التأويل الاجتماعي للوحات علي رشيد

الفنان التشكيلي العراقي لديه ميول قوية للزهد والتصوف سواء بالاقتصاد في الشرح أو الاقتصاد بالألوان والأشكال.

لنفهم لوحات الفنان علي رشيد يجب التنويه بثلاث مسائل.

الأولى أنه مولود في كربلاء ويعيش في هولندا، ونشاطه يدور في الفضاء الأوروبي، حتى أن معظم معارضه أقيمت في عواصم أوروبية غربية، وكذلك الجوائز التقديرية التي حاز عليها، وإذا شارك بنشاط عربي فهو غالبا في المنطقة التي تعيش تحت مظلة الغرب، وأخص بالذكر قطر وتونس قبل دخولها في مرحلة الجمهورية الثانية وتعريب وجهها السياسي.
النقطة الثانية أنه لم يبتعد عن المسائل العروبية الملحة، ومنذ بداياته مع الغرافيك وحتى المرحلة الراهنة الكولاجات الملونة يتوقف عند الأحداث المصيرية التي نعاني منها، وأذكر على سبيل المثال انتفاضة تشرين في العراق، أحداث غزة المؤلمة، والحراك الشعبي في نهايات القرن العشرين. ناهيك عن شعره ومسرحياته. ولا يخلو عمل مكتوب له من إشارات واضحة عن حروب العراق، ثم حروب العرب مع إسرائيل. ومذكراته المعدة للنشر تبدأ بتفاصيل خدمته العسكرية واشتراكه بحرب الخليج الأولى (حرب صدام ضد إيران). ويجدر التنويه أنه فقد في هذه الحرب أخاه. ويندر أن يصدر له كتاب لا يناجي فيه خياله المأساوي. وقد أشار له في اليوميات، وفي كتابه الشعري "غرقى يحرثون البياض" بمفردات مثل: الجرح، الندبة، اللوعة وسوى ذلك.

آخر نقطة أنه كرس وقته للفن. وعاش حالة اغتراب نفسي داخل غربة جغرافية، ولذلك يجب أن لا نتوقع أن يصور مشاهد من الحياة العادية كالأسواق والمنتزهات والمقاهي. ناهيك عن البيت الدافئ والأسرة السعيدة. وعمليا هو لا يصور غير الأنقاض وحالات الذعر والفوضى، للتعبير عن ازدحام وصراع الأفكار في ذهنه. ولا يصعب أن تقول إنه صراع بين الذاكرة والوقت الحاضر، أو أنه نوستالجيا عاطفية مكبوتة. وذاكرته مجرد إحساس متواصل بالرعب. وكل السنوات التي أنفقها في هولندا لم تساعده على رؤية الجمال والطبيعة الخلابة التي تحيط به.

وللكلمة المكتوبة في لوحاته الأخيرة حضور أكبر من لوحاته السابقة. وهي ظاهرة تدل على التفاتة تصل لدرجة التوأمة بين خط الرسم وخط الكتابة، أو بين المنحنيات والحروف. أضف لذلك رواسب المرحلة السابقة من حياة المثقفين، وهي الصحف وطوابع البريد. وكأنه أراد أن يجعل من لوحاته متحفا لنشاط الأيام المنصرمة التي تحتضر إن لم تكن قد ماتت بالفعل. وغالبا ما تظهر الكتابة في لوحاته بشكل حروف منفصلة وصبيانية أو كلمات معكوسة مكتوبة على الجدران، وهو توجه يربطه بذاكرة شعبية وفقيرة. فالكتابة على الجدران ظاهرة غيتوات ومخيمات فقط. ولا يخلو شارع شعبي في بلداننا من عبارات نابية أو شتائم تدل على المخاض النفسي وروح التمرد.
ماذا يجعل فنانا مثل علي رشيد يتخلى عن التصوير (رسم الأشكال) ويلجأ لخطوط تحتل مساحة ضيقة من فراغ لوحاته؟
لا يوجد تفسير واضح سوى أنه ينتمي للشخصيات الفنية القلقة. وأستعير هذا التعبير من كلام الدكتور عبدالرحمن بدوي عن الشخصيات القلقة في الإسلام. وفي الحقيقة يشترك الاثنان بعدة نقاط.

كلاهما عاش سنوات طويلة في الغربة دون أن ينسى أو يفقد هويته.

وكلاهما لديه ميول قوية وملحوظة للزهد والتصوف، سواء بالاقتصاد في الشرح أو الاقتصاد بالألوان والأشكال. ونادرا ما يلجأ المتصوف للتشخيص، ويفضل عليه التجريد والذهول والانخطاف والاتحاد بالذات الكلية. ولكن إذا اندمج المتصوف بذات أسمى وأعلى منه يندمج علي رشيد بحالة تعطيل واسترخاء.

تبقى فكرة أخيرة هامة جدا، وهي غياب صور النساء من لوحاته. ويأخذ هذا الاتجاه شكلين اثنين.

إما أن الصور البشرية لأولاد ورجال، وبالضرورة دون أعضاء التأنيث كالنهد والشعر الطويل وسوى ذلك.

أو أنها صور لشخصيات غير محددة الجنس ومشوهة ويصعب تأكيد فصيلتها البيولوجية.

ولا أرى أي سبب منطقي لذلك باستثناء أنه مهموم بموضوعات عامة تهم البشرية جمعاء، وتساوي بين كل الأعمار والأجناس. وعمليا لا تستطيع أن تحدد عمر أو جيل أي شخص في لوحاته. وتبدو كلها بحالة تألم ومعاناة واحتجاج. وهذا كل ما يهم لديه، متابعة الفوضى النفسية والاجتماعية التي وصلنا إليها.