إبراهيم باشا وحلم الإسكندر الأكبر

محمد السيد عيد يكشف المواقف لحظة أن قال محمد علي لابنه إبراهيم: الآن قد ملكت مصر.
السلطان العثماني كان غير راضٍ عن الطريقة التي فرض بها المصريون محمد علي عليه
إجادة العربية، والإحاطة بأشعار العرب، وتاريخ البلاد التي يحكمها محمد علي

في كتابه الأحدث الصادر مؤخرًا عن قطاع الثقافة بمؤسسة "أخبار اليوم" بالقاهرة بعنوان "إبراهيم باشا أبو العسكرية المصرية الحديثة" يتتبع الكاتب والناقد والسيناريست المعروف محمد السيد عيد، سيرة حياة إبراهيم باشا، ابن محمد علي، منذ ولد في قولة وعاش فيها إلى أن استدعاه والده هو وشقيقه طوسون للمجيء إلى مصر فتركا أمهما وباقي أشقائهما هناك، وهما بعد طفلين وتوجها بالبحر إلى الإسكندرية، ومنها إلى رشيد، وعلى متن مركب ثالثة توجها عبر النيل إلى ميناء بولاق حيث كان والدهما محمد علي باشا في انتظارهما كي يتلقيا تعليما خاصًا يمكنهما من الاضطلاع بما رتبه لهما في المستقبل القريب من مهام عسكرية وقيادية.
 ويذكر محمد السيد عيد - الذي يمتلك ناصية الكتابة الدرامية ببراعة مما أهله لكتابة عديد من المسلسلات التليفزيونية المرتبطة بحيوات شخصيات تاريخية أو علمية أو فنية مهمة - أنه لم يمر وقت طويل حتي تبين إبراهيم أن والده الذى لا يعرف القراءة والكتابة قد أحضر له ولأخيه معلمين لإجادة العربية، والإحاطة بأشعار العرب، وتاريخ البلاد التي يحكمها والدهما، إلي جانب فنون السيف، وأصول الحرب والقيادة.
ويشير مؤلف الكتاب إلى أن محمد علي لم يكن سعيدًا آنذاك فالمؤمرات حوله لا تتوقف؛ من زعماء المماليك لينازعوه الحكم: وأولهم البرديسي بك، ثم محمد بك الألفي، فقد جمع كل منهما جيشًا وراح يحتل البلاد التي يمكنه احتلالها، ويفرض سلطانه عليها، ويخوض المعارك ضد محمد علي وجيشه بلا توقف. ومما زاد الطين بلة أن المماليك من أتباعهما راحوا يعتدون علي المصريين، وينهبون أموالهم بلا حساب لسلطة أو حاكم.
هذا فضلًا عن أن السلطان العثماني كان غير راضٍ عن الطريقة التي فرض بها المصريون محمد علي عليه، فعقد العزم علي التخلص منه في أقرب فرصة، أرسل إليه بعد شهور قلائل من توليه حكم مصر قبطان باشا على رأس قوة قوامها 2500 جندي لعزله، لولا أن قبطان باشا رأى الفوضي التي تعم البلاد، وما يقوم به محمد علي للسيطرة على الأمور، فعاد إلي الأستانة بعد أن ثبته في حكم مصر بدلًا من خلعه.
وفي العام التالي، كرر السلطان المحاولة، وأصدر فرمانًا بنقل محمد علي إلى "سالونيك"، ونقل والي "سالونيك " موسى باشا إلى مصر، وأرسل صالح باشا على رأس قوة عسكرية لتنفيذ الفرمان السلطاني.

كلام محمد علي لولده كان درسًا، فبناء الدول لا يتم دون تضحيات وآلام، ومن طلب العلا فلا بد أن يدفع الثمن

كانت القوة العثمانية التي جاء بها صالح باشا كبيرة بمعيار العصر، إذ تضم ثلاثة آلاف جندي، وأربع بوارج، وفرقاطتين، وحين علم محمد علي بوصول هذه القوة قرر أن يتحرك في عدة اتجاهات، فاستعد أولاً للحرب، وأعد جيشًا أرسله إلى الرحمانية من أعمال البحيرة، وفي الوقت نفسه لجأ إلى زعماء الشعب الذين عينوه بعد أن ضاقوا بظلم المماليك، فكتب الزعماء إلى السلطان يعلنون تمسكهم بمحمد علي ورفضهم لعودة حكم المماليك، أما الخطوة الأخرى التي خطاها فتمثلت في بذل المال لمن حول صالح باشا لضمهم إلى جانبه.
وفي الكتاب يذكر محمد السيد عيد أن محمد الألفي اغتنم فرصة مجيء المندوب العثماني، وانشغال محمد علي بأمر تثبيت حكمه، ليحاصر دمنهور، وما إن علم بأن جيش محمد علي وصل إلى الرحمانية حتي قرر لقاءه هناك والإيقاع به، وتمكن بالفعل من هزيمته، واستولى على الرحمانية والنجيلة، ثم نوجه إلى دمنهور ليكمل مهمته، إلا أن أهل دمنهور تمكنوا من هزيمة محمد بك الألفي، وحققوا ما عجزت عن تحقيقه قوات محمد علي.
وخلال هذه الأحداث عرض محمد بك الألفي على صالح باشا، قائد القوة التركية، أن يدفع ألفًا وخمسمائة كيس من الجنيهات الذهبية مقابل عودة المماليك للحكم، ووصل الخبر لمحمد علي، فقرر أن يقطع الطريق على غريمه، بعرض دفع أربعة آلاف كيس مقابل تثبيته في حكم مصر، رغم أنه لم يكن لديه هذا المبلغ.
ونظر صالح باشا حوله فرأى حالة الفوضي التي تعم البلاد، ورفض الزعماء الشعبيين للمماليك، وتمسكهم بمحمد علي، وعلم أن الجنود أيضًا أعلنوا تمسكهم بمحمد علي، وقارن بين المبلغ الذي عرضه المماليك والمبلغ الذي عرضه محمد علي، فوجد أن محمد علي هو الأفضل للدولة العثمانية، فثبته في الحكم أيضًا بدلًا من أن يخلعه ويولي موسى باشا حكم مصر، ولكن ظهرت مشكلة المال، وبعد مفاوضات، اتفق محمد علي مع صالح باشا على أن يكون ولده إبراهيم رهينة لدى السلطان حتي يتم تسديد المبلغ. ولم يكن أمام محمد علي سوى الموافقة، ولكنه اشترط ألا يكون تنفيذ الاتفاق مهينًا لولده، فأرسل معه هدية حافلة وخيولًا وأقمشة للسلطان، وحمَّله رسالة من المشايخ ووجوه الناس وكبار رجال الدولة يقولون فيها للسلطان إن  محمد علي باشا كافل الإقليم، وحافظ ثغوره، ومُؤمِّن سبله، وقامع المعتدين، وأن السكان من الخاصة والعامة راضون بولايته، ولا يرتضون خلافه.  
وسافر إبراهيم وبصحبته أحد المقربين من أبيه، وقدم الهدايا والرسالة للسلطان، ورغم أن السلطان لم يكن راضيًا عن محمد علي إلا أنه أعجب بولده الشاب الذي أدى مهمته بأدب جم وثقة بالنفس، لكن إبراهيم رغم الإعجاب لم تغب عنه حقيقة وضعه، وكان يعرف أن عودته للقاهرة مرهونة بأن يدفع أبوه المبلغ الذي تعهد به، ولذلك عاش حزينًا، تنهشه الهواجس، يسأل نفسه: ماذا يحدث لو أن والدي لم يتمكن من تدبير المبلغ؟ هل يمكن أن تنتهي أحلامي بأن أكون قائدًا عظيمًا مثل الإسكندر المقدوني قبل أن تبدأ؟
 ويوضح عيد أنه من حسن الحظ أن انتظار إبراهيم لم يطل، فقد أرسل أبوه المبلغ بعد شهر واحد من سفره، فآن لإبراهيم أن يعود لمصر التي عقد العزم على أن تكون وطنه منذ وطأت قدماه أرضها.
ويشير محمد السيد عيد إلى أن إبراهيم حين عاد إلى مصر وجد والده في غاية السعادة، وحين سأله عن السبب أخبره محمد علي أن البرديسي أحد خصميه اللدودين، مات، وأن الأخبار وصلته بأن خصمه الآخر محمد بك الألفي يعاني من شدة المرض، وأغلب الظن أن المنية ستوافيه عما قريب، وبالفعل لم تلبث أن وصلت الأخبار بموته، وحينئذ تنفس محمد علي بارتياح قائلًا: "الآن قد ملكت مصر".
ويرى محمد علي أن الفرصة أضحت تسنح بأن يطلع ابنه على حلمه بتكوين دولة كبرى ترث السلطنة العثمانية التي شاخت، وصارت في نظر الكثيرين كالرجل المريض. وقال لولده إن بناء الدول العظيمة يجب ألا يوقفه شيء، وإن بناء هذه الدولة يحتاج إلى رجال يقفون إلى جواره، ويعاونونه في تحقيق حلمه. وطلب منه هو شخصيًا أن يختار من تعجبه من النساء الحرائر ليتزوجها، أو من الجواري كي يجعلها ضمن حريمه، وألا يكتفي بامرأة واحدة لأن الدولة في حاجة إلى رجال.  

history of Egypt
محمد السيد عيد

وكان كلام محمد علي لولده درسًا، فبناء الدول لا يتم دون تضحيات وآلام، ومن طلب العلا فلا بد أن يدفع الثمن.
ومن هنا تبدأ حملات إبراهيم باشا بطول الدنيا وعرضها إلى أن تتعارض فتوحاته مع مصالح بعض الدول والممالك فتقرر الإطاحة به.
ولكون مؤلف الكتاب سيناريست متمكن كتب السيناريو والحوار للعديد من الإعمال الدرامية التليفزيونية مثل مسلسلات: قاسم أمين،  والدكتور علي مصطفى مشرفة، وعلي مبارك، فقد حرص على كتابة مواقف تشوق قارئ هذا الكتاب، أسوق منها هذا الموقف الذي تصل فيه "أمينة هانم" زوجة محمد علي باشا إلى مصر بعد سنوات من البعاد عن زوجها وما يولده ذلك من هواجس قاتلة لها كإمرأة، فيكنب محمد السيد عيد:
جاءت أمينة هانم مع أولادها الثلاثة إلي مصر (إسماعيل، ونازلي، وتوحيدة)، وأرسل الباشا ولده إبراهيم بك لاستقبالهم في ميناء الإسكندرية، وهنا يضمن كتابه ما سبق وكتبه الجبرتي من أنه كان في استقبالها من سيدات الأمراء أكثر من خمسمائة سيدة، قُدمت لها الهدايا هي وأولادها، بعد أن ضُربت المدافع تحية لقدومها.
وفرح إبراهيم بك كثيرًا برؤية أمه وإخوته، واصطحبهم إلي القاهرة وهو يكاد يطير فرحًا، وكانت مشكلته الوحيدة هي أسئلة أمه التي لا تنقطع عن زوجة أبيه وجواريه، وقد حاول إبراهيم التخفيف عنها كثيرًا لكن المرأة كانت تشعر بلوعة وجرح عميق لم تستطع ان تخفيهما.
وفي القاهرة التقى محمد علي بعائلته، ولاحظ أن أولاده الذين حضروا مع أمهم قد كبروا، وأن إسماعيل الذى تركه في السادسة من عمره قد ناهز الخامسة عشرة. ونظر إلى زوجته سعيدًا وهو يقول لها: مهمتك الأولى في مصر مساعدتي في تكوين أسرة كبيرة؛ فلا بد من البحث عن عروس لإسماعيل، وحتى يتم ذلك سندبر له واحدة من أجمل الجواري، عله ينجح في تقديم أول حفيد لنا بعد أن تأخر شقيقاه إبراهيم وطوسون في هذه المهمة.
لم تجب المرأة الجريحة على كلام زوجها عن الحريم والجواري، واكتفت بنظرة صامتة قرأ فيها محمد علي أبلغ عتاب.
وحين انفرد بها بادرها بقوله إنها هي الحب الأول والأخير في حياته، وأنها هي الكبيرة على كل الحريم اللاتي يضمهن الحرملك، وأفهمها أنه لم يتزوج إلا مضطرًا حتي يكون أسرة كبيرة تساعده في حكم مصر.
 وراح يشرح لها ضرورة أن يؤسس مملكة لأولادهما لا تقل عن الدولة العثمانية. 
وصدقته المرأة الطيبة، وسلمت بأن من حقه أن يتزوج، وتمنت أن يصير كلامه عن تكوين مملكة يحكمها أبناؤهما حقيقة، وبدأت تحلم هي الأخرى.