أمومة باكثير ومولده الإندونيسي

برغم النظرة الدونية للمولّد، الأديب الإندونسي المولد يتغلب على هذه العقدة بتميز وشهرة سعى إليها بكل قواه لكي يثبت لبني قومه أنه لا فرق بين المولّد وبين غيره ممن ولدوا وعاشوا في موطنه الحضرمي بل قد يكون أفضل منهم وقد يتجاوزهم بمراحل.

تتشكل هوية الأديب علي أحمد باكثير من هويات ومواطن مختلفة فهو إندونسي المولد، وحضرمي الجذور والمنشأ، ومصري الإبداع. فقد تبلورت مخيلة علي أحمد باكثير المسرحية والروائية في مصر، فكتب معظم مسرحياته ورواياته بمخيلة البيئة المصرية التي عاش فيها فكانت بيئة غنية بالأحداث وبالحركة الثقافية، والأدبية، والفكرية المصرية التي جعلته نجماً عربياً كبيراً وبهذه الحركة الثقافية المزدهرة قادته إلى التألق والتميز.

 أما النظر إلى شعر باكثير وقراءته بقراءة العين الفاحصة والعقل الناقد سوف يتضح أن شعره تشكل بمخيلة البيئة الحضرمية والتي تختلف كلياً عن تجربته المسرحية والسردية الناضجة التي أقبل عليها القارئ العربي بنهم وقاد النقاد الاهتمام بمسرحياته ورواياته بشكل أكبر وأوسع.

فعلي أحمد باكثير من مواليد 1910 في إندونيسيا وقد إرسله والده إلى حضرموت لدراسة لغة أجداده العرب وهي عادة يقوم بها الحضارم بإرسال أولادهم في سن مبكرة إلى وطن الأجداد لعدة أسباب ومنها للدراسة.

 ففي ذلك الزمن المبكر أي في القرن العشرين الميلادي كانت الطبقية هي التي تمنح المكانة للشخص حسب أصوله ونسب أسرته، فعلي أحمد باكثير من أصول حضرمية عريقة وبالتحديد ينتسب إلى قبيلة كندة العريقة ومن أسره لها باع طويل في العلم، ولكن كل هذا لم يشفع لباكثير، لأن المولّدون في ذلك الزمن ينظر لهم المجتمع بدونية فيقولون على الشخص الذي ولد خارج الموطن الحضرمي أنه (مولّد) والمولّد في نظرهم ناقص دوماً، ولا نستبعد أن البعض  في المجتمع  الحضرمي كانوا يذكرون إندونيسية علي أحمد باكثير باستحياء لأن في أعماقهم يستحقرون المولّد الحضرمي الأفريقي أو الإندونيسي.

 فهناك مقولة أو مثل حضرمي يقول:" ثلاثة ما يجون باليد: الكلب، والخنزير، والمولّد" وبرغم هذه النظرة الدونية للمولّد وقتئذ نجد أن الأديب علي أحمد باكثير قد تغلب على هذه العقدة بتميزه وشهرته الأدبية التي سعى إليها بكل قواه لكي يثبت لبني قومه أنه لا فرق بين المولّد وبين الشخص الذي ولد وعاش في موطنه الحضرمي بل قد يكون أفضل منهم وقد يتجاوزهم بمراحل، فهو ليس خنزيراً أو كلباً كما تتشكل النظرة الحيوانية عن المولّد في المجتمع. فبعد نجاح باكثير في مصر رضوا عليه قومه الحضارم وهم في كل الأحوال لا يرضون. وهذا الموقف يحيلنا إلى ما قاله د. أحمد عبدالله السومحي في كتابه "علي أحمد باكثير / حياته، شعره الوطني والإسلامي" حيث يقول: "أن باكثير قد حاول النهوض ببني جنسه ولكنه فشل وتعرض لحملات شديدة كانت سبباً في أسباب هجرته". فباكثير بكل تأكيد قد عانى في طفولته من عقدة المولّد مثله مثل المولّدين الآخرين الذين أتوا من شرق آسيا أو شرق إفريقيا إلى موطن أجدادهم حضرموت، وهذه تشكل بحد ذاتها حرمان من الأمومة، ونجد أديبنا الكبير علي أحمد باكثير قد حرم من الأمومة في سنواته الأولى من الحياة، فقد أرسله والده إلى حضرموت في سن مبكرة، كما أعتاد الأباء الحضارم إرسال أطفالهم من ذكور وأناث إلى حضرموت وحرمانهم من الأمهات والخالات الإندونيسيات وبعد سفرهم إلى موطن الأجداد قد لا يعيدون إلى أمهاتهم مرة أخرى. فهكذا تتم قطع العلاقة الأسرية بشكل قاسي جداً. فنحن لا نعرف أي شيء عن أم أحمد باكثير فهل هي حضرمية أم إندونيسية؟ فبعد بحثي وحيرتي، قد مدني د. عبدالحكيم الزبيدي بمقالة له بعنوان "أضواء على حياة علي أحمد باكثير في الذكرى الـ 50 لرحيله" وفي أسطرها يتضح للقارئ أن أمه اسمها نور من أسرة آل بو بسيط من منطقة هينن في وادي حضرموت وغالب الظن إنها إندونيسية المولد لآن في ذلك الزمن في القرن التاسع عشر الميلادي لا يهاجر النساء خارج حضرموت، فظاهرة الهجرة  تقتصر على الرجال ويكون نصيب النساء من الهجرة بنسبة ضئيلة وقد لا تذكر.

 فهذا المقال يغوص في حياة أحمد باكثير الخفية والتي لم يسلط عليها الضوء مسبقاً ولعل هذه المقالة تفتح نافذة  نقد برؤية جديدة عن أمومة باكثير ومولده الإندونيسي.