسامحة والغفران، كما نراه مقدرا للجهود التي بذلت، وللمصاعب التي واكبت كل واحد من هؤلاء، ولكنه مع ذلك لا يبخل على كل واحد منهم بالنقد الذي يستحقه، وبمقارعة حججه وبخاصة إذا ما كانت ظاهرة البطلان، فإذا ما وصلنا إلى الحكم النهائي فإننا نجده يقدّر أغلبية الحكاّم ولكنه ينحي على بعضهم باللائمة ويضع البعض الآخر في موضع التافهين الذين لا يستحقون الرحمة ولا يستحقون العذاب أيضا". (5)

novel

بل إن المناخ الليبرالي في ذلك الوقت كان صالحا للإفصاح عن رؤاه السياسية الخاصة بطريقة النقد والترميز وتعرية المواقف التي قد يراها قابلة للإفصاح والإعلان عنها، لذا فقد بدأ في الاتكاء على ملامح الثورة في شتى مناحي الحياة في مصر وكانت المحاكمات تفجّر وتفصح عن ملامح الثورة في زمان ومكان في مصر الثورة والحياة والإنسان.
كانت ملامح الثورة في نص "أمام العرش" واضحة جلية فى العديد من الوقفات التي جسدها نجيب محفوظ في نسيج المحاكمات، فبعد محاكمات الفراعنة فندت المحكمة حكم الفرس والثورات التي قامت ضدهم، ثم حكم الإسكندر ومن جاء بعده من الحكام الإغريق، ثم حكم الرومان الذين أذاقوا المصريين ويلات الظلم والقهر والعبودية والثورات التي كانت تعترض هذه العصور، حتى دخول العرب مصر: "وفي عهد الحاكم الروماني نيرون دخلت المسيحية مصر فأقبل فريق من المصريين يغيرون دينهم، ولم يكن دينا نابعا في مصر كما حدث على عهد إخناتون ولكنه كان واردا من الخارج، وغلب الزهد على معتنقي الدين الجديد فاعتصم كثيرون منهم بكهوف الصحراء فرارا من ظلم الحكام وفساد الدنيا، وقد قاومت الحكومة الرومانية الدين الجديد وانهالت بحرابها على معتنقيه حتى عرف عصر الإمبراطور دقلديانوس بعصر الشهداء، وفي عصر تيودوسيس حتم الإمبراطور اعتناق المسيحية على رعاياه فكان للديانة القديمة شهداؤها كذلك ولكن الأغلبية اعتنقت المسيحية، واستقلوا فيها بمذهب خاص بهم، وامتزجت الروح الدينية بالروح الوطنية وعملا معا على الثورة والاستقلال فتعرضوا لمذابح وعذابات لا حصر لها. واتخذ الصراع صورة معركة دينية بين الكنيسة المصرية وكنيسة الدولة الرومانية، واستمر النزاع مصحوبا بأشد أنواع الاضطهاد.(6). 
وكانت محاكمة المقوقس عظيم القبط هي أول تلك المحاكمات بعد هذه النقلة النوعية فى سرد مظالم المحكومين المصريين حتى حصل على شهادة تزكية من الإله أوزوريس علها تنفعه أمام محكمته الدينية. كما كانت ثورة الشاب "أبنوم" وهي أول ثورة في تاريخ مصر قادتها الجماهير الغاضبة ضد حكام حكموا البلاد عهودا طويلة امتدت بين سقوط الدولة القديمة وقيام الدولة الوسطى، وكانت هذه العصور مليئة بالظلم والقهر ونهب الثروات والذكريات المرعبة, وقاد شباب الثورة في ذلك الوقت الثورة ضد الحكام الطغاة: "وأقام الفلاحون حكومة من أبنائهم، حكمت البلاد فاستتب الأمن وانتشر العدل وامتد ظل الرحمة، شبع الفقراء وتلقوا العلوم والمعرفة وتولوا أكبر المناصب، قامت دولة لا تقل في عظمتها عن دولة الملك خوفو، ولكنها لم تبدد المال في بناء الأهرامات ولا في الحروب، وأنفقته في النهوض بالزراعة والصناعة والفنون وتجديد القرى والمدن، ولما رجعت مصر بعدنا إلى عصر الملوك أحرقوا وثائق البردي المسجلة لأعمالنا" (7). 
وقد أوضح نجيب محفوظ رؤيته حول أسباب انتكاسات الثورة وذلك في معرض هذه الثورة الشعبية الشبابية القديمة الذي قال فيها إن المحافظة على الثورة هو أمر لا يقل أهمية عن قيامها والدفاع عنها لذلك عندما سأل الملك زوسر الشاب الثائر "أبنوم": "لماذا تقوضت مملكتكم؟ أجابه: تقوّضت عندما نسي الحكام أصلهم الذي نبتوا فيه وتوهموا من جديد أنهم منحدرون من صلب رع فأصابهم الكبر وتسلل إليهم الظلم فحاق بهم ما حاق بكل ظالم". (8).
ولعل الفصل الأخير من النص كان هو القول الفصل في هذه السياحة التاريخية المصرية فقد اختزل فيه الكاتب رؤيته الذاتية التي وضع فيها خلاصة رسالته الموجهة إلى الحكام الذين سوف يأتون بعد السادات لتكون هذه الرؤية نبراسا، وآلية خاصة يعملون بها، ومن خلالها لرفعة الوطن وتقدم أبنائه، لذلك وضع نجيب محفوظ هذه الرؤية في المقطع الأخير من النص وفي العتبات الأخيرة على لسان ملوك مصر وزعمائها الذين انضموا إلى ساحة الخالدين بما حققوه من أعمال ومنجزات رأى نجيب محفوظ أنها ترقى إلى مستوى الأعمال الوطنية، مما وضعهم في مصاف الأبطال الذين يستحقون التخليد، لذلك دعاهم أوزوريس ليعرض كل منهم رؤيته تجاه المستقبل حتى تكون أمام الشعب وأمام التاريخ وهي رؤية تتجلى فيها دعائم الأيمان، والثورة، والوحدة الوطنية، والعمل الجاد، والإيمان بقيمة وقوة الشعب، وإرادته في صنع المستقبل، والنزوع الدائم نحو الديموقراطية، والعدالة الاجتماعية، وأن يكون هدفها الحضارة والسلام: "قلب أوزوريس عينيه في الخالدين وقال:
-    ها هي حياة مصر قد عرضت عليكم بكل أفراحها وأحزانها، مذ وحدها مينا وحتى استردت استقلالها على يد السادات، فلعل لبعضكم رؤية يريد أن ينوه بها؟ (9). 

novel

كانت هذه الواجهة المحققة والحاكمة لرؤية الكاتب في نسيج النص وما تطرحه أسئلة النص من دلالات وتأويلات فرضها واقع ما يحتويه من بؤر عميقة، وحفر مليئة بالسلطة والمتخيل القديم والحديث من خلال حوارات الشخصيات التاريخية في نسيج ما تطلقه المحاكمات، ولا بد من الإشارة إلى أن رؤية نجيب محفوظ السياسية النابعة من تداخله في دهاليز السياسة والتاريخ، وأحكام الحاملة معها دلالات الواقع الآني وإسقاطه التاريخ على ما يحدث الآن على أرض الواقع، فقد اختزل في هذا الجزء الأخير رؤيته التي حملها كل الملوك والزعماء والرؤساء في حق وطنهم وما كانوا يرمون إليه في أعمالهم الخالدة على مر التاريخ، من هنا دعا أوزوريس رئيس محكمة الآلهة كل شخصية من شخصيات الخالدين إلى أن يجسد كل منهم رؤيته تجاه واقع وطنه، ولعل هاجس هذه الرؤية هي إطلالة من الكاتب ذاته على واقع الوطن وما يتمناه له من خلال ما سبق أن جسد بعض مفاسده في روايات سابقة "الثلاثية"، "ثرثرة فوق النيل"، "الكرنك"، وغيرها حينئذ: "طلب الملك أخناتون الكلمة ثم قال:
-    أدعو للاستمساك بعبادة الإله الواحد باعتباره المعنى والخلود والتحرر من أي عبودية أرضية.
     وقال الملك مينا:
-    والحرص على وحدة الأرض والشعب، فالنكسة لا تجئ إلا نتيجة لخلل يصيب هذه الوحدة.
     وقال الملك خوفو:
-    على مصر أن تؤمن بالعمل، به شيدت الهرم، وبه تواصل البناء.
     وقال أمحتب وزير الملك زوسر:
-    وأن تؤمن بالعلم فهو القوة وراء خلودها.
     وقال الحكيم بتاح حتب:
-    وأن تؤمن بالحكمة والأدب لتنعم بنضارة الحضارة وتنهل من رحيقها.
     وقال أبنوم:
-    وأن تؤمن بالشعب والثورة لتطرد مسيرتها نحو الكمال.
     وقال الملك تحتمس الثالث:
-    وأن تؤمن بالقوة التي لا تتحقق حتى تلتحم بجيرانها.
     وقال سعد زغلول:
-    وأن يكون الحكم فيها من الشعب بالشعب من أجل الشعب.
     وقال جمال عبدالناصر:
-    وأن تقوم العلاقات بين الناس على أساس من العدالة الاجتماعية المطلقة.
     وقال أنور السادات:
-    وأن يكون هدفها الحضارة والسلام.
      وهنا قالت إيزيس:
-    ليضرع كل منكم إلى إلهه أن يهب أهل مصر الحكمة والقوة لتبقى على الزمان منارة للهدى والجمال. 
      فبسط الجميع أكفهم واستغرقوا في الدعاء. (10)
بهذه المقولات التي ختم بها نجيب محفوظ كتابه "أمام العرش" حول رؤية كل حاكم بما كان يجب أن تكون فيه الحالة في مصر والتي ختمتها إيزيس بهذه المقولة الرائعة بأن يهب الله أهل مصر الحكمة والقوة لتبقى دائما على مر الزمان منارة للهدى والجمال. وكأن هذا الدعاء الفرعوني القديم والذي ابتدعه نجيب محفوظ في نهاية كتابه قد ألهب حماس جماهير الشباب في مصر فكانت ثورتا 25 يناير و30 يناير هي الفيصل في ترتيب أحوال الناس في مصر رغم التحديات التي كانت تقابلهم في هذه الآونة. 
ولعل نجيب محفوظ في قبره الآن وهو يرى ما حدث في مصر قد أحس بالصواب والثواب، حينما أصدر كتابه الرائع "أمام العرش" والذي يمثل كما ذكرت جملة اعتراضية في مسيرته الروائية التي كللت بجائزة نوبل عام 1988. وها هو الشعب المصري يجنى ثمرة ثورته بالبناء والعمل في كافة المجالات وحينما تكلل هذه الجهود بالنجاح ويجني الشعب ثمرتها سيكون كتاب نجيب محفوظ "أمام العرش" قد حقق كثيرا مما كان يريده من هذا الكتاب الذي حاكم فيه الكاتب زعماء مصر منذ مينا وحتى الآن.
الهوامش
01 عالم نجيب محفوظ من خلال رواياته، د . رشيد العناني، كتاب الهلال، القاهرة، 1988 ص 82.
02 نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية، عبدالله خليفة، الدار العربية للعلوم- ناشرون/ منشورات الاختلاف، بيروت/الجزائر، 2007 ص 164.
03 أمام العرش (حوار مع رجال مصر من مينا حتى أنور السادات)، نجيب محفوظ، دار مصر للطباعة، القاهرة، 1983 ص 196/197.
04 المصدر السابق ص 5.
05 في ظلال السياسة.. نجيب محفوظ الروائي بين المثالية والواقع، د . محمد الجوادي، دار جهاد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2002 ص 19.
06 أمام العرش ص 123/124.
07 المصدر السابق ص 27.
08 المصدر السابق ص 28.
09 المصدر السابق ص 206.
10 المصدر السابق ص 206.