الامبراطورية الساقطة والأقطاب القادمة

النظام الامبراطوري الأميركي في طريقه إلى فتيل تفجير ذاتي.
رأينا سقوط الاتحاد السوفيتي على عكس ما كان متوقعا أو مكتوبا
الليبرالية منتوج غربي غير مقبول لدى الروس
الصين ستكون عامل تغيير سياسي انقلابي باعتمادها على تركيا ومصر وباكستان وإيران

هناك صراع لمنظومة قيم، عابر للقارات على مستوى العالم لكنه يتميز بأنه دليل على انتقال امبراطوري قادم من واقع أميركي قطبي واحد كان مسيطرا إلى واقع متعدد الأقطاب سيسيطر مع بدايات ظهور بوادر فشل مؤسسات الحكم الأميركية في حل الخلافات الداخلية.

وهذه المؤسسات تضم اتحاد أكثر من خمسين مستوطنة (دولة) ضمن اتفاق دستوري قديم مضى عليه أكثر من مئتي سنة وأصبح خارج الخدمة لتحقيق ما يريده الناس الذين لا ينتمون لمنظومة الحكم والسيطرة، والتي اتضح أنها منفصلة عن واقع وحاجات الناس، ولذلك انتقلت محاولات حل التناقضات إلى الشارع خارج الإطار المؤسسي إذا صح التعبير.

وما اقتحام الكونغرس الأميركي إلا مؤشر على أن هناك أزمة نظام أصبح خارج نطاق الحاضر وغير قادر على التعبير عما يريده الناس، ومن الطرف الآخر شاهدنا المظاهرات تجتاح أغلب المدن الأميركية من ذوي الأصول الأفريقية لإحساسهم بالعنصرية والاضطهاد داخل منظومة حكم في طريقها إلى الانفجار كحرب أهلية تعد تعبيرا آخر للوصول إلى اتفاق جديد أو طريقة جديدة لحل التناقضات ونقل رغبة الناس إلى واقع التطبيق بعيدا عن الديكتاتورية غير المعلنة.

إذن النظام الامبراطوري الأميركي في طريقه إلى فتيل تفجير ذاتي، ستسقط معه كل ذيوله الخارجية من أنظمة حكم وكيانات وما يرتبط به وظيفيا خارج حدوده وعبر القارات.

وهذا الكلام ليس مجرد أمنية لكاتب من هنا أو قراءة سياسية لمحلل من هناك أو كتابات قومية عربية أو ماركسية أو إسلامية من هنالك، فكل كلام عن سقوط الامبراطورية الأميركية هو كلام مكرر قبل أربعين سنة ويعاد سنويا ولم يحدث، لكن رأينا سقوط وانهيار الاتحاد السوفيتي، على عكس ما كان متوقعا وما كان مكتوبا ومنشورا هنا وهناك وهنالك.

فلنتذكر الخطاب الشهير للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمر ميونيخ للأمن سنة 2007 والذي حدثت فيه أول مواجهة كلامية بين روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وحلف الناتو بقيادة أميركا حيث قال إن عالم القطب الواحد بزعامة أميركا غير مقبول ومستحيل أن يستمر في عالمنا، وأضاف أيضا أن وجود سيد واحد للعالم سيلحق الضرر في نهاية المطاف ليس فقط لمن يمكث داخل هذا النظام ولكن للنظام بأكمله، وعن الهيمنة العسكرية الأميركية علق بوتين أنها ستودي بالعالم أجمع إلى الهاوية عبر صراعات أزلية، وفي نفس الخطاب والذي يعتبر خارطة طريق للسياسة الخارجية الروسية تحدى بوتين الولايات المتحدة الأميركية بقوله: "إن العالم أحادي القطب الذي تم طرحه بعد الحرب الباردة لن يحدث"، في إشارة واضحة إلى أن روسيا وغيرها لن تقف وتتفرج على الهيمنة الأميركية.

ما الجديد إذن منذ ذلك الخطاب؟ وما هو المختلف؟

الجديد هو أن الانهيار القادم حقيقي وسيحدث، وهو منتظر ضمن رؤية امبراطوريات صاعدة وهذا ما قرأته السياسة الخارجية الصينية وما تتوقعه وما تعمل عليه أيضا روسيا الاتحادية وما درسته في مراكز تفكيرها البحثية، ونفس الرؤية موجودة عند إيران، وصرح بهذا مرشد الثورة الإسلامية السيد علي خامنئي حين قال: عصر ما بعد الولايات المتحدة قد بدأ.

وتتجلى أهمية هذا التصريح الأخير في أن إيران تعتمد في حركتها الدولية على مراكز تفكير وتخطيط مؤسساتية، وهنا نشاهد توافقا في مؤسسات تفكير وتخطيط روسية وصينية وإسلامية على نفس الهدف النهائي وهو سقوط امبراطورية أميركا القائدة للنظام الطاغوتي الربوي العالمي.

إذن ما نريد قوله والتأكيد عليه أن قراءة سقوط قادم للامبراطورية الأميركية كنظام سياسي ونموذج يريد السيطرة حضاريا هي الآن قراءة دول ودراسات حكومية تتوافق بمنطقية مع ما يحدث على أرض الواقع الحالي.

ويجدر التأكيد على أن أعمار الدول لا تقاس كأعمار البشر، فاستدارة التغيير والطريق إلى السقوط يعادل عشر سنوات من عمر سنة للفرد، فالسنة الزمنية في عمر الدولة هي عشر سنوات في زمن الحياة الفرد، لذلك فالتفكير الانفعالي الاستعجالي العاطفي التهيجي لا ينفع في إدارة الأزمات ولا في قيادة الدولة، ولا لمن يريد صناعة الامبراطوريات القادمة على واقع الكرة الأرضية.

ضمن هذه القراءة لسقوط قادم تسارع حاليا مع أزمة وباء الكورونا والفشل الليبرالي لمنظومة الخدمة الاجتماعية والصحية والمعيشية للنظام الطاغوتي الربوي الصهيوني العالمي، يأتي صراع الأقطاب الروسي الصيني الأميركي، وهنا سنركز على صراع روسي أميركي يبدأ من "تحرش أميركي".

يقول الباحث الروسي ألكسندر نازاروف بهذا الخصوص: "من الواضح للجميع في العالم أن الولايات المتحدة الأميركية تغوص أعمق وأعمق في أزمات قاتلة بالنسبة لها، وتحتاج من أجل تأجيل لحظة الانهيار إلى تدمير منافسيها الرئيسيين: روسيا والصين، ويمكن للجميع رؤية حرب التدمير التي يقودها الغرب ضد روسيا، لأنها كانت أول من تحدى واشنطن، والجميع يعرف عن العقوبات، وهي حرب تستباح فيها جميع الوسائل. وحرب المعلومات التي تهدف إلى زعزعة الاستقرار الداخلي للعدو لا زالت هي الساحة الرئيسية للمعركة."

ومن خلال إعادة استخدام الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية لمفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان! ضمن معارضة روسية وهمية ليس لها امتداد حقيقي وبدون وجود قاعدة جماهيرية على أرض الواقع، ومن خلال توظيف شخصيات منفوخة إعلاميا خارج روسيا أكبر من واقعها الحقيقي في داخل أرض روسيا الاتحادية، وهي معارضة وهمية بلا مشروع إلا الانطلاق الإعلامي الخارجي الدعائي ضمن الفاظ "الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان!"، والقادم الجديد بهذه التحركات هو خلق شخصيات معارضة وهمية خارج نطاق الضوابط الأخلاقية الفطرية الإنسانية الطبيعية.

يقوم الإعلام الليبرالي التابع للنظام الطاغوتي الربوي العالمي دعائيا بالتركيز على تجمعات لألوف الروس في بلد يبلغ سكانه أكثر من مائة وأربعين مليون نسمة ومحاولة خلق صورة إعلامية لصناعة دعاية حماسية عاطفية يتم استخدامها في تحريك ثورات الألوان، فليلاحظ من يريد أن يفكر بعقله أن مظاهرات اقتحام الكونغرس الأميركي أكبر في الأعداد وكذلك مظاهرات دعم السود، ولكنها مظاهرات فاقدة للتوجيه الدعائي الخاص بها، وكذلك الأمر في مظاهرات فرنسا للسترات الصفر ومظاهرات ألمانيا وهولندا والدنمارك المناهضة للإغلاق في زمن كورونا، وكلها مظاهرات أعدادها أكبر وأضخم ولكن الكاميرا الدعائية غائبة وليس هناك تحريك لثورات الألوان.

ألفاظ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان طبعا يتم توظيفها دعائيا في الإعلام الغربي الليبرالي المرتبط بالتمويل مع أجهزة الاستخبارات التابعة لحكومات النظام الطاغوتي الربوي العالمي، الذي يصدر توجيهات وأوامر لهكذا إعلام ينادي في "الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان!" كألفاظ دعائية صوتية، ولكن ما يريده هذا النظام وحكوماته هو نشر منظومة القيم الطاغوتية الغربية، وهي في الواقع بلا قيم، وصلت حاليا إلى مرحلة الرفض الشامل والقرف والسقوط الأخلاقي العميق خاصة بما يتعلق بنشر الشذوذ الجنسي والانحرافات السلوكية ورفض الهوية الدينية والعرقية التي يتم ربطها مع منظومة القيم الطاغوتية الغربية عبر نشر الفكر الليبرالي، وهي غير مقبولة في المجتمعات الصينية أو الروسية، والأخيرة لا تزال مرتبطة روحيا وحركيا مع الكنيسة الأرثوذكسية ضمن الواقع الروسي.

يتوهم النظام الطاغوتي الربوي العالمي أن نموذجه شعبي، غير مدرك أن في العالم وعلى الكرة الأرضية نماذج حضارية أخرى وهذه النماذج لديها تاريخ وعمق وأفكار وموروثات دينية.

يقول ألكسندر دوغين في كتابه "بوتين يواجه بوتين": "يجب علينا أن نلاحظ وأن نتنبه إلى أن كلمة الليبرالية والرأسمالية نادرا ما يتم استخدامها في السياسة الروسية المعاصرة، وإذا اكتشف الروس المعنى الحقيقي لليبرالية كما يتم الترويج لها في نظريات فرديك حايك أو إيان راند فإن الروس سوف يفقدون صوابهم بعد أن يكتشفوا أن الليبرالية تعارض مفهوم الدولة والأمة والكنيسة والإيمان الأرثوذكسي والجماعة، وبالمحصلة النهائية الديمقراطية نفسها."

ويضيف: "الليبرالية هي منتوج غربي لذلك هي غير مقبولة لدى الروس".

ويقول مايكل ماكفول السفير الأميركي السابق لدى موسكو في مقال له لمجلة الفورين افيرز: "ينتقد بوتين الولايات المتحدة لدعمها ما يُعرف بالثورات الملونة سواء في صربيا أو جورجيا أو أوكرأنيا أو الشرق الأوسط خلال الربيع العربي. ومن أجل مواجهة ما وصفه بالانحلال الليبرالي الغربي، ينشر بوتين تعريفه الخاص للمسيحية وقيم الأسرة المحافظة التي يؤكد أنها محورية بالنسبة للهوية الروسية وللحركات المحافظة المتنامية في أرجاء العالم. وعلى الرغم من أن بوتين أقل ديماغوجية من الشعوبيين الآخرين، فإنه يتبنّى جزءا من خطابهم ومنهجهم، مُقسِّما كل المجتمعات بما فيها المجتمع الروسي إلى شعب 'حقيقي' و'نخبة مستغِلَّة'، ناهيك بأن بوتين نفسه يرتبط بعمق بالنخبة الاقتصادية الروسية الحاكمة."

ويتابع "إن بوتين قائد إصلاحي تجديدي أكثر بكثير من نظيره الصيني، فهو يرى أنه في حالة حرب مع الولايات المتحدة وحلفائها والمؤسسات متعددة الأطراف التي دشّنتها واشنطن، لم يعد بوتين يرغب في التعاون مع الغرب أو حتى يرغب في مكانة مقدرة في النظام الليبرالي العالمي، وبدلا من ذلك فإنه يسعى لتدمير هذا النظام الذي تقوده الولايات المتحدة."

الواقع العربي سيكون متأثرا ومتغيرا مع الانتقال الامبراطوري الجديد بعد السقوط الأميركي، والواقع الروسي سيكون مؤثرا، والامبراطورية الصينية ستكون عامل تغيير سياسي انقلابي خاصة وأنها تعتمد على ركائز رباعية تشمل تركيا (الحلقة الأضعف في حلف الناتو) ومصر وباكستان وإيران.

كيف سيواجه العرب هذا الانقلاب التغييري السياسي الذي سيتم إنتاجه في الصعود الامبراطوري الصيني وعودة روسيا لمكانتها الطبيعية؟ وهل ستختفي دول وسيتم إنشاء أخرى؟ وهل ستتحد دول وسيتم تقسيم أخرى؟ 

الإجابة لا أعرف، ولكن ما أعرفه هو أن الكيان السرطاني الاستعماري العنصري الموجود على أرض دولة فلسطين المحتلة سينتهي مع نهاية الامبراطورية الأميركية، فهذا الكيان الصهيوني ليس حالة حضارية لها علاقة في المنطقة العربية ولا في جغرافيتها وهو وجود مؤقت سينتهي مع صعود امبراطوري صيني أو روسي.