تجربة الكتابة عن المكان والنبش عن حياة الإنسان وحكاياته

وجدت نفسي لا أراديًا أحتفي بالمكان في أعمالي الروائية، والاحتفاء بالمكان هو النبش عن حياة الإنسان وحكاياته في تلك البقعة الجغرافية التي تقود القارئ إلى بعض التفاصيل التي يجهلها

أصعب ما يحتار فيه الكاتب هو اختيار عنوان للرواية، وهذه الحيرة قد مستني طيلة تجاربي في التأليف. فكلما أنتهي من كتابة الرواية أجد نفسي في حيرة في اختيار عنوان لكتابي.

ومن عادتي أنني استشير بعض الأدباء الذين تربطني بهم علاقة في اختيار اسم لكتابي والمثال على ذلك رواية "طريق مولى مطر" فكان العنوان المقترح "طيارة النصراني" لكون الطيارة في الرواية شخصية قامت بدور الترهيب والقتل وكانت النظرة السائدة لها بغرابة وبأنها "طاهشة" أي وحش مفزع غريب الأطوار بشكل لم يعتد الأهالي على رؤيتها من قبل وخاصة البدو منهم.

فاحتلت الطيارة مكانة في وجدانهم وكان الحكي عنها بغرابة في بداية السرد أما في آخره يظهر الوصف عنها بصورة بشعة عندما تقوم في الحلم بحرق الشجر وبهدم القبب على رؤوس الأولياء وقتل الأبرياء في الوادي.

 فلو تم اختيار عنوان "طيارة النصراني" اسماً لرواية "طريق مولى مطر" سوف يحيل القارئ إلى موضوع الاحتلال البريطاني للجنوب وحضرموت معًا، وسوف تهمل الموضوعات الأخرى المتداخلة في رواية "طريق مولى مطر" كقضية المرأة والسلطة الدينية المتمثلة في "قبة الولي" التي تلهم الناس والوصول إلى أمنياتهم عن طريقها وطريق الولي الوسيط عند الله؛ فبعد النظر تشكلت لدي عدة عناوين للرواية ومنها "طريق مولى مطر" فرسيت على هذا الاسم لروايتي الثالثة.

ومولى مطر هو ولي من أولياء الله يقع قبره في أعالي الهضبة الجنوبية بحضرموت والطريق إليه تشكل مفاهيم وأعتقادات مازالت خالدة في الحكي وفي وجدان الإنسان الحضرمي،  فعنوان "طريق مولى مطر" يحتفي بالمكان وعلاقة الإنسان به وجدانيًا وعقائديًا، ومن خلال المكان تنسل الحكايات المتداخلة في زمنٍ واحد وأحياناً تعود الحكايات إلى أزمنة مختلفة وتحكي عن صراع الإنسان بقوى الظلام وتحكي عن هجرة الإنسان، إنسان تلك الأرض التي اشتهر رجالها بالهجرة إلى أصقاع الأرض تاركين خلفهم وطنًا ينتظر الانتصار على الجهل وعلى الأطماع الآتية من خلف البحار. 

والاحتفاء بالمكان في أعمالي الروائية ليس مقتصراً على رواية "طريق مولى مطر" بل نجده في عملي الثاني "عقرون94" الذي حمل عنوان "المدارة" و"بائع الفجل" وكذلك عنوان "رماد الجنوب" ولكن عند النظر رسيت على "عقرون94".

وعقرون أحد الأودية التي تصب سيوله في وادي دوعن. فاسم  عقرون مرتبط بوجدان الإنسان الدوعني وبكل الناس الذين يشربون منه أو يزرعون أرضايهم من سيوله، وقد تشكل وادي عقرون في الثقافة الشعبية والشعرية الحضرمية كقول الشاعر عبدالله باصره:

مناشي في السماء سوداء وغيثه ياعلي همله

ولا سالت مراه المفرعه بتسيل ياعقرون

 والمكان في الرواية تشكل الهوية، هوية الإنسان وتاريخيه المرتبط بالمكان، وكذلك رقم 94 الذي يرمز إلى الحرب سيئة الذكر بين شمال اليمن وجنوب اليمن في صيف 1994، وهي تروي عن التهميش السياسي في المجتمع، والرواية تنتصر للإنسان المهمش في وطنه،وكذلك تحتفي بالحاضر وكذلك تعود إلى حكاية الملك عقرون الذي احتلت حكايته مكانة في وجدان عقرون بطل الرواية والذي حمل اسمه الملك عقرون وكذلك اسم وادي عقرون.

فقد وجدت نفسي لا أراديًا أحتفي  بالمكان في أعمالي الروائية، والاحتفاء بالمكان هو النبش عن حياة الإنسان وحكاياته في تلك البقعة الجغرافية التي تقود القارئ إلى بعض التفاصيل التي يجهلها. فسوف يجد القارئ في رواية "سالمين" و"روايتي "عقرون 94" و"طريق مولى مطر" حياة الجبال ومعرفة عمق الأودية والشعاب في هضاب حضرموت وشخصية إنسان الجبل والطبيعة التي تحيط بها سياسيا واجتماعيا، وكذلك الأشعار الشعبية والأمثلة التي لها رمز ومعنى يدركها القارئ المثقف.

وهذه التجربة في الكتابة عن الأمكنة وكل ما يتصل بها من أحداث قد تألق فيها الروائي المصري نجيب محفوظ في أعماله الروائية مثل "زقاق المدق" أو "خان الخليلي" أو "بين القصرين" و"السكرية" وغيرها.

فوجد القارئ العربي أنه يعيش أجواء وأمكنة لا يعرفها تحكي عن تفاصيل حارات وشوارع القاهرة، وهذه الأجواء هو الجديد في الأعمال الأدبية بكل تفاصيلها وكيفية تتشكل الشخوص والأمكنة التي كانت منسية ومن خلال السرد تحولت إلى أسطورة روائية لا مثيل لها. ولا ننسى الروائي الليبي إبراهيم الكوني الذي احتفاء بالصحراء وحياة الصحراء في أعماله الأدبية مثل "ناقة الله" أو رواية "التبر" أو رواية "المجوس" وغيرها، وهذه التجارب والأعمال الروائية لنجيب محفوظ أو لإبراهيم الكوني تجعل للمكان أهمية، والنظر للمكان بنظرة تختلف عن النظرة السائدة لدى الناس. فهكذا وجدت نفسي أفعل في أعمالي والتي نظرت إليها بعض دور النشر بريبة ومثال على ذلك رواية "عقرون 94" التي رفضتها دار نشر عربية كبيرة بسبب أن الرواية صغيرة ولن تحقق أي جوائز، ودار نشر أخرى رفضتها بسبب أن الرواية لن تحقق أي انتشار!! والمفارقة أن رواية "عقرون 94" بعد طباعتها عرفني القارئ المحلي أكثر، ورشحت  فيما بعد من قبل الناشر إلى "جائزة كتارا" وكذلك قادتني رواية "عقرون 94" إلى أنثولوجيا الشارقة "كم رئة للساحل" بمناسبة الشارقة عاصمة عالمية للكتاب.

فتجربتي بالمكان في أعمالي قادتني إلى ذاتي أكثر وجعلتني أنظر للمكان بأهمية وأن التجديد سرديًا يرتقي في جل الأوقات عندما نحتفي بالأمنكة التي نعرفها ويعرفها إنسانها جيداً.