أيمن تعيلب سيرة ناقد يحدق في الشرر

الناقد الأكاديمي: ستظل سيرتي منقوصة، فأنا الكاتب والمكتوب، الشاهد والمشهود.
لم أكن في حياتي هادئًا ولا مستسلمًا، بل متمردًا موغلًا في حرائقي
هل أكتب سيرة ذاتية روائية، أو أكتب رواية سيرتي الذاتية؟
كلمات وقعت العقاد على قلبي كما يقع الندى الرفاف على الورقة المتيبسة، فأنعشتني

أعرف الناقد المصري الدكتور أيمن تعيلب منذ حصوله على الليسانس في اللغة العربية من كلية الآداب بجامعة الزقازيق في العام 1985، قبل أن ينال درجة الماجستير حول الاتجاهات التأملـية في شعر جماعة أبولو في مصر من الكلية ذاتها بتقدير ممتاز، ثم الدكتوراه عن الاغتراب في الشعر العربي الحديث كما يتجلى في المدرسة الواقعية من الكلية ذاتها في العام 1996 بمرتبة الشرف، وقبل أن يعار للعمل بجامعة عمر المختار في ليبيا في الفترة ما بين عامي: 1997 – 1999 أو يعمل بجامعة الإمارات العربية المتحدة من 1999 ـ 2003. أو يصبح أستاذًا الأدب والنقد المقارن بجامعة جمال عبدالناصر في جمهورية غينيا بغرب إفريقا من 2003 ـ 2008، أو يصبح في العام 2007 رئيسًا لقسم اللغة العربية والأدب المقارن بكلية الآداب وعلـوم الحضارة بجامعة لا نسانا كونتي بجمهورية غينيا. أو يصبح في العام 2012 أستاذ النقد الأدبي بكلية التربية بجامعة قناة السويس، فعميدًا لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة السويس في العام 2017، وهو ما أتاح لي أن أتابع الدور الملوس الذي لعبه في ساحة الثقافة المصرية عبر أقاليمها المتعددة؛ فقد ناقش كثيرا من إبداعات الشباب والكبار ونشر دراساته عنها، كما وصل إلى رئاسة بعض لجان اتحاد كتاب مصر وغيره من الكيانات الثقافية، وقام بتحكيم الأعمال المقدمة لنيل الجوائز المحلية والعربية ذات السمت الدولي. 

Biography
إبداعات الشباب والكبار 

ولأيمن تعيلب كتب منها: "القوس العذراء في الخطاب النقدي المعاصر"، و"الشعرية العربية المعاصرة والتلقي النقدي"، و"الشعرية القديمة والتلقي النقدي المعاصر، نحو تأسيس منهجي تجريبي"، و"خطاب النظرية وخطاب التجريب، تفكيك العقل النقدي العربي"، و"أشكال السرد عند الكاتب السلوفيني المعاصر إيفالد فليسار: قراءة في آليات بناء القصة القصيرة"، و"من تناص النصوص إلى تناص الحضارات"، و"محمد آدم وشعرية التخييل"، و"موسوعة أعلام الشعر العربي الحديث؛ الحداثة وفلسفة الجمال"، و"قصيدة الثورة في الخطاب الشعري المعاصر: جدل الشعر والسلطة"، و"أسطورة النسر في الخطاب الشعري المعاصر، من نص الأسطورة إلى أسطورة النص"، و"شعرية الظل، مقاربات معرفية وتخيلية لقصيدة النثر العربية"، و"منطق التجريب في الخطاب السردي المعاصر"، و"عبقرية الحــب"، و"بلاغة الشهادة الإبداعية، نحو تأسيس جنس أدبي جديد"، و"قراءات سردية"، و"المغامرة الإبداعية"، و"عبقرية الحب في الشعر العربي المعاصر: دراسة ومختارات"، و"سؤال النقد وسؤال نقد النقد، العقل النقدي العالق"، و"صورة محمد صلى الله عليه وسلم في العقل الاستشراقي الغربي.. دراسة نقدية في آليات الوعي وأنساق الخطاب"، و"اعترافاتي عن التعليم"، و"التحديق في الشرر".. سيرته الذاتية التي بين أيدينا اليوم والتي تعكس رغبة هذا الناقد في أن يدون للزمن كل ما تحتفظ به ذاكرته من تجارب ومعان وفكر ودروس، وعبر في أسلوب اختار أن يتسم بقدر كبير من البلاغة، وإن لم يخل من رغبة واضحة في كتابة سيرة تخلد صاحبها، وتصمد بين السير الملهمة الكثيرة التي أصبحت جزءًا من تاريخ الأدبين العربي والأجنبي بالطبع. 
ويبقى السؤال إلى أي مدى وفق هذا الناقد الذي تناول العديد من الإعمال الإبداعية بالنقد والنصح والتحليل في أن يوفي سيرته هو ما تستحقه من شروط القبول من قارئه, والبقاء حية على أرفف المكتبات وبين أيدي القارئين والدارسين؟
وهذه الأسئلة أنتظر أن تصلني الإجابة عنها من كل قارئ لـ "التحديق في الشرر" بمفرده.
وللننظر كيف يدلف بنا أيمن تعيلب إلى عوالم سيرته.. إنه يقول بالحرف الواحد:
"عندما قررت أن أكتب سيرتي الذاتية وبدأت في الكتابة فعلًا حدثت المشكلة، وجدتني مقيدًا مبعثرًا بين خيالي ووهمي وواقعي. 
هل أكتب سيرة ذاتية روائية، أو أكتب رواية سيرتي الذاتية؟"
لكن سرعان ما يقطع الناقد علينا متعة الاسترسال في قراءة السطور الأولى من سيرته عندما يقول:
"وفي العادة يفرق علماء السيرة بين كتابة السيرة الذاتية بوصفها حياة حقيقية واضحة يكتبها صاحبها بموجب عقد ميثاق من لحم ودم، وكتابة الراوية التي يكتبها بطل من تخييل ومجاز.
يقولون إن بطل السيرة حقيقي وبطل الرواية مجازي. وأنا أرى أن جميع الحوائط سقطت بين كتابة الذات وكتابة الرواية، وكتابة الواقع، السيرة رواية، والرواية سيرة حتى وإن أصررنا على الفرق بينهما، فهل اُتُفِقَ في يوم من الأيام على ميثاق قرائي نقدي محدد ونقي وصارم بين النقاد جميعًا لوضع حدود واضحة بين رواية السيرة الذاتية، والسيرة الذاتية نفسها؟ 
وهل مجرد اعتراف الكاتب بالتطابق بين اسمه وأحداث سيرته على غلاف كتابه كافٍ وحده لكتابته سيرته الذاتية الفعلية؟
وماذا نقول في السير الذاتية التي لم يعترف فيها أصحابها بهذا التطابق منذ اللحظة الأولى للسرد؟ 
وما الفروق بين السير الذاتية وروايات السير الذاتية وكتابة الذات والتخييل الذاتي وروايات السيرة الذاتية الشعرية والقصصية والروائية؟
 هل يكمن الفرق في درجة التخييل فقط أم في النوع؟ 
يا صديقي كل شيء عابر في هذه الحياة، وليس هناك هذه الحجب الغلاظ بين الهويات السردية المتعددة المتباينة."
ثم يعود الناقد إلى ذاته هو، فيقول أيمن تعيلب في الـ"التحديق في الشرر": "ستظل سيرتي منقوصة، فأنا الكاتب والمكتوب، الشاهد والمشهود، أنا الموج ملتجًا في أعماق محيطي إن قلت أرسو قليلًا على شاطئ ذاتي كي تلتقطني كلماتي أبت لغتي إلا أن تقذف بي إلى مجاهيل المجازات، وغوامض الدلالات."

السيرة الذاتية
تجارب ومعان وفكر ودروس

ثم يقول: "صدقني قارئي المشكلة عويصة إن لم تكن مستحيلة. فكل منا يولد ورقة كاملة مصقولة بيضاء تسر الناظرين، ثم يكتبها الزمن إذ نكتبه، يشخبطنا ونشخبطه، يمزقنا بأقداره فنصطدم بجدره الصلدة المدبّبة حتى نتطاير قصاصات في فضاءات القدر والحياة، يبعثرنا الزمن كيفما شاء، نتبعثر معه بكامل إرادتنا، ثم نحاول في النهاية أن نلملم قصاصات عمرنا من شوارع الحياة وسكك القدر وممرات الزمن. لكن للأسف لن تشكل قصاصاتنا التي جمعناها أبدًا ورقة حياتنا كاملة أمينة كما عشناها تمامًا من قبل. القصاصات المبعثرة".
ومن جديد يطل علينا صوت الناقد: "أن تكتب حياتك غير أن تكتب عن حياتك، الحياة تدفق لا توقف، غياب لا حضور، نسيان يتجدد إذ تتذكر كلما حدقت في شمس حياتي أعماني الوهج.
لكنه يعود إلى أحداث سيرته هو عندما يقول: "ولدت في إحدى ليالي شهر يناير عام ألف وتسعمائة واثنين وستين، كانت ليلة قاسية الزمهرير. كان ميلادي منبئًا بحياة متقلبة هوجاء تتعاورها عواصف لا تهدأ ولا تقر، لم أكن في حياتي هادئًا ولا مستسلمًا، بل متمردًا موغلًا في حرائقي."
وسرعان ما يتساءل تعيلب: "لا أدري لماذا كان أبي - رحمه الله - مصرًا على أن يكتب ميلادي على نفس يوم وشهر ميلاده، فقد وُلِدَ مثلي في اليوم الثالث من شهر فبراير عام ألف وتسعمائة وست وعشرين، فكتبني مثله في نفس اليوم ونفس الشهر، كل ما في الأمر أنه عكس السنة لتكون عام اثنين وستين بدلًا من ميلاده عام ست وعشرين؟!"
وسرعان ما ينتقل بنا فترة زمنية فيقول: "عندما مات أبي لم يكن قد قضى في عمله الأخير سوى سنة واحدة، كانت أمي تظن أنه سيحصل على مكافأة نهاية الخدمة مثل كل المتقاعدين أحياء وأمواتًا، لكنه لم يكن قد أمضى في عمله الأخير سوى سنة واحدة، كانت مصيبة كبيرة على أمي وعلينا، لا دخل لنا سوى بعض المال القليل الذي تركه أبي لها، فتاجرت به مثلها مثل كل رجال القرية، لكنها فكرت فكرة عبقرية، أرسلت خطابًا للدكتورة عائشة راتب وزيرة الشؤون الاجتماعية حينها، كان خط أمي جميلًا جدًّا، وسأحدثك عن هذا في موضع آخر من سيرتي، الخط جميل والمعنى مؤثر جدًّا، قرأت أمي عليَّ الخطاب، ثم أمرتني أن أذهب للبوسطة لأحضر لها طابعًا بريديًّا حتى تلصقه عليه. كان أملها كبيرًا أن ترد عليها الوزيرة في هذه القرية النائية الغافية على شواطئ النسيان، لكن كانت المفاجأة أن وصل الرد سريعًا بعد أسبوعين فقط. فضت أمي الخطاب، كنت أتأمل رعشة يديها وعلامات السرور تزغرد في وجنتيها المتوردتين، قرأت الخطاب أكثر من مرة، ثم تهللت أساريرها، وحمدت ربها، قامت فصلت ركعتين لله، كانت الوزيرة قد أمرت بمعاش استثنائي لوالدي، وكان حوالي ثلاثة جنيهات ونصف في الشهر عام 1970.
وهنا يوضح لنا أيمن تعيلب: "مات والدي - رحمه الله - في سن مبكرة عن خمسة وأربعين عامًا، كانت أمي تقول لي إنَّ معظم الرجال في عائلة أبي يموتون في سن مبكرة.
بعد وفاة أبي المباغتة، انتقلنا إلى بيت جدي لأمي الشيخ محمد أبوحمودة، بيت عتيق متهالك مشيد بالطوب اللبن".
ويستطرد قائلًا: "لا أنسى عملية طهوري القاسية التي أجراها لي الحاج أحمد عوكل الطبيب الشعبي للقرية، وكان رجلًا قصيرًا ممتلئًا، تشرق في جبينه شمس الوضاءة والطيبة، وما زلت أتذكر حريق الألم الذي التهم جسدي كوحش كاسر.
لست أدري لماذا ظللت أنظر طوال حياتي للحاج أحمد عوكل وكأنه سرق شيئًا من جسدي؟!
ونقفز مع أحداث السيرة ونحن نقلب صفحاتها لنتوقف عند قول تعيلب: "بعد أن قرأت مقولة للعقاد أحسست إحساسًا خفيًا عارمًا بالحرية، فكما يقول العقاد الصور ليست سابقة على الإدراك الذي تصورها، وليست المادة بقادرة على سجن العقول التي أنتجتها؛ وبالتالي فليس فقري سابقًا على كرامتي، وظروفي مهما كانت قاسية فلن تكون قادرة عليَّ، فالعالم كله شيء وأنا شيء آخر مستقل، ليس على سبيل التنكر للعالم من حولي، فهذا وهم وحمق، بل على سبيل حرية إرادتي في أن أكون قيمة إنسانية مضافة في هذا العالم. فأنا إنسان وليَّ حريتي، ومهما كانت صورة وضعي الاجتماعي والاقتصادي فأنا أكبر من كل شئ حولي.
وقعت كلمات العقاد على قلبي كما يقع الندى الرفاف على الورقة المتيبسة، فأنعشتني."
نفدت المساحة، ونحن لا نزال عند تخوم هذه السيرة بعد نخشى من خطر طول التحديق في الشرر.. ولذلك نتوقف عند هذا الحد آملين أن نكون وضعنا القارئ على نهج الوصول إلى باقي أحداث سيرة ناقد اهتم بالتنظير لكيفية كتابة السير قبل أن يخط سطرًا في أحداث سيرته هو.