الإبداع خرق للإجماع على مر العصور

ماجد موريس يؤكد أن عمله كطبيب نفسي يؤثر بشكل قوي على كتاباته، فمن الصعب أن نفصل الطب النفسي عن الأحداث الجارية والظواهر السائدة في المجتمع.
الإنسان هو اللبنة الأساسية في أي نشاط اجتماعي، فهو بذاته موضوع الطب النفسي؛ فكرًا ووجدانًا وسلوكًا
لبنان ابنة الفينيقيين، أصحاب الحضارة المميزة بالساحل الشرقي للمتوسط
حضارة شرق المتوسط صنعها سكان الربع الأوسط من الساحل، في تحدٍ لصعوبة الطبيعة

"هذا الكتاب ليس أول مؤلفاتي، لعلك تعرف أن كتابي [الإرهاب، الظاهرة وأبعادها النفسية] الذي نشر 2006، ونال جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي كأفضل كتاب مؤلف باللغة العربية في العلوم الإنسانية، وقد أعلنت النتيجة بمعرض الكويت الدولي للكتاب، وبعده نشر لي كتاب مترجم بعنوان [التنوير]، وفي مصر صدر لي عن الهيئة المصرية العامة للكتاب "سيكولوجية الديمقراطية" 2016".
وأكد الدكتور ماجد موريس أن عمله كطبيب نفسي يؤثر بشكل قوي على كتاباته، فمن الصعب أن نفصل الطب النفسي عن الأحداث الجارية والظواهر السائدة في المجتمع لأن الإنسان هو اللبنة الأساسية في أي نشاط اجتماعي، فهو بذاته موضوع الطب النفسي؛ فكرًا ووجدانًا وسلوكًا، سواء كان السلوك من قبيل المبادرة أو كان في إطار رد الفعل.
وتساءل محدثي: وهل يمكن أن نباعد بين الإنسان والإبداع أو الإنسان والقهر أو الإرهاب أو التنوير أو نظام الحكم؟
أعود لأحدث مؤلفاته، لأوضح أنه صدر عن "دار النهضة العربية، بيروت" التي تديرها الناشرتان الشقيقتان: نسرين، ولينا كريديه، ومما يسعد أي كاتب أن يتعامل مع ناشر يتسم بالوعي الثقافي، والحس الجمالي.
ويذكر الدكتور ماجد موريس أنه عندما يكون الناشر صاحب رسالة تتلاشى مساحة الخلافات التقليدية بينه وبين المؤلف.
ويضيف قائلًا: تخيل أن السيدة نسرين تقوم على مراجعة عمليتي النسخ والتنضيد بنفسها، ومن منطلق حماسها للمضمون فإنها قامت بتصميم غلاف كتابي "الإرهابي، شهوة الدم ولغز الانتقام"، بالإضافة إلى الغلاف المبهر لكتاب "القهر والإبداع" الذي وصل إلى المكتبات قبل أسبوع تقريبًا. والسيدة لينا صاحبة موهبة أدبية مميزة ووهي صاحبة ثلاث روايات: "ما ودعك صاحبك"، و"خان زاده"، و"نساء يوسف".
ويجب أن نقر بالدور التاريخي للناشربن اللبنانيين الروّاد الذين أحدثوا طفرة في صناعة النشر في مصر في الثلث الأول من القرن العشرين؛ وقد سبقهم سليم وبشارة تقلا مؤسسا "الأهرام"، و"جورجي زيدان" مؤسس "دار الهلال"، و"آل ديمترى" مؤسسو "دار المعارف".
ويضيف الدكتور ماجد موريس، الذي يتمتع بثقافة موسوعية عريضة، قائلًا إن لبنان ابنة الفينيقيين، أصحاب الحضارة المميزة بالساحل الشرقي للمتوسط، كم هو ضروري أن نؤكد حاليًا على أهمية هذا المدار من بين مدارات الانتماء في الثقافة المصرية، والوقت مناسب جدًا الآن لإعادة ترتيب أولوياتنا.
في الأسطورة المصرية القديمة عثرت "إيزيس" على أشلاء "أوزوريس" في "بيبلوس" بلبنان، وعادت بها إلى مصر، وبعثت فيها الحياة حتى أنجبت "حورس"، فإذا جعلنا من هذه الحكاية رمزية إعادة الإحياء القادم إلينا عبر المتوسط ومن لبنان تحديدًا، عبر المتوسط أيضًا، اليونان، وتلمذة فيثاغورس بـ"مدرسة الإسكندرية"، وأفلاطون على يد أفلوطين، وتأسيس الإسكندر للإسكندرية.
وعبر المتوسط أيضًا كانت علاقتنا بالحضارة الرومانية، المعركة التي دارت بين أوكتافيوس من جهة، وأنطونيو وكليوباترا من جهة أخرى، ورحلة كليوباترا إلى روما. ناهيك عن تفاصيل أخرى في العصرين الوسيط والحديث. كل هذا يعود بنا إلى فكرة الانتماء المشترك لحوض البحر المتوسط.
ويضيف: دعني أكرر ما قاله توينبي من أن حضارة شرق المتوسط صنعها سكان الربع الأوسط من الساحل، في تحدٍ لصعوبة الطبيعة، وقد انحصروا في شريط ضيق بين الجبل والبحر، فكان السفر، وكان الإبحار، كمثال لعلاقة "التحدي/الاستجابة" التي يتم من خلالها تفسير نشأة الحضارات. والمصريون في تحديهم للموت أبدعوا فكرة الخلود التي تجلت في التحنيط وبناء الأهرامات. وسكان "ميزوبوتاميا" في تحديهم للمجهول أبدعوا علوم الفلك والتنبؤ. 

الكاتب ينتصر لإنسانية الإسلام بمعنى أنه يجب أن يترفع على أن يكون محدودًا في أمة واحدة تعيش تحت مقولة أنها خير أمة أخرجت للناس

وعلى نسق (التحدي/الاستجابة) يأتي نسق (القهر/الإبداع) الذي يوصلنا للولوج مباشرة إلى موضوع الكتاب الأحدث للدكتور ماجد موريس، فيقول: فكرة كتابي تنهض على أن الانسان ولو عاش في المدينة الفاضلة، فهو لا يزال خاضعًا لثلاثة حدود لصيقة للقهر هي؛ قهر الذات، وقهر الزمان، وقهر المكان.
وهنا أستعير من الكتاب الفقرة التالية التي نصها: "قهر الذات مغزاه كون الذات إطارًا لا فكاك من ممارسة الوجود من خلاله، وقهر المكان هو قهر آت من كل ما هو كائن حولنا، وهو يهدف إلى تحديد مساحة أو كثافة وجودنا في اللحظة، وقهر الزمان يحتمه كون الذات الكائنة في جزء من المكان حدثًا مؤقتًا على محور سابق عليها، لاحق بها، وهو محور الزمان" ويمضي الكتاب في المقدمة ليوضح أن القهر الساحق الماحق لا يؤدي إلى الإبداع، ولكن الرغبة في تجاوز القهر هي الحافز للإبداع.
ومما جاء في مقدمة الكتاب أيضًا: "لقد وجدنا في العالم، وقبلنا تحدي أن نوجد، وعشنا داخل أطر القهر، وكان علينا أن نتعامل معه إبداعيًا، وكانت كل حركة تنطوي على مخاطرة بالوجود ذاته.
وأدرك الإنسان منذ البداية أن من لم يخاطر بشيء لا يمكن أن يكون هو نفسه شيئًا.
والكتاب مكون من أربعة فصول وخاتمة مهمة للغاية. الفصل الأول عنوانه "حدود مثلث القهر"، وهو يتناول قهر الذات، روافدها وعلاقة الشخص بذاته، ووجه التشابه بين "النرجسية" و"العدمية".
ثم يتناول حد المكان بما ينطوي عليه من قهر الطبيعة، وكيف تؤثر على البنية الجسمية والنفسية. وقهر البيئة البشرية، بما فيها من تمييز بسبب اللون أو الدين، وكذلك قهر اللغة. وأخيرًا.. قهر الزمان، مع تعريف لمفهومي الزمان الذاتي، ونسبية الزمان.
والفصل الثاني يتناول فيه المؤلف العملية الإبداعية ومراحلها، من تحضير واستبطان وومضة ابداعية، يعقبها الجهد التنفيذي، وهناك توضيح غير مسبوق للآليات الفسيولوجية التي تتم في المخ وتواكب العملية الإبداعية؛ يشرح فيها الدكتور ماجد موريس دور الجهاز الحوفي والنصفين الأيمن والأيسر للمخ، مع الأشكال التوضيحية. ولا ينتهي هذا الفصل قبل تفسير الجمالية الإبداعية وسيكولوجية التذوق ودوائر التواصل المختلفة.
ونصل إلى الفصل الثالث، حيث بيان العلاقة بين الإبداع والمرض النفسي، مشيرًا إلى أن الإبداع على مر العصور يكون خرقًا للإجماع ومن ثم يتهم صاحبه، إما بالكفر، أو بالجنون.
ويذكر المؤلف أن "ابن حنبل" عارض المعتزلة، واضطهده المأمون، ويضيف بأن ابن رشد أيَّد المعتزلة، واضطهده خليفة الموحدين، وعبر النسق ذاته كان التعامل مع كل من: "جيوردانو برونو"، و"جاليليو" وغيرهما.
وفي هذا الفصل محاولة للإلمام بالعلل النفسية التي أصابت مشاهير العلم والفن والأدب والسياسة. وينتهي الفصل بالبحث في محاولة فهم هذه العلاقة الملغزة، مشيرًا إلى أن الإبداع يلتبس فيه الإلهام والضلال والاكتشاف، ومشيرا أيضا على إشكالية كل من شخصية المبدع وتعقد وخصوصية العملية الإبداعية.
والفصل الرابع يتناول العلاقة بين الإبداع والسلطة، في كل عصر يوجد بطانة من المبدعين تحيط بالسلطة في الوقت ذاته الذي نردد فيه أن المثقفين دائمًا ما يكونون إلى اليسار من السلطة. فيضم هذا الفصل إشارات إلى العلاقة بين الإبداع والفاشية، والشيوعية، والتكنوقراط، والدولة الدينية، وأخيرًا الديمقراطية. 
ويورد المؤلف أمثلة عن تعامل "هتلر"، و"جوبلز" مع المبدعين، وكذلك "ستالين". وهناك به تذكرة بمأساة محمد محمود طه وجعفر بناهي.
وخاتمة الكتاب لا تقل أهمية عن أي من فصوله؛ فهي تعنى بالمستقبل، وهنا يستعير المؤلف بالنص التالي: "الفهم البسيط للتتابع في حياتنا هو أن الماضي علة الحاضر والحاضر علة المستقبل، لكن واقع الأمر هو أن الحاضر كان مستقبلا لحاضر سبقه، وأن القادم سوف يكون حاضرًا عندما يأتي ليزيح الحاضر الذي هو الآن، إلى حيز الماضي ومعنى هذا هو أن المستقبل هو علة التغيير... الزمن يستمر ليس لأن الحاضر يمضي، بل لأن المستقبل هو الذي يأتي".
ومن هذه الرؤية لأهمية المستقبل يطرح الكاتب أربعة عوامل قاهرة يرى أنها علامات سقم الثقافة العربية المعاصرة، وهذه العوامل هي: سلطة النص، ويقترح أن نتعامل معها بالمجاز أدبًيا، وبالتأويل دينيًا.
العامل الثاني هو "عقدة الاضطهاد" التي تدفع إلى مزيد من التحوصل، ويرى أن تجاوزها يأتي من الانخراط الإيجابي الواثق في تيار العولمة، دون التخلي عن الخصوصية المميزة التي هي جواز مرور إبداعنا نحو العالمية.
ثالثا يري الكاتب أن المزج التعسفي بين العروبة والإسلام قد أضر بكليهما، فينتصر الكاتب لإنسانية الإسلام بمعنى أنه يجب أن يترفع على أن يكون محدودًا في أمة واحدة تعيش تحت مقولة أنها خير أمة أخرجت للناس.
والعائق الرابع في سبيل ثقافة المستقبل يكمن في العلاقة مع العلم؛ فمن جهة، ينبغي الانحياز المطلق للعلم، في مقابل الخرافة وسلطة السلف.