المشروع السردي لجمعة اللامي

الكاتب الراحل يشكل نموذجا فريدا في أدب الحداثة العربي جمع بين التصوف الثوري والأسلوب التراثي مع نزعة فردية تعكس هموما سياسية وروحية.

بدأ المرحوم جمعة اللامي (1947 - 2025) مشروعه مع الحداثة مثل كل أبناء جيله في الستينات، وكانت هذه المرحلة منعطفًا يفصل بين مرحلتين: حكومات الاستقلال، ثم الحكومات الانقلابية التي قادها العسكر تحت شعارات التحرير والتجديد، ولكن انتهوا بإرساء حكومات قمعية ودكتاتورية، وتعاني من فقر شديد في تطبيق الشعارات أو بلورتها. وأكبر مهزلة كانت في فقدان حرية الفرد والجماعات، والأحزاب، رغم المزاعم المتوالية برعاية حركات التحرر العربي. ولذلك، ليس من المستغرب أن يحمل اللامي وأبناء جيله همّ التنديد بالسجن السياسي (وهو موضوع أجمل أعماله "المقامة اللامية"). ولكن هذا لا ينفي أن مشروعه من الحجم الصغير، ولا يتجاوز نتاجه ثلاث مجموعات قصصية (صدرت بين أوائل الستينات ونهاية السبعينات)، وثلاث روايات مضغوطة (بحجم لا يزيد على 200 صفحة)، وصدرت أيضًا بين منتصف الستينات وحتى منتصف الثمانينات. وما تبقى مجرد انطباعات وأوراق من سيرته الشخصية التي يحدوها هم سياسي عام.

وقد سيطر على كل كتاباته روح الرفض والاستنكار، ولم يُعبّر عن ذلك بالهجاء المباشر، ولكن بتنمية روح الزهد والتصوف، وتقريب الحياة من الموت. حتى إنه قال عن حبيبته في "الثلاثية الأولى": عفة الروح أنت، وردت عليه بقولها: سيد الوقت أنت. حرف بسيف الله أنت. ولا ضرورة للتذكير أن المتصوفة هم مجاهدون أصابهم اليأس من إصلاح الحال، فاعتكفوا واعتزلوا العمل العسكري، ولم يجدوا السعادة المفقودة إلا في داخل نفوسهم المؤمنة.

ويمكن أن نتحرى هذه الثيمات في أولى مؤلفاته، وهي مجموعة قصص بعنوان "من قتل حكمة الشامي"، ثم في كتابه الآخر "اليشن". وفي كليهما نوع من حضانة إيجابية للجرح العربي، واختبار لمقدرات الأمة على مواجهة المنغصات. بمعنى أنها تحمل همّ تصوف نضالي متعثر. ولهذا السبب، اتكل على النموذج - أو بطولة الأفراد، ولم يسجل أي علامة تدل على مخاض اجتماعي، وكانت روح الرفض تتفاقم في نفس الشخصيات، ثم تنعكس على تصرفاتها، وأحيانًا تنتهي بامتشاق السيف، حتى لو توجب على الشخص المفرد أن يواجه كتيبة كاملة. ومثل هذا التضخيم للبطولة، ورثه برأيي عن انتمائه السياسي لليساريين العرب.

وقد حضن اليساريون على طرفي المتوسط مثل هذه الروح الفردية والانتحارية، ابتداء من نيكوس كازانتزاكي مؤلف "زوربا اليوناني"، وحتى حنا مينة مؤلف "الشراع والعاصفة" و"الشمس في يوم غائم" و"شرف قاطع طريق".

ودخول اللامي في نطاق الأدب المتوسطي، على الأغلب نتيجة موضوعية لغربة مضاعفة تعايش معها، سواء في عزلة الداخل (ضمن مجال الأدب الرافديني)، أو في عزلته في الخارج (فقد أقام في دولة الإمارات العربية منذ نهاية عقد السبعينات).

ويُسجّل للأدب الذي تطور على الضفة الشرقية لنهر الفرات، أنه دموي وملتزم بقضايا اجتماعية عامة، ولذلك بدأت رواية الأصوات من العراق، وليس من مصر كما هو شائع. فقد سبق غائب طعمة فرمان في روايته "خمسة أصوات" 1967، سليمان فياض مؤلف رواية "أصوات" 1972. وكذلك كتب جبرا في العراق، وبوقت مبكر روايته "السفينة" 1969، وهي نص مرايا - أو اعترافات ذاتية - تحمل وجهات نظر عدة شخصيات.

وإذا كان يعود إلى اللامي فضل تجديد أساليب السرد القصيرة، فذلك يكون من خلال المتوالية القصصية. وقصص مجموعاته أصلاً حلقات، تستطيع أن تتعامل معها بشكل نصوص متفرقة، أو دوائر حكاية متكاملة. والتكامل بالشخصيات والموضوع.

وتبدو روايته "المقامة اللامية" متأثرة بالشكل الدائري للسرد، فهي تتألف من متواليات، نصفها مجازي، والنصف الآخر يهتم بالمعتقلات والسجون. وهذا يعني بالضرورة أن موضوعه غير جنائي، ولا يمكن فصله عن مشاكل التاريخ والسياسة والثورة. ومع أنه تتبع سيرة عشيرة من جنوب العراق، لكنه تعامل معها بشكل كتلة مستقلة أو كيان منغلق، واختار لها اسم "عشيرة ألم"، وصورها وكأنها مسيح يتحمل الخطوب والمصاعب. وهذا التماهي بين الفرد والعشيرة، يدعم رؤيته لدور الفرد في الفعل الثوري. وهو برأيي ما يبعده كثيرًا عن اللغة الإصلاحية لأدب بلاد الرافدين، ويقرّبه من اللغة الرومنسية لأدباء المتوسط.

وهي لغة تعتمد على التهويل، ويغلب عليها روح الأسف والندم، وتتخللها ميول للانتحار واعتزال الحياة، ودائمًا تدمج الطبيعة بالروح. وقد بشّر اللامي في روايته "الثلاثية الأولى" بضرورة مسح ذاكرة الماضي (كما ورد بالحرف الواحد).

وأقرأ هذه العبارة على أنها أمر - أو توجيه ملزم - ويستهدف الإلغاء والمسح للذاكرة الوثنية في "اليشن"، والذاكرة الاستعمارية في "الثلاثية". وكأنه يريد أن يتبع سياسة حرق الدوائر، فكل حقبة لديها شروط تلغي ما قبلها، ولذلك يبقى التاريخ بالنسبة له عملاً مستمرًا لبناء مستقبل أو صيرورة أو ثورة دائمة.

وإذا قارنا رؤية اللامي مع تصورات أحد أبناء جيله مثل عبد الستار ناصر، نلاحظ أن الأول يرسم لنا نفوسًا كبيرة ومعقدة، بينما يرسم الثاني نفوسًا صغيرة تعبر عن عقدتها من خلال أحلام الهيلة وسوء التفاهم مع النظام والمجتمع. (فصفوة أبناء عشيرة ألم في "المقامة" - والتستري في "اليشن" - وحكمة في "من قتل حكمة") يعربون عن تبرم منقطع النظير من الأحوال العامة، في حين يهرب شريف نادر في قصص ناصر من قوة مجهولة، لا يوجد لها اسم ولا صوت. وهذا أيضًا صنيع رمز من رموز الجيل التالي - الذي برز اسمه في نهاية السبعينات، وهو محي الدين زنكنة، فهو أيضًا يهرب من جهة لا يسميها، وليس لها وجه. انظر روايتيه "هم" و"بحثًا عن مدينة أخرى".

ومع أن لغة الثلاثة أقرب للشعر من النثر، وهي مجازية بامتياز، وبعيدة جدًا عن ما يقول عنه باختين لغة كل الفعل الجمالي، اختار اللامي قاموسه من الذاكرة التراثية. وأعتقد أن هذا هو ما حبّبه لمشروع الخليج العربي. وكانت الصحراء والواحات الصحراوية هي المسرح لحبكته البسيطة. ودعم ذلك ببنية استعارها - عمدًا - من أمهات كتب التراث، مثل الحكاية والخبر والخطابة، ويُضاف لها الوعظ والكلام من على المنابر.

ولذلك، أجزم أن حداثته تتقاطع مع مشروع تحديث الستينات، ولكنها توسّع مشروع النهضة والتنوير، الذي دشنه في أواخر القرن التاسع عشر كل من الكواكبي والأفغاني، وتتقاطع معه. ولا يوجد أحد يبزّ اللامي بهذا التوجه غير جرجي زيدان، رغم التباين العضوي والواضح بينهما. فزيدان غلّف التاريخ الإسلامي وإشكالياته بقوالب أوروبية تهتم بالحبكة والتشويق، في حين غلّف جمعة اللامي المشروع الوطني للحداثة بقوالب تراثية وإسلامية أصيلة، وربما أراد بهذه الطريقة أن يحرر نفسه وموضوعه.

وهذا شيء مفهوم إذا اقتنعنا معه أن حرية المواطن تحتاج منه لمشاركة فعالة في صناعة أوطان حرة، كما قال بطل "الثلاثية" الأول لخالد الأمين. وحتى لا يترك أي مجال لسوء التفسير، يقرر أن الحرية تحتاج لعزم ونوايا ثابتة (أو يقين - كما يذكر حرفيًا)."