مأساة الانتظار وحرق الوقت

ترامب يعود بفلتات لسانه المحسوبة جيدا وهي نتيجة حسابات السوق الأميركي، وضغط هذا السوق سيقود الرئيس إلى كشف أوراقه كما حصل مع حماس، وكما احترقت الاخيرة بسبب موقفها المتشدد سيحترق أيضا ترامب.

رغم تراجيديا النزوح والشتات حافظ الفلسطينيون لدرجة مدهشة على الانقسامات البينية التي أخرت الحل وإقامة دولة فلسطينية مستقلة. وإذا كنا سابقا نتكلم عن كيان إسرائيلي، أصبحنا بعد أوسلو نتكلم عن كيان فلسطيني. الأول بجدران من حديد وقهر وابتزاز، والثاني جدرانه من كرتون وأعلام خفاقة في فضاء سياسي راكد.

مرت مراكب أوسلو ببطء في مياه ضحلة، وخلال كل هذه الفترة قدم العرب التنازلات لإسرائيل مقابل وعود سائلة.

وبالعودة إلى لغة الأدب نجد أن كل الأعمال الهامة التي صدرت بعد أوسلو لا تخلو من كلمة شتات ونزوح، بالإضافة إلى السرد المطول عن حواجز التحقيق مع العائدين أو القادمين بزيارات خاطفة. ومن هؤلاء ربعي المدهون مؤلف روايتين عن مأساة الانتظار وحرق التاريخ والوقت الفلسطيني، وهما:  "السيدة من تل أبيب"، و"مصائر".  ومنهم أيضا فيصل حوراني مؤلف "دروب المنفى" ووليد الشرفا مؤلف "وريث الشواهد".

فالواقع الرمادي يخيم بلغته المباشرة والواضحة على الأحداث والتي تتواصل، في معظم الحالات، بشكل ذاكرة مستعادة. وسرعان ما تتحول إلى لغة ندم وانتقاد للضمير.

لكن ما لا يبرهن عليه أحد معنى هذه الكلمة.

ماذا نقصد بها؟

الوعي الباطن أم وجدان الشخص ذاته أم الضمير العالمي الخامل.

وأمام هذا الارتباك اللغوي، وهو أزمة هوية وطنية، بقي الاحتمال معقودا على الجهاديين، وهم الوارث لسلاح الفدائي، لكنهم لم يحملوا أساليبه في التعبير (وأشير على نحو خاص إلى الشهيد غسان كنفاني وفريقه). فمنظمة التحرير قدمت قافلة من الأدباء والصحافيين في حين تخلو صالة حماس وقصورها المتشعبة تحت الأرض من أي لغة فنية.   وعلى ما يبدو لي أن عقارب الساعة بدأت تدور بالمقلوب.

فقد انحسر مد اليسار العربي، وانتهى وقت الاتكال على القوميين العرب وموسكو، وانتقل خندق المعركة إلى تحالف الإسلاميين مع طهران.

ومثلما عانى الفدائي من التشتت والإحراج نتيجة الخلاف بين صفوف البعثيين والناصريين، ووصل ذلك إلى نقطة المواجهة المسلحة في بيروت، يعاني الإسلاميون الآن من الإحراج بسبب موقف إيران من السوريين. ومشاركة حماس في حروب المخيمات في دمشق فرض عليها مواجهة تنظيمات إيرانية متشددة على الأراضي السورية.

 وبالتأكيد لم يساعد اختلاط هذه الأوراق على رص الصفوف لابتكار حل ناجع، ولكنه سرع من إخراج المقاومة الإسلامية، وكشف جميع أوراقها في فترة استرخاء النظام العالمي، وبوجود بايدن على رأس الهرم في أمريكا. وكان بايدن كما أرى حلا توافقيا، فهو لا يرضي كبرياء أمريكا لكنه أجل خطاب ترامب.

واليوم يعود ترامب بفلتات لسانه المحسوبة جيدا، ولا يغيب عن ذهن أحد أن لغته رمزية، وهي نتيجة حسابات السوق الأميركي. وضغط هذا السوق سيقود ترامب إلى كشف أوراقه كما حصل مع حماس.  وإذا احترقت حماس بسبب موقفها المتشدد،  وبقيت لها بذور قليلة تحت الرماد سيحترق أيضا ترامب. غير أن سياسة اللون الواحد في غزة يقابلها قوس عريض من الاحتمالات في السوق الأميركي. فالسياسة في النهاية سلعة ويجب أن ترضي المستهلك. ولا أعتقد أن الأميركيين مستعدون للتخلي عما وصلوا إليه من نعيم ورفاهية.

 ويمكنني القول أن حماس دحرجت كرة النار بأسلوب سيزيفي جريء تحسد عليه، وأعادت إلى اللسان العربي فصاحته وصوته. لكن الانتحار ليس حلا، وهو ورقة أخيرة للفت نظر الضمير الدولي إن بقي هناك ولو النذر اليسير من الإحساس. ولذلك أرجح أن يختار الأميركيون في النهاية توافقات معدلة يمكن حقنها ببطء وبالتدريج حتى يلوح أفق حل مقبول وغير كارثي.