"المكان" بطل الروايات وملهم الكُتاب وجاذب القراء

خصوصية المكان برزت في الأعمال الروائية والسردية العربية من خلال أكثر من عمل إبداعي أصبح كل منها علامة بارزة في تاريخ السرد العربي.
المكان جزء رئيسي من النسيج القصصي والروائي الذي لا يمكن أن يتم السرد بدونه
محمد المنسي قنديل: الأدب الجيد هو جغرافيا جيدة

يمثل "المكان" حجر الزاوية وبداية خيط الإلهام لدى كثير من الروائيين وكتاب القصة في العالم بل إن هناك روايات حملت أسماء أماكن وخلدتها، وفي الأدب العربي يبرز أيضا دور المكان ويتحول من مجرد إطار جغرافي تدور فيه الأحداث إلى ملهم للروائي أو القاص، وأحد العناصر الرئيسة في العمل الإبداعي الذي تدفعه للأمام.
وبرزت خصوصية المكان في الأعمال الروائية والسردية العربية من خلال أكثر من عمل إبداعي أصبح كل منها علامة بارزة في تاريخ السرد العربي مثل ثلاثية "قصر الشوق" و”زقاق المدق” و”السكرية”، بالإضافة لـ ”خان الخليلي”، و”القاهرة 30″ لنجيب محفوظ، و”لا أحد ينام في اسكندرية” لإبراهيم عبدالمجيد، و” اسكندريتي” لادوار الخراط، و” بيروت مدينة العالم” لربيع جابر، و”ثلج القاهرة” للنا عبدالرحمن. وغيرها من الأعمال الروائية والسردية البارزة في تاريخ الإبداع والأدب العربي التي حملت أسماء أماكن. 
وبعد تطور فن القصة في الأدب العربي الحديث والمعاصر أصبح المكان جزءاً رئيسياً من النسيج القصصي والروائي الذي لا يمكن أن يتم السرد بدونه، حيث تأكد في أشكال السرد الحديثة والمعاصرة في الأدب العربي دور “المكان” من خلال تضافره مع الحدث والمشاركة في صياغته، ثم تحول المكان إلى عنصر جذب في العمل السردي يجذب له القراء خاصة إذا كان القراء ينتمون إلى هذا المكان.
لكن على الرغم من أهمية “المكان” في السرد العربي، فلا يزال هذا العنصر المهم في إبداع السرديين العرب غائبا عن الدراسات النقدية، وهو ما يؤكده الروائي إبراهيم عبدالمجيد الذي يقول: “لقد قرأت العديد من الدراسات حول أهمية ودور المكان، وكذلك خصائصه كما ورد في الأدب الأجنبي، لكنني لم أقرأ حتى الآن دراسة وافية ومعقولة حول خصائص المكان في الأدب العربي، على الرغم من فاعلية المكان في الرواية، فبدونه يفقد السرد فعاليته”.

لنا عبدالرحمن: الكاتبة داخلي تميل إلى التفكير بالأماكن على نحو أممي أكثر، وتبني مقولة: “أن في كل مكان من هذه الأرض هناك سرير لي”

ويؤكد أنه تأثر شخصياً برواية “صحراء التتار”، فهي رواية صغيرة الحجم لكنها رواية مكان، حيث التأكيد على معناه وفعالياته في النص، فالضابط فيها معتصم يظل بالقلعة الموجودة في الصحراء التي تحمي البلاد من هجوم التتار، إلى أن يكتشف أنه أهدر عمره أسيراً لهذا المكان، وهنا تبدو الفلسفة بين الزمان والمكان علاقة وطيدة وضرورية.
لكن عبدالمجيد يرفض في نفس الوقت محاولات ترميز المكان وجعله مثلاً معادلاً للأرض والوطن المسلوب – مثلاً – ويعتبر أن هذا لن يكون مدلولاً فنياً، وإنما سيتحول إلى مدلول سياسي وأبعد ما يكون عن القيمة الجمالية لمدلول المكان، ولكن عندما يكون المكان مؤثرا ومساعدا على تطوير ونمو الحدث والشخصية يصبح له قيمة فنية.
ويضيف: “أتصور أن التعامل الإبداعي مع المفردات الصغيرة للمكان يسهم في تشكيل الشخصيات، والشخصيات تتطور بدورها بناء على تصاعد الحدث وتواتره على هذا المكان الذي لم يعد بعيداً عن الفعل الروائي، وأزعم أن هناك أعمالا لي تعاملت مع المكان بهذه الخصوصية، مثل: “الصياد واليمام” و”المسافات” و”البلدة الأخرى”، حيث العلاقة القوية بين المكان وتاريخ الشخصيات.
الروائي محمد المنسي قنديل، صاحب رواية ”قمر على سمرقند” يعتبر أن الأدب الجيد هو جغرافيا جيدة، مضيفا أنه ما لم يستطع الروائي أن يعرف المكان الذي ستدور فيه روايته، فلن يستطيع أن يعرف حدود شخصياته، ذلك أن الإنسان بالبيئة المحيطة به، وليس بالضرورة أن يكون المكان الموجود في العمل الفني هو ذلك الموجود في الواقع، مشيرا إلى أن القاهرة في أدب نجيب محفوظ مليئة بأشخاص غير موجودين حالياً، مثل الفتوات والحرافيش والدراويش، فهو شيء مختلف تماماً عن القاهرة التي تسطع فيها الشمس كل يوم، والتي تجدها في الواقع.
ويرى قنديل أن قاهرة نجيب محفوظ أكثر واقعية، وهذا يدل على القيمة الفنية للمكان، وكيف يمكن أن تفوق القيمة الواقعية له، وأشار إلى أنه منذ أن كتب الكاتب الإنجليزي سونيت “جيلفر في بلاد الأقزام”، أدرك كل كاتب أنه يجب أن يكون له عالمه الخاص به، وأن عليه أن يضع حدوداً لهذا العالم وهذه الأرض، لأن كل أديب مطالب بأن ينشئ مدينته الخاصة، إذ أنه بدون المكان تدور الأحداث في فراغ متعمد.
أما الروائي يوسف القعيد فيقول: “ما إن أبدأ القراءة وأكتشف أن المكان غير محدد أو افتراضي، حتى تقل سعادتي إلى النصف، لأنني أعتقد أن النص الروائي يقدم بشراً يتحركون في زمان معلوم ومكان محدد، والخروج عن أحد هذين العنصرين يفقد النص الروائي ركيزة أساسية”.
ويؤكد أن ما جعل أدب نجيب محفوظ جزءا أساسيا من وجدان المصريين هو طبيعة علاقة إبداعاته بالمكان كما يظهر في معظم أعماله السردية.
كما يشير القعيد في هذا الصدد إلى روائي عالمي قليل الإنتاج ضخم التأثير تكمن في علاقته بالمكان وهو إيفو أندريتش، والذي قرأنا له “جسر على نهر درينا”، و”وقائع مدينة تراباك”، ويضيف: “أنا من بيئة ريفية من قرية (الضهرية) مركز إيتاي البارود بمحافظة البحيرة، وتجدني في أكثر من عمل أسمي الأماكن بأسمائها.

أما القاص سعيد الكفراوي، فيوضح أن المكان يشكل عنصرا أساسيا من حيث الرؤية الفنية والبناء الفني في أي عمل جاد، ويضيف: “إن وعينا دائماً يطوف بالأمكنة التي انحدرنا منها”.
ويعتبر الكفراوي أن وعي الإنسان يظل مرتبطا على الدوام بهذه الأماكن الخاصة بنا التي شهدت طفولته وعاش فيها، مثل بيت الأسرة القديم، والزقاق الضيق الذي ينتهي بجدار يسده، والمصلاة على النهر، وشاطئ النهر، والمسجد الذي قدمنا فيه أول صلاة لنا، والمقبرة التي تحوي رفات الأجداد، وشجرة بعينها تسلقناها صغاراً، وأول فصل دخلناه في قريتنا، والناحية الأخرى من البلدة التي ضللنا الطريق فيها صغاراً، معتبرا أن كل تلك الأماكن التي استقرت في الذاكرة وأصبحت تشكل جزءاً حياً من مخيلة الكاتب، تمثل ألفة ما وعزلة ما، بمعنى أن الكاتب يألفها ثم ينعزل شعوريا فيها عن الآخرين ليكتب عنها.
 وعن علاقتها بالمكان ككاتبة تقول الروائية والناقد د. لنا عبدالرحمن: في السابق كانت العلاقة مع المكان تبدو لي ملتبسة أحيانا، لأنها تحمل سؤالا كبيرا عن علاقتنا بالأماكن سواء التي نشأنا بها وننتمي إليها، أو التي ارتحلنا نحوها، وهل ينبغي للكاتب النظر إلى علاقته مع المكان باعتباره واقعيا أو نصيا، بمعنى مقاربة تاريخه المكاني ورؤية انعكاس تلك الأماكن في كتابته، أو التأمل في نصوصه واكتشاف لِم حضر هذا المكان تحديدا دون سواه، سواء كانت مدينة ينتمي لها، أو شارع يسكن فيه، أو على العكس مكان متخيل لم يعرفه.
وتضيف: حين بدأت كتابة روايتي ”ثلج القاهرة” التي تنوعت أماكنها بين ”القاهرة، دمشق، أسطنبول”، بدات تتشكل علاقة جديدة مع المكان بشكل أكثر رحابة.
وفي هذه المرحلة يمكن اعتبار أن الكاتبة داخلي تميل إلى التفكير بالأماكن على نحو أممي أكثر، وتبني مقولة: “أن في كل مكان من هذه الأرض هناك سرير لي”، لأن فكرة الحنين الارتباط بمكان بعينه بقدر ما تبدو استدعائية ومرهونة بالذاكرة والماضي لأنها تحمل جذورنا الأعمق، بقدر ما تبدو جارحة، ينبغي التحرر منها لاكتشاف وجوه أخرى للأماكن وللحياة ككل. (وكالة الصحافة العربية)