الأنبار.. بين ظلم التاريخ وظلم التسمية

تستحق هذه المحافظة الكريمة من سواد العراق أن تحمل اسما مختلفا.

بذلت كل جهدي، وأنا أكتب عن محافظة الأنبار، في العثور على أصل تسمية تلك المحافظة التي مركزها مدينة الرمادي، ولم أجد مبررا أن يطلق عليها محافظة الأنبار، لكون التسمية أطلقت أصلا في العهد الساساني قبل الاسلام، على مدينة قريبة من الصقلاوية الحالية، الأقرب الى بغداد، وتكاد ارتباطها مع مدينة الرمادي قليلا، وليس له أهمية تذكر.

ويشير بعض المؤرخين الى أن أصل تسمية الأنبار تعود الى إنها أنبار أي مخازن أو ما يطلق عليه أهل الرمادي الآن عنبار أي مخازن المواد، أيا كانت غذائية وتمر، وغلال الحنطة والشعير، لكون المنطقة مشتهرة بالزراعة منذ أقدم عصور التاريخ، حيث نهر الفرات ينساب بين مدنها ليشكل منها جزيرة خصبة وهبها الله من الثروات والغلال، ما تعد إحدى جنات عدن من حيث القيمة الزراعية والثروات التي تكتنز في باطنها، وبخاصة الفوسفات ومختلف انواع الرمل والحصى المخصص للبناء، إضافة الى كميات كبرى من الغاز وربما النفط الذي لم يكتشف حتى الآن.

تعّرض تأريخ الأنبار وأصل تسميتها الى ظلم كبير، وهي المدينة العراقية العربية التي نزح أهلها من اليمن وكان غالبيتهم من المناذرة، وقطنوا في تلك الصحراء الممتدة على طول نهر الفرات في مناطقها الغربية الغنية بالزراعة وجني الغلال والخضرة الدائمة والبساتين العامرة، وهي تمتد حتى مدينة الرمادي الحالية، ولم تكن الفلوجة أو الصقلاوية ذات أهمية كبرى في ذلك الزمان، إذ ان بعض المؤرخين يقع في خلط فاضح، حين يشير الى أن التسمية وردت في العهد الساساني أي في عهد احتلال الفرس للمنطقة الغربية من وادي الرافدين الممتد الى بلاد الشام، وان ملك بني ساسان سابور الأول كما يزعم بعض المؤرخين في أعوام 241 -272م، هو من أقام فيها ثم وسعها، وحول إسمها الى فيروز شابور أي الملك المنتصر، بالرغم من أن كل الدلائل التاريخية تشير الى أن الأنبار التي قصدها ملوك الفرس، لم تكن مدن الانبار الحالية، وانما إقتصر وجودهم فيها على منطقة قريبة من الصقلاوية وهي منطقة أقرب الى مدينة الفلوجة الحالية، وهناك عسكر أمراء فارس، وأقاموا فيها مخازن لاسلحتهم وعتادهم من الخيل والمؤن، وتحولت الى ما يشبه الخان، أي الاستراحة على الطريق في التسمية القديمة. ومدينة الصقلاوية المهملة حاليا لايمكن أن تختزل تسمية محافظة بأكملها لكي يتم تسميتها بمحافظة الانبار، وهو الخطأ الذي وقع فيه من أطلق إسم الانبار على كامل محافظة الانبار وترك المدن العائدة لتلك المنطقة الممتدة من غرب الأنبار وحتى وسط مدينة الرمادي الحالية، التي أشير الى أن تسمية الرمادي من تل عال هناك يسمى تل الرمادي، بينما تشير أغلب الدلائل الى أن تسميتها تنطلق من لون الصحراء (الرمادي) وهو اللون المتعارف عليه عالميا بالرمادي اي الأقرب الى لون الصحراء، حيث أن المناطق الصحراوية تحتل مناطق شاسعة من أراضي تلك المحافظة.

وقد إتخذ الخليفة العباسي أبو العباس السفاح منطقة قريبة من الصقلاوية مقرا له، حتى أواخر الدولة الأموية، وأنشأ فيها داراً للخلافة وسماها الهاشميةَ وشيد بها قصوراً له ولأهله حتى وافاه الأجل ودفن بها، وقيل أن قبره ما يزال شاخصاً في أطلالها، إلا أنه لم يتخذ من مدن الرمادي الحالية الممتدة الى الشام أي مقر له، ولهذا فضل الصقلاوية كونها بعيدة عن أهل الشام الذين ما يزالون يتابعون أخبار بني العباس للاقتصاص منهم، بعد أن أخذوا منهم الخلافة، والمعارك التي إحتدمت أنذاك، ولو كان مقر الخلافة في مدن الرمادي الحالية لقصدها بنو أمية، ولهاجمهوها، ولكن أبو العباس السفاح ومن بعده أبو جعفر المنصور كان يسعى لإبعاد مقراته ومقرات الخلافة عن بني أمية في الشام، ولهذا فقد أقام على مقربة من بغداد الحالية وفي أطرافها وهي التي تسمى الآن بالصقلاوية، على أكثر تقدير، وهي مدينة صغيرة لم يكن لها أهمية سوى أنها تقع على خاصرة نهر الفرات وتوفر حماية لمقر الخلافة، وبعيدا عن أعين بني أمية الذين يرسلون الجواسيس لملاحقة رجال بني العباس.

ولهذا فإن تسمية منطقة صغيرة واطلاقها على كل مدن محافظة الانبار بتسميتها الحالية، ليس له ما يبرره، وكان الأفضل ابقاؤها على تسمية الرمادي، أفضل من تسميتها بالأنبار، التي لا ترتبط جغرافيا ولا تاريخيا كثيرا بمدن أكثر أهمية، وكانت مركز الزراعة والمياه، وقد بنيت الكثير من القصور على طول نهر الفرات الممتد من مناطق غرب الانبار الى مركز مدينة الرمادي الحالية.

وحتى عندما إستخدمها بنو فارس كملاذ آمن لهم في منطقة الصقلاوية القريبة من الفلوجة الحالية، ارادوها أن تكون مقرا (مؤقتا) لترحالهم الى الشام، وليس مرتكزا لدولة بني فارس، كما يشير البعض الى أن الساسانيين جلبوا معهم عددا كبيرا من الفرس وهم من قطنوا في تلك المنطقة، واطلقوا عليها أنبار، أي المخازن وهي أقرب الى الحلة وبابل الحالية، ومنطقة الحيرة التي إختارها الفرس أنذاك مركزا لتمركزهم، وما حدث من معركة القادسية الأولى في عصر الاسلام يوم ازاح المسلمون في زمن الخليفة عمر بن الخطاب بني ساسان واعادوهم الى بلادهم، بعد إن شنوا ضدهم معارك كر وفر، إنتهت بإنتصار الدولة الاسلامية على الدولة الساسانية الفارسية في معركة القادسية.

والطامة الكبرى أن هناك من المؤرخين من يشيرالى أن كلمة أنبار هي كلمة فارسية تعني المخزن. أسماها المناذرة الأنبار لأنها كانت مخزناً للعدد الحربية أو لأنها كانت مخزناً للحنطة والشعير، وتعد من أهم المدن في فترة الاحتلال الساساني على العراق، لأنها ذات مركز حربي مهم لحماية العاصمة المدائن من هجمات الروم.

ويقال أن الانبار هي المنطقة القريبة من الصقلاوية الحالية، وعند ظهور الإسلام وبدء العرب بالفتوحات الإسلامية فقد فتحت الأنبار في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (رض) على يد المثنى بن حارثة الشيباني الذي صالح خالد بن الوليد أهلها وذلك في سنة 12هـ وينسب اليها خلق كبير من أهل العلم والكتابة.

وتشير بعض المصادر التاريخية الى أنه لم يرد للأنبار ذكر في كتب التاريخ بعد القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي حتى مجيء الوالي العثماني مدحت باشا الذى تولى ولاية بغداد في المدة  1869 -1871 وقام هذا الوالي بأعمال كثيرة خلدت ذكره في معظم المدن العراقية، فقد نشأت مدينة الرمادي على شكل قصبة استخدمها هذا الوالي في عام 1870 لغرض إدارة العشائر في المنطقة المحيطة بها، ما يعني إختفاء أثر الأنبار التي اتخذت مركزا لانطلاق الساسانيين ومن ثم في العصر الاسلامي، وعانت من الإهمال، وتحولت الى منطقة ليست لها أهمية تذكر.

وتعد محافظة الأنبار من أكبر المحافظات العراقية مساحة، لكن عدم الاهتمام بها منذ أزمنة طويلة والاهمال الذي أصابها طيلة عقود من الزمن هو من أخر تقدمها، برغم ما شهدته من عمران كبير منذ سنوات.

تنقسم محافظة الأنبار إلى ثمان مناطق إدارية هي أقضية: القائم والرطبة وعنه وراوة وحديثة وهيت والرمادي (مركز المحافظة) والفلوجة.

وهنا أود أن أشير الى قضية مهمة أيضا، وهي ان الانبار تخلو من معلم او صرح أثري تاريخي، يليق بمكانة أهلها، برغم أن الدلال والخيول العربية الأصيلة تكاد تكون العنوان الأبرز المعبر عن هويتها العروبية الأصيلة، ولم يجد الزائر للمحافظة معلما او دلالة تاريخية، تكون علامة دالة أو رمزا يشير الى أهمية تلك المحافظة ودورها التاريخي، وبخاصة عند مداخل مركز المحافظة، حيث لا يشعر الزائر بوجود معلم يرمز الى تلك المحافظة، يمكن ان يتعرف به الزائر أو حتى في الجانب السياسي والثقافي والعرفي، كما حال المحافظات الأخرى، أما تشييد ساحة او معالم حديثة لاترتبط بالأرث الثقافي والمعرفي، فهو ما لايضيف لها أية قيمة، ولهذا فإن التفكير بإيجاد رمز تعبيري على شكل نصب أو تماثيل في مداخل المحافظة او في وسطها، مثل الدلال العربية او الخيول العربية يكون من الأهمية بمكان، وينبغي الإسراع بعمل فني وتأريخي، من هذا النوع في أقرب وقت.

وما أود توضيحه في هذا الإستعراض، وأتمنى أن يعينني المختصون بالتاريخ من أهل الانبار وغيرها من المحافظات العراقية، أن إبقاء تسمية الأنبار على المحافظة الحالية، ليس له ما يبرره، وأفضل شخصيا أن يطلق عليها محافظة "الكبرياء" أو محافظة "أهل الكرم"، أو محافظة "الأمل العربي". ولو تدارس المختصون إسما آخر يليق بتلك المحافظة العروبية وتاريخ أهلها، لكان أفضل وأجدى من أن ترتبط هذه التسمية ببلاد فارس او بإسم مدينة هجرها التاريخ، ولم تعد لها قيمة سياسية كبرى، وتبقى تسمية الرمادي، أفضل بكثير من الأنبار، إذ إن الفرس الذين يناصبون أهل العراق عامة وأهل الرمادي بخاصة العداء الأعمى، سوف يبقون يلاحقون تلك المحافظة بذريعة أنهم هم من أطلقوا عليها هذه التسمية وهي تعد مركز انطلاقتهم الى الشام، حيث يتم منذ سنوات إعداد طريق استراتيجي لربط الانبار ببلاد الشام عبر طرق مواصلات وقطار يمتد الى بلاد فارس، كي يكون بمقدور الايرانيين اتخاذ تلك المحافظة مركزا لانطلاقتهم نحو توحيد بلاد فارس مع العراق والشام وإحياء امبراطوريتهم الفارسية التي يحلمون بإعادتها، وهو ما ينبغي الحذر منه كثيرا، وبخاصة ان لإيران علاقات واسعة مع الكثير من ساسة أهل الانبار وتربطهم بها علاقات على نطاق واسع، وهم يغضون النظر عن تحركات من هذا النوع، وكأنهم لايسمعون ولا يرون شيئا، ولا تهمهم مصلحة أهلهم في تلك المحافظة العروبية الأصيلة وسمعتها، ولكي لاتتحول مرة أخرى الى قلعة من قلاع فارس، وان نعمل بكل جد وحرص وحزم لا يلين من أجل ايقاف أحلام إيران التوسعية، لكي لاتتخذ من أرض ومدن الرمادي وما يسمونه هم بالأنبار، مركز انطلاقتهم نحو بلاد الشام.