حكاية الشعوب هي حكايتي

تجربة الروائي لا تتشكل من خلال الكتابة فقط بل قبل الكتابة تتشكل تجاربه من خلال القراءة في كل فن من فنون الكتابة الشعرية أو الروائية أو النقدية وأيضًا الفلسفية وغيرها. وبهذه القراءات المتعددة يصقل الكاتب تجاربه فلا تجارب بلا قراءة.

من خلال تجربتي الروائية والكتابة المستمرة في حقل الرواية أو في كتابة المقال اتضح لي جليًا بأن الكلمة لها إيقاع خاص في قلوب الناس ومن خلال الكلمة والحكاية التي تتشكل في الرواية تتكون علاقات إنسانية عظيمة ومن خلالها تمتد جسور الثقافة بين الأمم والشعوب والكلمة تجسد حكاية الشعوب من خلال الرواية، والناس عادة تحب أن تسمع وتروي وتقول كل ما يجول في خاطرها شعرًا أو نثرًا وتشعر بالوجود، وأتذكر شخصية رواية "عزازيل" للروائي المصري يوسف زيدان وهي تقول: 

"اكتب يا هيبا ، فمن يكتب لا يموت أبداً".

ومن أهمية الكلمة وتأثيرها في حياة الناس وعلاقتهم قد قيل سابقًا وأصبح من أمثالنا الشعبية:

"الكلمة الطيبة تكسر العظم الصليب"

أي أن حسن الكلام وفنه تبدد العقبات بين الأشخاص وتجعل الشخص العنيد صاحب الجسد الضخم والعظم القوي والذي لا يتنازل عن حقوقه أكثر ليونة وقد يتنازل عن كلمته وموقفه بسبب الكلمة الطيبة. ولا يقدر مكانة الكلمة الطيبة التي تكسر العظم القوي إلا الرجل الطيب النبيل.

فكيف لا يحبك الناس وأنت تروي حكاية الإنسان وكذلك تحكي حكاية المدن، والصحاري، والجبال وتدون كل ما قد حصل أو سوف يحصل باستشراف المستقبل من خلال الكتابة بقالب فني بشيء اسمه الرواية التي أصبحت صوت الشعوب.

فمن خلال الرواية التي كتبت في كل اصقاع العالم عرفت الإنسان وحكاية أرضه وكذلك الاستماع إلى صوته المنتصر أو المنكسر وكل التحديات والتجارب التي مرت به نفسيًا أو سياسيًا أو اقتصاديًا وقد شممت من خلال الرواية أزقة القاهرة وحاراتها من خلال روايات نجيب محفوظ مثل رواية "السكرية" أو رواية "زقاق المدق" أو "بين القصرين" وبهذه الروايات المحفوظية تتشكل فيها شخصية ابن الحارة وابن المدينة في الرواية المصرية خلاف الروائي المصري يوسف زيدان الذي تشكل شخصياته الروائية الشخصية التاريخية في رواية "عزازيل" أو "النبطي" أو رواية "فردقان اعتقال الشيخ الرئيس" والرواية عن حياة ابن سيناء. 

وليست المدينة وحدها مسرح الأحداث بل هناك شخصيات مثيرة وحوادث أكثر جاذبية تحدث في أمكنة غير المدينة مثل صحراء ليبيا التي يسكنها قبائل الطوارق وقد حول الروائي الليبي إبراهيم الكوني الصحراء إلى عنصر مهم وحياة أكثر شغفًا وأن الصحراء بلد الحكمة ونجد هذه الحكمة في روايته "التبر" وكذلك نجد صراع الإنسان مع الحيوان والطبيعة في عدة أعماله الروائية مثل "نزيف الحجر".

فتجربة الروائي لا تتشكل من خلال الكتابة فقط بل قبل الكتابة تتشكل تجاربه من خلال القراءة في كل فن من فنون الكتابة الشعرية أو الروائية أو النقدية وأيضًا الفلسفية وغيرها. وبهذه القراءات المتعددة يصقل الكاتب تجاربه فلا تجارب بلا قراءة التي أصبحت صوت الحياة والنداء الرباني في القرآن الكريم كقول الله سبحانه وتعالى "اقرأ".

فمن خلال القراءة يطرق الكاتب أبواب الإبداع ومن خلالها تتكون التجارب والعلاقات التجارية والثقافية بين الشعوب وتعرف الشعوب بعضها من خلال الكلمة التي تقودنا إلى الحكاية.

وقد تبلورت تجربتي الروائية من خلال القراءة أولًا وقد رسمت القراءة شخصيتي وكذلك صقلت قلمي المتعثر وجعلته أن ينهض، والنهوض لا يعني التميز ولكن يعني السعي إليه وكتابة تجارب روائية مختلفة  تتنفس مثل ما تتنفس كل الكتب التي ليست أوراقًا كما يظن الكثير من الناس بل هي حياة كما حياة البشر بل حياة مدونة يشعر القارئ المتذوق بأن هذه الكتب والأوراق تتنفس الكلمات فيها ويسمع أصوات الحياة والبشر وقد يتلمس القارئ طريقه ليعبر الصفحات لكي يشاهد بقية الأحداث ويسمع الحكمة من خلال الكتابة الحية غير الميتة. وما يؤسف أن بعض الكتب مثل الأجنة تسقط وتموت ولا يسمع عنها الناس بتاتًا.

فالمكان الذي ولدت فيه وادي دوعن هي تجربتي الأولى في الحياة وقد سمعت الحكاية في هذا الوادي وبين جدران هذه البيوت الطينية وبالقرب من واحات النخيل. والحكاية سافرت معي كما سافرت مع اجدادنا الحضارمة الأوائل الذين جابوا أدغال افريقيا ودارت رحى تجارتهم في شرق آسيا أو قد سمع صوت تعبدهم وتهجدهم بالقرب من الركن اليماني في الحجاز بمكة المكرمة. 

فالحكاية والمبكرة في هذا والوادي خلقت فيّ شغف الكتابة من كتابة الخاطرة ومن ثم المقالة وبعد سنوات من هذه التجارب وجدت ذاتي وذات أخرى من خلال الرواية وعرفني الناس أكثر وعرفوا حكاية سالمين بطل رواية "سالمين" الذي عاش في هذا الوادي وانتقل فيما بعد إلى المملكة العربية السعودية ليجسد حياة مختلفة أكثر صعوبة عندما يبحث الانسان عن لون غير لونه وحياة غير حياته. وكذلك عقرون بطل رواية "عقرون 94" هو ابن هذا والوادي مثله مثل شخصيات رواية "طريق مولى مطر" التي عاشت الحياة والظروف بكل تحدياتها. فالمكان الذي يعيش فيه الكاتب يجد فيه شخصياته ويعرف اسراره فلا مكان بلا شخصيات ولا بلا أسرار وسري هو وادي دوعن والجول أي الهضبة التي وجدت فيها شخصيات من لحم ودم وهي شخصيات حقيقية ولكن مزجت فيها الحقيقة بالخيال أي الخيال الفني الذي يخدم الفن الروائي بصورة إبداعية مشوقة بعيدة عن التعقيد في الأحداث أو تقعير الكلام.

_

*قدمت هذه المقالة بمناسبة الاحتفاء بالكاتب والروائي عمار باطويل في مسقط رأسه وادي دوعن بمحافظة حضرموت يوم الثلاثاء 6 يونيو/حزيران  2023