
سياسة الوهم والغرور
لم تقلق غارات إسرائيل أحدا في دمشق، فالهدف كان مرسوما لها بدقة، ويمكن تلخيصه بنقطتين:
التخلص من حزب الله. وبهذه الطريقة تُرسل إلى إيران رسالة حاسمة، أنها لها بالمرصاد، وهي قادرة على بتر الذراع الإيرانية في أي مواجهة محتملة.
ومن المؤكد أن إسرائيل لا تريد تكرار سيناريو موسكو مع أوكرانيا، ولا حتى سيناريو أولى حروب الخليج. وهي تعلم مسبقًا أن سوريا لا تشكل تهديدًا استراتيجيًا على الأمن الإسرائيلي، على الأقل في المدى المنظور، وكذلك على المدى البعيد، لأن جميع الاحتمالات تقود إلى تمزيق الشرق الأوسط العربي وإعادة تشكيله. ولا أستثني الإسرائيليين، وسيحين دورهم إما بتقليم أظافرهم أو دخولهم في بيت الطاعة، كما حصل مع دول كثيرة ناهضة. ولا يُخفي اليهود هذه المخاوف التي وصلت إلى ما يمكن أن نسميه "فوبيا الأغيار". وتستطيع أن تراها بشكلها السافر والعلني في مؤلفات أهارون أبلفيلد، وعلى وجه الخصوص في روايته الهامة "كل من أحببتهم". يُبدي فيها رعبًا عجيبًا من الأوروبي غير اليهودي، وينظر لليهودي الفاسد – أو المتدهور Decadent Jew – وكأنه برعم يمنعه الطقس السيئ من النضج والتفتح.
وكذلك بالنسبة إلى لارا فابنيار، وأخص بالذكر قصتها "فلاديمير عاشقًا"، وهي أصلًا عن غرام مستحيل بين روسي مسيحي ويهودية. حتى إنها تضع الدين في قصتها فوق العرق، وكأنها تتنبأ بسقوط الدولة غير الدينية (بعكس يهودي أميركي معروف – وهو سول بيلو – المتشائم من التشدد والتعصب، كما أثبت في كتابه "القدس، رحلة ذهاب وإياب"). وفي مذكرات ابنه غريغ (وعنوانها "قلب سول بيلو") ينقل عن والده أن الدين يُعبّر، وعلى نحو عضوي، عن الوعي بتناقضات لا يمكن الجمع بينها، مثل الزنوجة ومعاداة السامية. وكان يؤسفه أن يلاحظ تنامي روح الشك باليهود بين السود، ولكنه عزا الموضوع لمنطق صراع الأجيال – بمعنى أن له جذورًا وجودية مفروضة على السياسة فرضًا. فالجديد مغترب دائمًا، وهو بحاجة لإعادة التفكير بوعيه. واللبيب من يفهم هذه الرسالة ويتبع سياسة النأي بالنفس.

وقد سبق للبنان أن اختار هذا السلوك في حرب عام 1973، المعروفة باسم "حرب تشرين"، ثم "حرب الاستنزاف"، ولم يُسلّم للسوريين الطيار الإسرائيلي الذي أسقطه "سام 6" على أراضيه. ولكن المثال الأهم هو وقوف تركيا على الحياد في حروب عام 1945، وحينها اختار الزعيم التركي أتاتورك سياسة الانطواء على الذات، وتنمية كاريزما الأتراك، وبناء جيش مخصص للدفاع وليس للهجوم، وذلك قبل التورط في قبرص واستعداء اليونانيين والكنيسة الأرثوذكسية عليهم.
وهذا الخطأ لا يوازيه غير تسرع جون كنيدي بغزو فيتنام، وتمديد رقعة الحرب على السوفييت من حدود أوروبا الشرقية إلى متاهات جنوب آسيا. وبشكل عام، لا تصنع الحروب الطويلة فرقًا، لأنها تخنق اقتصاد الخدمات، وتحبس المجتمع كله في قفص وهمي، وتستنزف قدرات الإنسان على التفاؤل، وربما تجبره على شراء سلام رخيص وغير نافع.
وبالعودة لحزب الله، لا أعتقد أن موسكو تهتم بمصير ميليشيا لها كيان سياسي. وما ذكره دوغين عن التحالف مع الأصدقاء الشيعة ليس دليلًا على التمسك بحزب الله، فهو ليس عرّاب الشيعة، ولا يجوز له احتكار أو تأميم مذهب ديني. ولا أريد أن يُفهم أنني أدعو لإنكار الإنجازات التي زرعوها على الأرض، لكن يوجد تبدل محسوس في الشرط التاريخي (وتبعه انهيار للإجماع الذي زوّدهم بمناعة استثنائية). ومن غير المستبعد أن تُضحي بهم إيران لإبرام صفقة تهدئة مع الغرب. والأوراق على الطاولة، وكل شيء يتوقف على حسم التجاذبات بين المحاور.
وتوجد أكثر من إشارة على الاقتداء بالنموذج الياباني. فاقتصاد السوق والتحالف مع الغرب تبعه إنعاش للروح اليابانية الأصيلة في مضمار الثقافة والفنون، مع تسريع لوتيرة الإبداع والاختراع، حتى أصبحت اليابان نموذجًا تلتقي فيه الأضداد، وتبعهم بقية شعوب شرق آسيا – غير الصينية – مع هامش عربي تحول لأكبر مجتمع مضيف على وجه الكرة الأرضية. وسياسة إلحاق الأذى بحزب الله ستتكفل تلقائيًا بإنتاج بدائل، وبأسماء وعقليات متنوعة. ولن يسعد أحد بهذه الخاتمة أكثر من الأميركيين، أقله للثأر من الفتك بالمارينز في بيروت، بالإضافة إلى تفجير سفارتهم عام 1983.
النقطة الثانية، وهي أقل وضوحًا، لكنها تهدف لوأد الترسانة العسكرية السوفييتية، وكانت تأتي بشكل هدايا معلبة للسوريين، وبديون آجلة، وطبعًا ليس لتحرير فلسطين – كما اعتدنا أن نسمع من الأبواق والمنصات التابعة – إنما لتجريب هذه الأسلحة، ولفرض بعض الاحترام في منطقة حيوية من شرق المتوسط. وكان وجود هذه البقايا – التي تشبه العودة بتاريخ البشر إلى العصر الحديدي – يترك مجالًا للتفكير بعودة العقلية المرافقة لها. ومن المؤسف أن تكون السياسة بمثابة ألعاب إلكترونية، لخدمة أوهام بعض النخب، وأحيانًا لإرضاء غرور شخص واحد، كما يروي جون لي كاري، أحد رموز الحرب الباردة، في عمله المعروف "خياط بناما". ولا يغيب أيضًا عن الذهن رواية "رجلنا في هافانا" لغراهام غرين، المعروف بعدائه للإمبريالية الأميركية. ويبدو لي أن العملين مثل صورة معكوسة بالمرآة: أحدهما يمثل قوة وبطش الغرب، والثاني يؤسطر ضعف وفساد الشرق. وكأنما كان لو كاري يترجم غرين ويعارضه بوقت واحد.
ولا ضرورة للتذكير أن هذه هي خلاصة ما جرى للمعسكر الشرقي. فالسوفييت كانوا على يسار القوميين الروس، وتصرفوا بعواصم شرق أوروبا وكأنها من ضمن أملاكهم الخاصة، وكانوا يضعون حدًا لأي بادرة من بوادر الاحتجاج بظرف ساعات.
ومن المنطقي أن نرى أن ما يحصل من غارات يومية، تقريبًا، على دمشق، أمر متفق عليه، وهو يشبه تصفير سوريا، بمعنى جرّها إلى المربع رقم واحد، وعلى هذه الأرض سوف يتم بناء سوريا الجديدة. وإذا كان من المبكر الجزم بأي توقعات، يجب أيضًا عدم استثناء المفاجآت، فالجو جاهز لأكثر من احتمال، ولن تتضح الصورة قبل رؤية ماذا بعد بوتين وترامب، إن كان هناك شيء بعدهما.
*Saul Bellow' Heart: A Son's Memoir. Bloomsbury. 2013. (228 p.)