الهوية والذات في الخطاب العربي الحديث على هامش كتاب 'الشعر والناقد'
مع أن كتاب "الشعر والناقد" للدكتور المرحوم وهب رومية* يتتبع تحول الشعر العربي من اللغة إلى الرؤية من خلال ثلاث نماذج هي: شعر الانتفاضة الفلسطينية، وقصائد السوري محمد عمران، وديوان المناضل والأمير عبدالقادر الجزائري، لكنه يتوقف مطولا عند مراحل ومحطات الخطاب العربي الحديث، ومنها تطور مفهوم الهوية.
ولحسن الحظ أنه لا يكرر ما ورد في تراثنا العربي، وبالأخص الجرجاني في البلاغة والشهرستاني في المنطق ويرى أنها كانت في مجمل تاريخنا، وبكل مراحله، تعبيرا موضوعيا عن معنى الذات، بهدف حمايتها من البلبلة والضياع. ولكنه سرعان ما يؤكد أن الهويات مزيج من رؤية الأمة لنفسها، ورؤية الآخر لها، وهذا أول إنكار لشكل البنية المركزية المغلقة، واعتراف ضمني بالبنية المفتوحة - أو السائلة، ولذلك لا أستطيع أن أجزم معه أن هويتنا الوطنية تدين بالفضل في نشوئها لعصر النهضة ورواده الأوائل على مختلف اتجاهاتهم (ابتداء من الشيخين عبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده وانتهاء برموز المجتمع المدني مثل قاسم أمين وأحمد لطفي السيد).
وإن شئت الحقيقة لم يكن التنوير يسير بموازاة النهضة، ولكنه سبقها، وتراكم المعارف هو الذي قاد بالنتيجة لبزوغ عصر التجديد والاكتشافات، ويكفي أن الشيخين سبقا بداية نشاط المجتمع المدني بما يعادل 15 - 20 عاما.
هذه فترة طويلة بالنسبة لسرعة نشوء واندثار الأحداث والظواهر في منعطف القرن العشرين. ولا يغيب عن الذهن أن حملة إبراهيم باشا على سوريا تزامنت مع حركة التنوير الإسلامي. وكانت غزواته العسكرية تهدف أولا وأخيرا لاستعادة زخم الفتوحات الإسلامية ضمن رؤية ثورية معدلة - ذات نزوع إحيائي يؤمن بالحداثة والتجديد، ولكن لم يرفع الستار عن الاحتجاجات المدنية وإنشاء النوادي، والتحول من الاجتهاد بالتفسير إلى الاجتهاد بالإضافة والابتكار، إلا بعد هزيمة إبراهيم باشا، ودخول مصر في حياة اجتماعية وسياسية تخللتها الإصلاحات، وانطلاق عمل الأحزاب.
ولكن هذا لا ينفي أن أي فلسفة كبرى في التاريخ تعبر عن المضمون الروحي للأمة، كما يقول الدكتور رومية، وروح الأمة قد يكون دينيا أو قوميا أو وطنيا. بمعنى أن المسألة لها علاقة بالاتجاه وأساليب إدراكه، وبتعبير آخر الروح هي حزمة من الأوامر والنواهي التي ترى النخبة أنها ضرورية لبلورة شخصيتها، وبمرحلة تالية تحقيق ما تتمناه لنفسها من أهداف وغايات، ويأتي الشعر والأدب ضمن هذا السياق. وكما يقول رومية: كلاهما حامل لرؤيا حتى لو اختلفت طبيعة الشكل والمضمون.
غير أن هذه الرؤيا قد تخنقها أوهام وألعاب نتيجة لوعي كسول ومزيف، محروم من الرسالة بلغة رومية أيضا، فهو يربط الخطاب برسالة تنويرية حتما. وبمفرداته: لا يوجد رؤيا دون شكل، ولا شكل دون ظواهر اجتماعية ينبثق منها. ويقوده هذا الموقف للكلام عما يسميه المقاومة بالأدب والظواهر الشعرية التي تبشر بها، ولا سيما أن معارك الاستقلال والتحرير كانت نتيجة وعي تنويري بهوية لها حدان وهما: البيان والخطاب.
وفي تاريخنا الحديث عدة معارك تداخل فيها مشروع المقاومة مع مشروع التحرير حتى أصبح من المستحيل فصل الأهداف والاتجاهات، ولا سيما أن خطاب المقاومة الفلسطيني اندمج مع قضية الجولان وسيناء. وضاعف من غموض هذه المحاور الاختلاف في النظر بمعنى النكسة والنكبة، ثم التضارب في تفسير أسباب ونتائج حصار بيروت عام 1982، وحرب الجنوب في لبنان، ناهيك عن اتفاقات أوسلو وما تسببت به من معارك داخلية بين محاور المقاومة. ويقرأ الدكتور رومية هذا التشتت والتخبط بالمعايير على أنه وعي متباين بمشكلة الهوية.
وعلى هذا الأساس يميز ما بين مشروع المقاومة، وهو استراتيجية مستقرة وبعيدة المدى، وظواهر الانتفاضة، وهي استجابة آنية وعاجلة أو حل إسعافي مؤقت. ولذلك دخل الشعر العربي المعاصر في متاهة أهم أعراضها المباشرة والتكرار والركون إلى لغة غير واقعية يغلب عليها التهديد والصياح، وهما من علامات الضعف وليس القوة، وكانت هذه الأزمة الفنية جوابا على أزمة في الوعي الاجتماعي، التي تطورت بدورها من الوعي الباطن، وعبرت أساسا عن الحنين وجرح الشرف والرجولة.
ولهذا السبب خيم على أساليب التعبير الجانب الذاتي، وتداخل فيه التخيل والتصور. الأول بدأ من مفارقة الواقع، والثاني انتهى بتجريد المعاني واختصارها برموز توحي أكثر مما تعبر - والكلام للدكتور رومية نقلا عن إليوت. ويفهم من ذلك أن الخطاب العربي المعاصر يشكو من العجز، ولم يجد الحل إلا في إحياء ذاكرته، مهما كانت قديمة وأثرية، ولذلك وقعنا في حيرة وجودية بين الدين والفكر القومي، وزاد الاتكال على التناص، ولا سيما في مستهل قصائد الانتفاضة الثانية. ويقدم رومية عدة أمثلة منها استعارة عبد الواحد أخريف لأبيات من شعر الفارعة الشيبانية، وتناص فوزية العلوي مع النابغة الذبياني، وأماني حاتم بسيسو مع أبي تمام. وتتكرر هذه الظاهرة عند محمد عمران الذي استعار في كتابه "الدخول في شعب بوان" سيرة وأشعار أبي الطيب المتنبي. وفيه تدرج عموده الشعري من العدل إلى الحب ثم إلى الموت، وكأنه يعيد للذهن مشروع العقل العربي الحديث، الذي بدأ من المطالبة بالمساواة مع الحكام غير العرب - وينسحب ذلك على العصر الوسيط أو ما يسمى بعصور الانحطاط، وانتقل لاحقا إلى التحديث بالمثاقفة (من خلال المعاهدات واتفاقيات التعاون والرحلات العلمية وتبادل الخبرات - جدلا)، قبل أن يعود لسياسة الأمر الواقع، ويمنح أراضيه بسخاء لإقامة قواعد عسكرية أو للدخول بتحالفات ظالمة، إن لم تضر لا تفيد. ويستعمل رومية بهذا السياق تعبير "الإحساس" المسلوب "بالحياة"، وهو بالأصل لشكري عياد. وكان الخطاب العربي المعاصر يهتم بإصلاح العالم وتغييره، لأنه عجز عن المناداة بإصلاح النفس العربية. ويرصد هذا الاتجاه في بقية أشعار محمد عمران. فقد بدأ بخطابه مع الحياة والحب وأغمضهما على الموت، وكأنه يدين غموض وضبابية الخطاب العربي لأنه كلام عن مقاومة تابعة وغير مستقلة، تستعير أدواتها من الآخر، وهذه هي نفس المعادلة التي بنت عليها جوديت بطلر أطروحتها، واختصرتها بما تقول عنه "معركة التابع". ويسمي رومية هذا المخاض المضطرب بــ "تصوير الوعي للنموذج"، ويترجمه في مكان لاحق بعبارة "تعبير الإحساس عن العقل". ولذلك ازدهر خطابنا المعاصر في منطقة رمادية نراها في أحلامنا، ولكن لا نستطيع أن نحققها على أرض الواقع.
وأعزو لهذه المشكلة الاختلاف بين هويتين. إحداهما إحيائية (يمثلها العجيلي في النثر الطبيعي)، والثانية تركيبية (يمثلها محمد عمران في شعرية الأسطورة).
ويبدو لي أن العجيلي يؤمن بفكرة الأمير المسحور والذي يحتاج لقبلة من أميرة حسناء ليستيقظ من سباته، فأجداده البدو موجودون دائما في أي عاصمة غربية، وكل ما يحتاجون إليه نظرة من امرأة بيضاء ليتابعوا فتوحاتهم، أو لينعشوا ذاكرتهم العاجزة والمحبوسة وراء القضبان. بينما يفرز محمد عمران عالمه إلى رغبة مؤجلة وواقع مريض، ويحاول بالتدريج أن ينفصل عن الزمن التاريخي لصالح رؤية تصوفية ومركبة، بمعنى أنه يعيد كل التصورات والمحسوسات إلى ذاته وبتعبير لاكان لا يعتقد أنه بنية ولكنه مشروع يساهم به الآخرون.
وللأسف وقع ظلم شديد على الكاتبين. واتهم العجيلي بالانتماء لتفكير إقطاعي له موقف سلبي من الإصلاح، ولكنه في الحقيقة كان ابنا مخلصا للفكر الطبيعي، حيث يتوجب على الإنسان أن يعيش بالمغالبة وقوة التمني. ومثله محمد عمران. اتهم بعقلية البورجوازي الصغير الذي يأنس للتعالي على بيئته مع أنه أعاد إنتاج الأناشيد الرعوية، ولم يكتب لا عن شقاء الأسر "السعيدة"، ولا عن دورة الكدح مع الأرض أو المصنع. ومثل هذه الاتهامات تدل على خلل في قراءة النص وخطابه، وهي أصلا جزء من منظومة التفكير العربي، وأخص بالذكر تزوير الحقائق حتى بالنسبة للماضي القريب، حتى أننا سمينا الانقلابات العسكرية باسم ثورة، والحكم الشمولي باسم ديمقراطية مركزية وهكذا.
ومن أكبر سلبيات هذا التفكير غض النظر عن الذات الحضارية والاكتفاء بالظرف السياسي العاجل. ولكن لم يمر الشرق كله باستقرار سياسي حقيقي. وحتى الصين ليست بمأمن من هذه التغيرات التي أودت بخصمها اللدود الاتحاد السوفياتي. وباستثناء الماضي الأسطوري لشعوب المنطقة، لا توجد عصا سحرية تتستر على دورة الهدم والتركيب. وإذا مرت أنقرة بثلاث جمهوريات منذ سقوط الدولة العثمانية، فجارتها سوريا مرت بأربع جمهوريات في غضون ثماني سنوات من الاستقلال فقط، وأعقبتها سبع جمهوريات بعد عودة حكومة الاستقلال وحتى بداية عام 2025. وترتب على ذلك برأي الدكتور رومية إيمان الخطاب الحديث (محمد عمران نموذجا) بدور الفرد الحاسم في التاريخ، وبالبطولات الشخصية والأعمال الخارقة.
وليبدو المشروع منطقيا تستر محمد عمران بعباءة الأسطورة - وكأنها قميص عثمان الذي قدم تبريرا ضعيفا لفتنة بدأت قبل خمسة عشر قرنا ولم تضع أوزارها حتى الآن. ولم يبق إلا أن يقول إن هذا الوباء الذهني هو المسؤول بشكل مباشر عن ظاهرة الاستبداد والطغيان في عموم أرجاء المشرق، وبالتالي عن النظرة العدمية والتي لا يتوجها في النهاية شيء غير الفاجع أو المأساة (جرح الدهر بلغة محمد عمران)، ومن الأمثلة عليه تراجع الثورات الوطنية عن وعودها (ويذكر بالاسم ثورة العسكر عام 1963 في دمشق).
وتسمي مروة صلاح متولي هذه النهايات بأخطاء القدر، ولذلك تحول واقعنا المأساوي لنثر أو سرد متوقع ينقصه الابتكار والتجديد. والكلام للدكتور رومية أيضا. وإذا كانت الذات العربية في بواكير عصر التنوير ضيفا على العالم، فقد تحولت في نهايات الألفية الثانية إلى ذات وحيدة وغريبة. وبقناعة الدكتور رومية إن كتاب "الدخول في شعب بوان" (وهو قصيدة طويلة حالمة لشاعر من رواد جيل الحداثة الثالث في سوريا) يعبر عن قلق واضطراب أصولي، ويترجم نفسه بقضم الحاضر وقرض الماضي. بتعبير أوضح يضع نفسه في محرقة الأفكار والأفعال، ويكتفي بالبكاء على أطلال جميع الأزمنة بما فيها زمن لحظته الراهنة، وهي لحظة نفسية وانتحارية، وتلغي الخطأ بإلغاء ذاكرته. ومرة يسميها الدكتور رومية بالصحوة، وفي مرة تالية التطهير، قبل أن يسميها بموت الجغرافيا – في محاولة لترجمة اعتراف الشاعر أنه تحول إلى ماء، وأنه أصبح بلا جسد، واحتفظ بتاريخه ولكن فقد أرضه. فالخطاب المعاصر، كما يرى الدكتور رومية، يمر بمرحلة اليقظة الذهنية التي تقترن بانكسار الروح، وهو المعنى النهائي لخلاصة الوعي الشقي، ولا يوجد حل ناجع إلا بالنسيان.
والخطاب الحديث يلجأ إلى النسيان الراديكالي الذي تتلاشى فيه صورة الواقع ورواسب الماضي. ويصف محمد عمران هذا الحل بعبارة "مدينة النسيان"، وهي مدينة ظواهر غير تاريخية، وتوظف الأسئلة الميتافيزيقية لخدمة الراهن التاريخي - أو الحلم المغشوش بتعبير رومية. والنتيجة موت عصر الخطاب (بكل معرّفاته: الوطن والحب واللغة)، وولادة خطاب جديد صامت لا يقول شيئا، ولكنه مرحلة انتقالية يتوجب علينا فيها تعلم التفكير السائل أو لغة اللامتناهي وغير المحدود. غير أنه في خاتمة المطاف يقع بالمحظور ويفهم الحداثة بأنها تشكيل لغوي وبهلوانيات لفظية، ويهمل ما يقول عنه رومية المحمول الأخلاقي والاجتماعي، ولذلك لا يجوز استخدام لغة التعبير في شرح لغة التنزيل لأن الطرف الأول إضافة (مجاوزة وعدول وانزياح) والثاني مجاز محدود وإيحاء، ويؤخذ على هذا الخطاب (ومن أمثلته شعر الأمير عبدالقادر الجزائري) أنه تحت هيمنة صوت واحد متفرد، ينأى به عن الحوار والبناء الدرامي، وربما لهذا السبب خيمت على خطابنا الحديث لغة الحرب لا لغة الحوار والمشورة.
ويرى الدكتور رومية أن هذا مجرد استطراد تتحكم به علاقة مشابهة، كما تعلمنا من العقل العربي القديم، وكلاهما يحمل في طياته موقفا محكوما برؤية لا تمتنع عن التحول أو كسر السياق والتملص من الواجبات بالوعود والتسويف.
ويجمل الدكتور رومية في الخاتمة صفات الخطاب العربي الحديث (والأدبي والفني على وجه التحديد) بنقطتين:
أولا أنه خطاب بدوي ينظر للمدينة الحديثة وكأنها قلوب متصحرة ونفوس جافة، وبهذه الطريقة ينفي الأزمنة الماضية لكنه لا يثبت الأزمنة الحديثة (وهو كما يقول رومية طباق غريب يقوم بوظيفتي المحو والإثبات)، وسبق لي أن تكلمت عن مشكلة أوهام تفكيرنا المعاصر، وفيها استبدلنا ما هو موجود وأزف وقته بما هو غير موجود**.
وثانيا أنه في لحظة الضعف يلجأ للدين ويفسر الحياة ووجوده فيها برؤية إيمانية وبطولية. وحتى مباهج الحياة تتعرض بالتحويل والاستطراد إلى مجاز عاطفي وروحي يفقد مضمونه المادي ويتعالى عليه بالتصوف والزهد ونكران الذات، وإذا كانت المادة تنفي الواقع فإن الروح تبطله، وتعمل على تثبيت البدائل بالنفي والاستنكار والتحذير، وكلها أدوات يقول عنها رومية إنها تُعرف بحسب موقعها في النفس وليس حسب موقعها في العالم.
*الشعر والناقد - من التشكيل إلى الرؤيا. سلسلة عالم المعرفة. الكويت. عدد أيلول. 2006.
** جريدة تشرين. الصفحة الثقافية. أعداد عام 1982. دمشق