أندريه جيد الكاتب الذي أظهر عيوبه للقارئ

الشاعر والروائي الفرنسي الحائز على نوبل قضى عمره يحارب طبقته الأرستقراطية، ودافع عن حقوق شعوب الكونغو والتشاد والمغرب وموريتانيا التي كانت واقعة تحت الاستعمار الفرنسي آنذاك.
أغلب أعمال جيد ترجمت إلى العربية على يد كبار الأدباء العرب
جيد خضع لقانون أبويه اللذين اختفيا وهو سن مبكرة

حمل الكاتب الفرنسي أندريه جيد موهبة متقدة، كمخلوق مضطرب قلق، معقد، يتركب من عدة شخصيات، ولكنه يمت إلى نوع نادر من البشر، فإبداعه وفنه صورة منه، وكثيراً ما قارنه النقاد ببلزاك وفلوبير وبريخت، وأثبت جيد جدارته كروائي وقاص، حرك العاطفة المشتعلة، والعنف الغريب الأطوار المدفونين في الشخصية الفرنسية، فكان كبير النفس، يحمد النبوغ ويمتدحه أينما وجد، ولهذا كان صديقاً حميماً للنابغين من معاصريه.
ولد أندريه جيد في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 1869م في أسرة واسعة الثراء، وكان الابن الوحيد لأبيه الذي رحل وجيد في الحادية عشرة من عمره، فتولت أمه تربيته، وأحب ابنة عمه مادلين، ولكنها كانت مصابة بمرض عضال، انتهى برحيلها، وقد ظل جيد ينتقل بلاد عديدة، والتقى بالكاتب البريطاني أوسكار وايلد، وآمن مثله بأن الفن متعة خاصة للبشر، دون أن ينتظر منه الناس فائدة مادية ملموسة.
وتنوعت أعمال جيد بين القصة والرواية، وكتب في أدب الرحلات، ومن أهم كتبه "كراسات أندريه والتر" و"خيانة نرجس" عام 1891م، و"محاولات العشق" عام 1893م ، ثم "الحاج" عام 1899م و"سول" عام 1903، وفي عام 1910 م كتب مؤلفاته عن أوسكار وايلد، وفي عام 1920 نشر كتابه "إذا لم يمت العشب"، ثم قدم كتاباً عن الكاتب الروسي دوستويفسكي.
أنشأ جيد المجلة الفرنسية الجديدة 1909م والتي لعبت دوراً هاماً في توجيه الأدب الفرنسي حتى 1940، وصور الصراع بين طبيعته العاطفية، ونشأته الدينية في رواياته، التي تعكس كثيراً من أحداث حياته الخاصة، ومنها "المستهتر" 1902م و"الباب الضيق" 1909م و"سيمفونيات" 1919م و"أسفار في الكونغو" عام 1927م و"العودة من تشاد" عام 1928م وهما من ثمار أسفاره في أفريقيا، والتي قادت إلى إصلاح كبير في سياسة فرنسا الاستعمارية في ذلك الوقت.
والكثير من أعماله ترجم إلى اللغة العربية على يد كبار الأدباء والمترجمين مثل طه حسين، ونزيه الحكيم ومحمود علي مراد، ومن الروايات التي ترجمت له "الأغذية الأرضية" و"رجل عديم الأخلاق" و"عودة الطفل الضال" و"الباب الضيق" و"السيمفونية الرعوية" و"المزيفون" و"مدرسة النساء" و"أوديب".
وتجئ أهمية أندريه جيد- كما يقول النقاد- من أنه لم يحاول إخفاء عيوبه عن القارئ، وخاصة في رواياته ومنها "رجل عديم الأخلاق" ثم في يومياته التي نشرها في ثلاثة أجزاء، تناول الأول منها وقائع حياته بين عامي 1889 إلى 1939م ثم الثاني بين عامي 1939، 1942، والجزء الثالث انتهى في عام 1949، وقد رحل جيد في 19 فبراير/شباط 1951م.

لم تقض جائزة نوبل على عاطفته الدينية الدفينة، بل تملكه الإيمان القوي والاستلهام للأحاسيس الغامرة، فهذا الإيمان جعل الفنان يترك مشاعره الدينية تطغو عليه من وقت وآخر دون أن يحاول كبتها 

قانون الأب
ولعل من خصائص حياة الكاتب أنه ولد في أسرة أرستقراطية حاكمة، ولكنه قضى عمره يحارب طبقته هذه، ودافع عن حقوق شعوب الكونغو والتشاد والمغرب وموريتانيا، التي كانت واقعة تحت الاستعمار الفرنسي آنذاك، ولا يعني هذا أن أندريه جيد كان متنكراً لطبقته نفسها، فقد كان على العكس من ذلك تماماً: يجد الراحة في اجتماعاتها، وكان له من رجال هذه الطبقة ونسائها، أصدقاء كُثر.
يقول المفكر الفرنسي بييرماسون: إن أندريه جيد قد خضع لقانون أبويه اللذين اختفيا وهو سن مبكرة، ولكنهما تركا أثراً كبيراً في تثقيفه وتربيته، فأبوه هو الذي اختار له ابنة أخيه مادلين كي يتزوجها، وهو الذي وضع له إطار التفكير العلمي، والمناهج التاريخية التي عليه أن يمشي عليهما، وقد مات الأب عام 1880، فأصابت الأم حالة عصبية، فانتقلت مع ابنها إلى مونبيليه، للإقامة مع العم غول جيد، وبموت الأب عاش أندريه جيد حياة  مختلفة، فالسكن الجديد ضيق، وصغير وملئ بمظاهر الفقر، وهو يقول عن مادلين في روايته "رجل عديم الأخلاق": "بدا لي أن حبي قد تولد في هذه اللحظة، التي قابلتها فيها، واسترعت انتباهي بشكل حقيقي".
نوبل والمشاهير
وفي عام 1947 م فاز جيد بجائزة نوبل، ولم يثر فوزه أي انتقاد من قبل النقاد والمتابعين لشؤون الجائزة في النصف الأول من تاريخها، فقد كان أغلب الأدباء الذين فازوا بجائزة نوبل عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، من المشاهير وأصحاب موهبة كبيرة، على عكس النصف الأول الذي منحت فيه الجائزة إلى عدد كبير من الكتاب المغمورين. وقد منحت الجائزة للكاتب الفرنسي، وهو في ذروة عطائه الأدبي، ومعتقده الفكري والديني، فرؤيته للتحرر المطلق، لم تقض على عاطفته الدينية الدفينة، بل تملكه الإيمان القوي والاستلهام للأحاسيس الغامرة، فهذا الإيمان جعل الفنان يترك مشاعره الدينية تطغو عليه من وقت وآخر دون أن يحاول كبتها، ولذا فهو يتكلم عن الله، وعن الأبدية بأسلوب متدين زاهد، ويبدو ذلك جلياً في كتابه "الأغذية الأرضية"، وهو الكتاب الذي ينفجر فيه الدعوة، إلى التمتع بالحياة الحية، إذ يقول: "حيثما تذهب لا تستطيع سوى مقابلة الله، و"توقع أن تجد الله في كل مكان حولك".
يقول جيد في روايته "الأغذية الأرضية"، "يجب أن نفكر في الله بأقصى ما يمكن من الانتباه واليقظة، إنني عندما أهجر التفكير في الخالق إلى التفكير في المخلوق تنقطع صلة نفسي بالأبدية، ويفقد حيازتها لمملكة الله". (وكالة الصحافة العربية)