مأمون حسن وشعرية الإختيارات

الشاعر الأردني يحافظ على هويته الشعرية ويحرص على البقاء بعيدا عن دوامة الخلافات النقدية العميقة حول الشعر.

تعد الشعرية وحدودها وصفاتها من القضايا النقدية القديمة المعاصرة التي قسمت النقاد أقساما وكانت سببا من الأسباب التي حركت النشاط النقدي والفكر النقدي القديم والحديث، فهي تسببت بكثير من الخلافات الأدبية والنقدية، ولعل لها الدور الأكبر فيما نراه من تنوع في الأساليب الشعرية، وما نراه من تعويم مضر لمعنى الشعر حتى بات اسما سهلا على بعض الألسنة تطلقه على كل نص فيه صورة أو رتب عموديا أو كتب فوقه قصيدة. وظهرت في الساحة الأدبية نتيجة لذلك أشكال مختلفة تحمل زي الشعر الجديد التفعيلة وشكله وسميت بأسماء تكشف عنها الشعر المنثور وقصيدة النثر وقصيدة الشعر الحر والهايكو... ولا ندري ما سيحمله الزمن لنا من أنواع نصوص تسمى بالشعرية.

ومن بين الشعراء الذين حافظوا على هويتهم الشعرية وحرصوا على البقاء ضمن دائرة الأمان الشعري بعيدا عن دوامة الخلافات النقدية العميقة حول الشعر والشعرية وأسس هذا الخلاف ومن تسبب به ومن أثاره ومن دعمه ودعا إليه، يظهر اسم الشاعر الفحل مأمون حسن بقوة في قائمة شعراء الطبقة الأولى في الزمن المعاصر، فهو التزم في قصائده كلها التفعيلة وتشكلاتها وتغيراتها، وأتيا المعنى البعيد والصورة الساحرة الموحية بلحن خفيف هادئ وبلغة عالية ثابتة السمت بعيدة عن العور واللحن. واختار ألفاظها بعناية فائقة ووضعها مواضعها التي لها لمعرفته باللغة والنحو والعروض ولاتضاح الرؤية الشعرية أمامه فشكل قصائده كقطع متينة متماسكة أتقن فيها السبك والحبك.

ولا شك عندي أن الشعر الجيد مسموع محمود مؤثر في المتلقي ويدفع الناقد الحقيقي للبحث عن السبب الذي جعله جيدا متفوقا سائرا خالدا عابرا للأزمنة، وهو السبب الحقيقي الذي دفعني للبحث عما يجعل من شعر هذا الشاعر مدهشا ونديا ومليئا بالماء، فكان بحثي في شعره عن الصورة والوزن واللغة وشيء آخر يختبئ خلف دفقات قصائده وتفعيلاتها.

وتلفت سمات وخصائص في شعر مأمون حسن إليها النظر فهو من الشعراء المجيدين من قائمة شعراء الطبقة الأولى في الزمن المعاصر بروحه وقصائده، وهو من أصحاب القصائد المحبكة التي لا تخرج إلى المتلقي إلا وهي خالية من العيوب ومنها تطوافه في القصيدة بين الصور والمعاني بذكاء، وتشكيله للصور التي تخدم المعنى وابتعاده المتعمد في قصائده عن ترف الحشو التصويري والغموض البعيد الذي لا يوصل إلى معانيها واختياره ألفاظ قصائده بقصدية شعرية، لينسج بشعرية فحل نصوصا تحمل زخما فكريا وإيحائيا وتصويريا بلغة مختارة شفيفة قريبة من القلب واللسان يختار جملها الشعرية بعناية شاعر ويختار ألفاظها عموديا وأفقيا بإتقان شاعر خبير مثقف، وكأنه يحمل القارئ في رحلة شعر يشكلها ويبنيها ويرسمها ويفصلها لتجعل المعنى محسوسا وملموسا ومتخيلا ومحمودا، وكل ذلك يبنيه من باب الشعرية لا من باب أدبي آخر. فهو في قصيدة "الأفول" يلح على تذكير المتلقي بأنه إنسان ليتذكر ما يترتب على إنسانيته حين يرى الظلم من رد فعل فيناديه بنداء يحتمل معاني كثيرة تترتب على ما بعده من دفقات متتابعة يلح فيها على تذكيره بأن الضحية هي أخته ويؤكد ذلك بإن ثم يلح على المعنى فيؤكده من زوايا معنوية أخرى:

يا ابنَ أمْ

إنها أختُكم

لحمُها لحمُكم

 عِرضُها عرضُكم

 بيتها بيتكم

من أغار على كرمِ أختك هان عليه بنوكَ، وأسقطهم في أتونِ ضحاياه في الليل قبل أفول القمر

ثم في الصبحِ أخفى جريمَته

يا ابن أم

إنه يتلمظ منتظرًا يومَ مقتلِكم واحدًا واحدًا،

ثم يمحو للحمِكم الميْتِ أيَّ أثر

وفي قصيدة "فانتازيا" تمنح العتبة التي اختارها الشاعر القصيدة مساحة لبناء درامي في فضاء شعري حر فهو عنوان موح بسوء الواقع ومدى الظلم المسيطر عليه، وهو عنوان فيه هجاء ونقد لاذع لهذا الذي يجري من خذلان وصمت وسكوت عن الجريمة، وفيه إيحاء بما يعانيه الشاعر من حزن وغضب مما يحدث لأهل فلسطين، وهو لذلك يلح على المعنى ويمتصه حتى آخر تشكيل صوري بصري سمعي حسي فيقول في وصف تلك المأفونة التي تجردت من عروبتها ودينها وإنسانيتها الغارقة في ملذاتها وشهواتها وأزعجها سماع خبر مقتل أهل فلسطين وتتمنى ألا تزعجها أخبارهم لتتفرغ لامتصاص ما في الحياة من ملذات ولهو، وهو يبدأ الهجاء بذكر الجريمة والمجرم ولمز المشاركين بالجريمة المدعين الحرية والديموقراطية، فالطائرات المصنوعة في دولة ديمقراطية ألقت حممها فوق رؤوس الأطفال، ثم ينتقل إلى وصف آثار القصف فتتجه عدسة الكاميرا بشعرية غاضبة قادها التكرار والصورة الحركية التي بنيت على وزن تتفعل (تتفتح ، تتفتت) الذي تتكرر فيه التاء ويكرره الشاعر مرتين ليوحي بحجم الجريمة وقسوة المشهد ويدعم ذلك كله بمعجم شعري مرتبط بالمشهد صوتا ورسما ويجعله أكثر تأثيرا(الأطفال، القبور، الأشلاء، أسماء ، ورمال)، فالقبور والأشلاء تعطي المشهد ما يلزمه من وجع وحزن وموت والألف الساكنة في تلك الألفاظ يعطيها ما يلزم المشهد من إيحاء بالحزن والوجع ويتدفق الشعر في دفقات متتابعة، تبدأ بدفقة طويلة ممتدة كامتداد الفعل الجرمي على عقود طويلة:

فانتازيا

تلقي طائرةٌ حممَ النار المصنوعة في مهد الديموقراطية فوق رؤوس الأطفال

تتفتح أسماءٌ وقبورْ

تتفتت أشلاءٌ ورمال

يتثاءبُ كلبٌ نائمْ

يهتزّ الصمت الغائم

تكشف الدفقات السابقة عن صناعة ومهارة وموهبة هي أسس الشعرية، التي تحركها قصدية الشاعر في اختيار الصور والكلمات فهجاء مهد الديموقراطية هو هجاء للعالم المنافق كله لأنه كله يدعي الديمقراطية، واختيار الفعل المضارع تلقي يشير إلى استمرارية السكوت والصمت والمشاركة في القتل، ولأن اللقاء لا يكون مركزا ولا محددا للهدف وإنما هو رمي عشواء وبلا تدقيق أو نظر في نتائج الإلقاء، ولأن الإلقاء هدفه القتل وحده لأن الطائرات تلقي الحمم فوق رؤوس الأطفال لا فوق رؤوس الأبطال. 

ثم ينتقل الشاعر بخفة لمشهد آخر من الهجاء، ولكن بكثير من الوصف المتكئ على ألفاظ تعطي الصورة ما يلزمها من المعنى الهجائي المليء بالسخرية والذم والتصوير الكاريكاتيري المليء بالسخرية والاستهزاء والذم من الشخصيات التي اتخذت موقفا عدائيا من المظلوم ووقفت إلى جانب الظالم بسكوتها أو بخذلانها أو بإعلان رضاها عما يحدث من قتل للأطفال.

يكرعُ صنوَ (هبنّقةُ) المفتون بِغُرّتهِ آخرَ جرعةِ خمرٍ في الكاسْ

وينكر الشاعر الشخصية الأولى فلا يذكر منها إلا ما تفعله من مخازي، ويختار لذلك ما يناسبها من وصف والفاظ وصور فيتناسب الفعل يكرع تناسب أفقيا وعموديا مع معنى النص لما فيه وصف لفعل المهجو المستهتر اللاهي الغارق في المعاصي، وهو في ذلك أحمق بل صنو هبنقة.

وأما الشخصية المهجوة الثانية فهي الشيخة التي عرفها من باب التحقير والاستهزاء وتحديد الهوية التي توحي بشمول الهجاء وامتداده لمن يحمل اللقب ويفعل فعلها ويقف موقفها المخزي، فهي امرأة سطحية تهتم بالشكل لا بالجوهر فتهتم بتسريحتها وتحافظ على نظام جلوس وقيام وطعام خاص بها في إيحاء عميق بأن اللقب عند هؤلاء تحمل لقبها لترفه نفسها لا لتخدم غيرها فهو مكسب وترف وظيفي وهو في هجاء هذه الشيخة يستخدم الوصف الساخر فيصف جلستها وتفكيرها ومشاغلها وما تحبه وما تكرهه وآمالها وكل ذلك من باب الحط من قيمتها ولقبها الذي لم تستحقه:

وتعدّلُ إحدى الشيخاتِ أناقةَ تسريحتِها

ترشف شيئا من قهوتها

تتنهدُ من سوءِ إجازتها؛

تكره ما ينقله الإعلامُ من الإزعاج، 

ومما تفعله صرخات النسوة في الأخبار،

ومما يفعله الآباء الأنجاسْ!!!

تكره ذكر ف ل س ط ي ن وبيت المقدسِ،

تحلمُ لو كانت غزةُ في يأجوج ومأجوج وراء بلاد القفقاسْ.

تنفث أنفاس سجارتها

وتقلّب فنجان القهوة،

علّ الأيام القادمة تكون بلا أخبارٍ أو حربٍ تكرهها كل وصيفات الصيف ويكرهها كل الجُلاّسْ.

وبعد فإن الشاعر مأمون حسن ينطلق من دائرتين واسعتين دائرة الخير ودائرة الشر وكلتاهما تعيشان في قصائده وهو يحرص دائما على رفع يد الخير المنتصرة في قصائده بلغة مختارة وبأسلوب هادئ ساحر وبصور جديدة قريبة من المتلقي وببناء واع فني جميل للقصائد.