صحوة المحب في قصيدة "أنا عليك المدعي"

قصيدة مؤيد الشايب تمتلئ بالغنائية الناعمة التي يقودها إيقاع هادئ تدعمه موسيقى داخلية وخارجية.
من ذا الذي أَبْكى بلابلَ لهْفتي ** وسَطا عَليَّ على تلالِ تَلوُّعي!؟
حتَّامَ تسبقني لمحكمةِ الهوى ** وأنا عليكَ أنا عليكَ المُدَّعي

تمتلئ قصيدة "أنا عليكَ المُدَّعي" للشاعر مؤيد الشايب بالغنائية الناعمة التي يقودها إيقاع هادئ تدعمه موسيقى داخلية وخارجية؛ وأما الموسيقى الداخلية في القصيدة فاعتمدت على تقنيات منها حسن اختيار الشاعر لحروفه وألفاظه وإبداعه في صوره وأخيلته حتى استطاع بناء نص متوازن متوائم، وتحقيق الثّراء الموسيقي. وتتجلَّى الموسيقى الداخلية في القصيدة من طرق عدَّة وسائل كونت الإيقاع الدَّاخلي وساعدت على إبرازِ النَّغم الموسيقيّ، منها:
الجناس أو التَّجنيس وهو واحد من أبرز الوسائل اللّغويّة لتكثيف النّغم الدّاخلي، وإحداث نغمات موسيقيّة مُتصاعدة. وذلك في قوله: (تعي) (معي). وتجلت الموسيقى الداخلية أيضا في التكرار كما في تكرار حرف الكاف، وتكرار حروف الجر (في)، و(على)، وتكرار الحرف (لا). وتكرار الضمير (أنت) والضمير (أنا)، وتكرار جملة (أنا عليك). وأمد التقطيع الصوتي القصيدة بموسيقى داخلية حية واضحة كما في وقوف القارئ على الكلمات الآتية أثناء القراءة: عليّ وتشكوني، وعليك. وينضاف إلى ما تمد تفعيلات البحر القصيدة من تقطيع وزني ثابت.   
وتسيطر الشكوى الهادئة على أبيات القصيدة فهي خطاب المحب المتعب الذي يقودها الحنين والشوق. 
وتسيطر على القصيدة ثنائية البعد والقرب التي نسج الشاعر حولها أبياته فقابل بين موقف (أنا) الشاعر وموقف (أنت) الحبيب. وضمن هاتين الدائرتين تظهر ثنائية الحضور والغياب التي ترتبط بدائرة البعد والقرب. فلا صوت في القصيدة غير صوت الشاعر، ولا حديث إلا حديثه، ولا شكوى إلا شكواه وحبه؛ فهو الشاكي والباكي والملتاع والمتوجع.

شاعر ينسج على نول الشعراء العذريين وبلغتهم الرقيقة اللطيفة، وبأسلوبهم الهادئ، وبخطابهم المتزن، وبشكواهم المحببة

وتظهر معاناة الشاعر من سيطرة دائرة البعد على علاقته مع الحبيب في قوله: 
 لو كنتَ تدركُ أو لعلَّكَ لا تَعي ** ذكراكَ يا وجعَ الهوى أبدًا مَعي
وفي أسئلة الشاعر التي يستحضر الحبيب فيها أمامه ليلتمس منه التراجع عن بعده وغيابه وجفاه وإنكاره وقسوته. وتشير لفظة (الذكرى) إلى البعدين الزماني والمكاني القائمين على غياب الحبيب عن المحب، ويشير قوله (أبداً معي) إلى الحضور الدائم القائم على حضور المحب وعاطفة الحب في قلبه.
وضمن دائرة البعد والقرب تظهر ثنائية التخلي والتمسك حين يبقي الشاعر الحبيب حاضرا في قلبه لا يغيب، في حين يغيب الحبيب، ويتعمد الغياب، ولا يذكر محبه ولا يعي ما يعانيه.
أنتَ الذي كم مرةٍ أغْوَيتني ** وسَكنتَ ليلَ توسُّلي وتضرُّعي
وضمن دائرة القرب والبعد تظهر ثنائية (واحد) (أكثر) وبها يدخل الشاعر في عمق العلاقة، ليظهر أنها علاقة تقوم على طرف واحد هو المحب، ولا يشرك فيها الشاعر مع الحبيب أحداً، فالحبيب هو الوحيد في سماء حبه، وهو صوته الوحيد الذي يطرق فؤاده ويدخل أبواب قلبه، ويوحي قوله هذا بأن الحبيب قد أشرك أكثر من حبيب معه أو شكك في حب الشاعر: 
لا غيرَ اسمكَ في سماءِ محبَّتي ** لا غيرَ صوتكَ في هواتفِ مَسْمَعي
أشكو لربي ما أُعاني من أَسًى ** وأنا أرى في كلِّ يومٍ مَصْرعي
من ذا الذي أَبْكى بلابلَ لهْفتي ** وسَطا عَليَّ على تلالِ تَلوُّعي!؟
أنتَ الذي كسَّرتَ ظهرَ قصيدتي ** وجَلستَ تضْحكُ من حروفِ تَوجُّعي 
حتَّامَ تَشْكوني وتَزْعمُ أنَّني ** قد قُلتُ زورًا في شَهادةِ أدْمُعي
حتَّامَ تسبقني لمحكمةِ الهوى ** وأنا عليكَ أنا عليكَ المُدَّعي
وضمن ثنائية البعد والقرب تظهر ثنائية الراحة والتعب التي نسج عليها الشاعر جزءا من أفكار القصيدة وصورها، فالشاعر يعيش على الذكرى المتعبة في ظل لوعة الغياب الناتج عن البعد، ويرافقه الأرق، والأسى، والبكاء وهو في كل يوم يصرع، وأما الحبيب فهو ضاحك، ينكر أنه سبب معاناة الشاعر، ولا يصدق حزنه ولوعته وشوقه.
وتشير هذه الثنائيات المترابطة ضمن دائرتي البعد والقرب التي ولد عنها ثنائية الغياب والحضور، وثنائية (واحد أكثر) وثنائية (التخلي والتمسك) أن الشاعر قد اكتشف في أعماقه أنه يسعى نحو قلب ليس له، فدائرة البعد هي التي تسيطر على صوت الشاعر في القصيدة والشكوى والتكذيب والإنكار كلها ألفاظ تدل على موت الحب أو انتهائه، ولعل في خرجة القصيدة التي ارتفع صوت الشاعر فيها بالسؤال الاستعطافي قد أكدت هذا الصوت غير المسموع  للمحب في ظل سكوت الحبيب المقصود المتعمد الهادف يقول: 
لو كنتَ تدركُ أو لعلَّكَ لا تَعي
ذكراكَ يا وجعَ الهوى أبدًا مَعي
أنتَ الذي كم مرةٍ أغْوَيتني
وسَكنتَ ليلَ توسُّلي وتضرُّعي
 لا غيرَ اسمكَ في سماءِ محبَّتي
لا غيرَ صوتكَ في هواتفِ مَسْمَعي
أشكو لربي ما أُعاني من أَسًى
وأنا أرى في كلِّ يومٍ مَصْرعي
من ذا الذي أَبْكى بلابلَ لهْفتي
وسَطا عَليَّ على تلالِ تَلوُّعي!؟
أنتَ الذي كسَّرتَ ظهرَ قصيدتي
وجَلستَ تضْحكُ من حروفِ تَوجُّعي 
حتَّامَ تَشْكوني وتَزْعمُ أنَّني
قد قُلتُ زورًا في شَهادةِ أدْمُعي
حتَّامَ تسبقني لمحكمةِ الهوى
وأنا عليكَ أنا عليكَ المُدَّعي
وبعد؛ فإن مؤيد الشايب شاعر ينسج على نول الشعراء العذريين وبلغتهم الرقيقة اللطيفة، وبأسلوبهم الهادئ، وبخطابهم المتزن، وبشكواهم المحببة.