الإصرار على الحياة في شعر ربا شعبان

جدتي كانت فلسطين مجسدة بثيابها وحديثها وتقاليدها وأغاريدها وأهازيجها وكل التجاعيد التي أحاطت بعينيها منذ أن افتقدت الوطن منذ سبعة عقود.
الشاعرة الفلسطينية يجتمع في قصائدها الفرح والوجع والحب والدفء
تتجمّعُ الأضدادُ عندَ أنوثتي / فأنا جليدُ النارِ .. شهدُ العلقمِ

ربا شعبان الشاعرة الفلسطينية التي تسكنها الأرض بذكرياتها المنقولة والمحمولة والمسموعة والمقروءة، تقول: 
"جدتي كانت فلسطين مجسدة بثيابها؛ وحديثها؛ وتقاليدها؛ وأغاريدها؛ وأهازيجها؛ وكل التجاعيد التي أحاطت بعينيها منذ أن افتقدت الوطن منذ سبعة عقود، لم يفارقني منظرها وهي تنزع شوك العَكوب". وتهمها حال الإنسان في مواجهته لتقلبات الزمان، وتقف بشموخ وحب وجمال إلى جانب المرأة في مشوارها الصاعد.
عرفتها حين كتبت عن صورة العربي في الشعر الفلسطيني المعاصر؛ فألفيتها شاعرة ترسم بألوان الفرح والدهشة، وتستعير من قوس قزح التفاتته لعيني طفل يبحث بين الغيم عن ومضة جميلة ليطرز بها يومه. 
ويجتمع في قصائدها الفرح والوجع والحب والدفء، فهي تكتبُ عن الوطن بين حالين ما كان عليه وما صار إليه، وعن الأنثى بين موقفين، أنثى تتباهى وتفاخر بأنوثتها، وإنسانة ناجحة تثبت أنها قادرة على التقدم والثبات وتحقيق الذات. وهي شاعرة بعزيمة وعزم قويين دائمة البحث عن الأجمل والأفضل في الحياة والإنسان .
وربا سليم شعبان الفلسطينية السورية الإمارتية شاعرة بحثت عن الصبح القريب في ديوانها "صهيل الصباح"، وتمردت على الوهم في ديوانها "سنخدع بالسراب" ونسجت من روحها ووجدانها "سماءٌ أضيق مِن جناحين" ورابطت على أبواب اللغة العربية لحمايتها ونشرها في "مدينة الضاد".
وترفض ربا شعبان الموت بصوره كلها، وهي ترى أن بقاء الإنسان مرتبط بذكره وحرفه، فمحمود درويش لم يمت وإنما يهدهده حلم التحرر والعودة ليصحو بنا، ويعيد الأمل لنا كما نبض يؤججه الوريد، تقول مرثيته: 
يا سادتي ما مات شاعرنا
ولكن نام
هَدهَده مساء الحلم كي يصحو بنا
نبضاً يؤججه الوريدْ

دائرة الصراع بين الحياة والموت تمتد في قصيدة "ضلع أعوج" إلى حياة المرأة، فتصبح الشاعرة هي النساء كلهن بصوتهن، ومعاناتهن

وفي هذه الدراسة سأتتبع في مجموعة من قصائد الشاعرة حبها للحياة ونبضها، ورفضها للموت، فهي في أغلب قصائدها باحثة جادة عن الحياة، تغنّي لها، وتسعى إليها، وترسمها، وتربطها بكل ما يبهج ويسعد، وهي متمردة على الموت رافضة له ثابتة على ذلك، فهي تربطه بكل نكوص وخذلان وضعف وخسارة. وقد استعنت بأدوات المنهج الوصفي التحليلي والجمالي للوصول إلى غايات البحث ومناقشة أسئلته. 
لقد طرقت ربا شعبان في بحثها عن الحياة أبوابا كثيرة، وحملت رغبتها بها في أكثر قصائدها، ولعل في غنائها لجدتها المثال الأوضح الأقرب على بحثها عن الحياة.
فالجدة تنزع الشوك عن العكوب لتصنع مادة للحياة، وتروض الأشواك لتفيد منها، وتحمل المفتاح لتبقي حلم العودة حياً، وتغني للعودة وللبيوت التي هجروها لتبقي الحلم حيا في الروح، فهي جدة تحب الحياة تظل تجدد الحياة في حلم العودة في روحها في طبخها وغنائها وحكاياتها المطعمة بالحنين، فالبيت في بلادها يسكنها، وهي تبنيه في عروق الحكايات التي تنثرها على الأطفال، تقول: 
ولجدتي "العَكّوب" تطهوه وتنزع شوكه 
فيعود طعم "البيت" في حلق الغريبْ
وتروّض الأشواك ترجع ذلك الشدو النحيبْ
كلّ الأغاريد التي قد أجهشت حد الأنينْ 
من أين تحفظها؟ وكيف؟
وكلّ زيتون البلاد غدا دموعاً حين يعصره الحنينْ
ما غادر المفتاح صدر هوائها 
وهي التي قد غادرت منذ اندلاع النار في ذاك الهشيمْ
والبيت يسكنها وتبنيه رويداً في عروق حكاية 
وتعيده لو هدّمته يد السنينْ.
وفي قصيدة "دفء الجذور" حين يتعب الشاعرة الواقع ويخيل إليها أنها قد أضاعت قوتها ودليلها تستعين بكل ما يبث الحياة في الروح والكلمات، فهي تصر على البقاء حية، فتطلب من أمها أن تمد يديها لها، فتمدها أغنيات أمها بالقوة ويعود لصوتها الحياة، تقول:
مدي يديك
فقد أضعت يديا
وفقدت في الطرق الدليل إلي...
أمي تدندن في سطور قصيدتي
وتعيد صوتي رائقا وشجيا
إني تهجأت الأمومة عندما
ما زلت أبحث عن جمالك فيَّ
ما زلت أجهل كيف أجعل خافقي
قمرا حنونا حارسا ونبيا.
وفي قصيدة "الناجي الوحيد من الغرق" حمّلت الشاعرة عتبة النص رغبتها في الحياة، فالقصيدة عن الناجي من الغرق، الذي اختارت أن تبتدئ به قبل أن تتعبنا بالحديث عن الغرق.
وهي في القصيدة تبقي آثار الحياة حاضرة حتى وهي تتحدث عن الموت، فتحضر الماء إلى جانب الملح، وتحضر الحياة إلى جانب الرثاء، وتختار الحديث عن النجاة من بحر مليء بالأقذار تغرق فيه أرواح الناس وأجسادهم. وتستحضر الصدق في وصفها لعالم مليء بالكذب والذل والزيف، وهي حين تذكر من غاب لنبقى أحياء يموج البحر في شفتها لتكتب والكتابة حياة، تقول:
الملح والماء في صوتي وفي كبدي 
فكيف أجرؤ أن أرثيك يا ولدي!؟
نجوت من بحر أقذار بنا عصفت 
والكل فيه غريق الروح والجسدِ 
كم ذا لبسنا ثياب الذل زائفة 
فكيف تشهر سيف الصدق عن عمد!؟
إذا ذكرتك ماج البحر في شفتي 
وازبد الموت والإعصار في خلدي
هل ضاقت الأرض أم أقدارنا اتسعت؟
أم قد غدونا كملح البحر والزبدِ!؟
وفي قصيدة "عندما زغردت السنابل" يصبح القمح المعادل الموضوعي للحياة والحرية، وتصبح روح الشاعرة وجسدها هما الشعب الفلسطيني المقاتل المقاوم المعذب والمشرد في كل مكان، فيجري القمح في عروقها كالدم، ويعرفها وتعرفه، ويعزفها وينزفها، وحين تموت يمنحها حياة السنابل لتعود وتبقى على قيد أمل بالعودة والتحرر، ولأنها متمسكة بالحياة، ولأن الشمس تمنحها جدائلها لن يستطيع القتلة قتلها، فهي لذلك على موعد مع النصر. وتعود العنقاء للحياة كلما ظنوا أنهم قتلوها وأنهوا وجودها. فهي تولد من حرائق شقراء كالطائر الخرافي وتعود للحياة كزقزقة، أو كحكاية لا تنتهي. ولن توهن قدميها السائرتين كل هذه النيران المعدة لحرقها، وتقول لهم انظروا تاريخي لتروا كيف بقيت حيًا على الرغم من كل الصلبان والمسامير، تقول: 

Poetry
أنا مليكةُ تاجكَ المتوهّمِ 

لأن القمح يجري في عروق الروح
يعرفني
ويعزفني 
وينزفني
وحين أموت 
يمنحني حياة سنابل ماتت ..
لأن حرائقي شقراء 
لن يقووا على قتلي ...
فإن الشمس تمنحني جدائلها ...
وهذا الوقت عصفور على كفي 
وإن ألقمته حتفي 
سيرجعني كزقزقة 
وأرجعه كتحليق ...
أنا الأرض التي حبلت 
بألف حكاية ثكلى ..
وما جفت على ريقي..
ولن أنسى 
أنا الفينيق 
تعرفني طيور النار لو بعثت ...
سلوا عني 
حكايا أمسي الحاضر ...
مساميري 
على الصلبان 
سلوا عني 
سماء تمطر القرآن 
سلوا عني 
مدى 
ا
ل
أ
ز
م
ا
ن.
وفي قصيدتها ”قصيدة وصورة" يظهر الصراع واضحًا بين الموت وتوابعه ومتعلقاته والحياة وما يسندها، ولكنها في هذه القصيدة تستمد الحياة من الله فهي حية بذكره، قوية بحبه، فبعض نوره يحييها: 
ستشرق الروح بين الماء والطين 
فبعض ضوئك يا رحمن يكفيني 
من نحن إن لم نكن أنفاس بسملة
من رعشة الريح أو همس الرياحين
 النار في الماء هل يطفيه حيث بدا  
أم أن ناري حيث الماء  تصليني؟
هذي الطريق بنا تمضي ويسبقنا 
لهاثنا المر بين الحين والحين
يقتاتنا الجوع والأمطار تشربنا
وحسبي الحب حب الله ينجيني ...
لي حظوة عند من أحببت تشفع لي 
أني بحرزك بين الكاف والنون ...
هذا يقيني ...
يقيني كل عاصفة 
ما دام صوتك دفقا في شراييني.
وتمتد دائرة الصراع بين الحياة والموت في قصيدة "ضلع أعوج" إلى حياة المرأة، فتصبح الشاعرة هي النساء كلهن بصوتهن، ومعاناتهن، فترفع صوتها عاليا بالأنا التي تحمل كل ما تهبه الأنثى من حياة أمّاً، وحبيبة ونعيمًا، وسكناً، ثم تحاول إثبات حقها باتخاذ القرار مستعينة بما كان للمرأة من مكانة، وتصر على أن المرأة إن كانت حية ستنجب حياة، وإن مسها ظلم ستنجب عقمًا، تقول: 
تتجمّعُ الأضدادُ عندَ أنوثتي 
فأنا جليدُ النارِ .. شهدُ العلقمِ ..
وأنا الأمومةُ والطفولةُ والهوى ..
وأنا حريرُ القُرب ... بُعد الأنجمِ ...
بلقيسُ لو نكّرتَ عرشيَ مرةً 
أدري بأنك في ظلالي ترتمي
ولئن ظننتَ بأن عرشكَ قائمُ 
فأنا مليكةُ تاجكَ المتوهّمِ ..
من قبل أن يرتدّ طَرْفُكَ لحظةً 
ستعودُ للصرحٍ الممرّدِ في دمي 
نونٌ.. كضلعِ حول قلبكَ ينحني 
لولا اعوجاجُ الضلعٍ أنّى يحتمي 
إن مسًّه ظلمٌ سينجبُ عقمَه 
رحِمُ البذورِ تموتُ إن لم تُرحمِ ..
إنس.. ان .. نحن اثنان .. إلا أننا ..
رقم إذا قسّمته لا يُقسَمِ 
نِدان أو ضِدان إمّا أظلمت 
سيضيؤنا حبٌ بليلٍ معتمِ.