التعالي الفرنسي في رواية "كافي ريش"

رواية محمد فتيلينه، تتناول نهايات الوجود الفرنسي الاستعماري في مدينة وهران الجزائرية.
رواية "كافي ريش" ورد فيها إشارات عديدة للنظرة الفوقية للفرنسيين تجاه الجزائريين، التي تؤكد رسوخ الانفصال التام بين الهويتين
الصوت الأكثر عداءً للجزائريين والنظر إليهم باستعلاء هو طاسو مالك مقهى "كافي ريش"

تتناول رواية "كافي ريش" للروائي الجزائري محمد فتيلينه، نهايات الوجود الفرنسي الاستعماري في مدينة وهران الجزائرية، والجرائم الوحشية التي اقترفتها عصابة OAS، المتعاونة مع المخابرات الفرنسية؛ للقضاء على أي صوت معارض للوجود الفرنسي، وتصفية الخصوم ولو لمجرد الشك.
احتل الفرنسيون الجزائر؛ تحقيقًا لأطماع نابليون الاستعمارية، تحت ستار نشر كلمة الرب، ولكنهم كشفوا عن أنيابهم منذ اللحظة الأولى، وأعلنوا ضم الجزائر إلى فرنسا، وعلى مدى مائة وثلاثين سنة، لم يعتبروا الجزائر فرنسية حقيقة، بل مستعمرة أو مستعبدة فرنسية، وسكانها عبيد للفرنسيين، أو على الأقل طبقة دونية لا يحق لها النظر إلى أعلى، ولم تغير طول المدة من هذه المعاملة الفوقية الإستعلائية، وبنوا بينهم وبين الجزائريين سورًا عاليًا، بالإضافة إلى الظلم والقمع والتهميش والاستعباد بمختلف أشكاله وأصنافه، وهذا يؤكد حقيقة لا مفر منها؛ وهي أن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، وإن حدث، فلمدة محدودة، ولمصالح مشتركة، سرعان ما تنتهي، وهذه الحقيقة ساطعة على مدار التاريخ، ولا يوجد في الأفق ما يشير إلى أنها ستتغير، ومعظم المهاجرين العرب في أوروبا وأميركا، يشعرون بهذا الاختلاف والتمييز، مع أنهم مواطنون يحملون جنسيات تلك الدول، ويقدمون لها خدمات جليلة.
وردت في رواية "كافي ريش"، إشارات عديدة للنظرة الفوقية للفرنسيين تجاه الجزائريين، التي تؤكد رسوخ الانفصال التام بين الهويتين، وأن إدعاء فرنسا بفرنسية الجزائر، لا يعني إلا ثرواتها ومقدراتها وتوظيفها لمصالحها، أما الجزائري، فسيبقى جزائريًا وإن نزع جلده، ولن يكون في يوم من الأيام فرنسيًا له ما للفرنسيين وعليه ما عليهم.

الجزائر، منجم لكل المقومات المادية والبشرية، وتملك ما لا تملكه فرنسا، إن توفرت الإرادة الصلبة، والعزم والتصميم، ومن قبل الصدق والإخلاص

الصوت الأكثر عداءً للجزائريين والنظر إليهم باستعلاء هو طاسو مالك مقهى "كافي ريش"، وأحد قيادات عصابة OAS المتخصصة بتصفية المعارضين للوجود الفرنسي في وهران، فقد قام بقتل الشاعرة الجزائرية الفتية شيماء، لمجرد الاشتباه أنها عميلة وتستغل علاقاتها بالفرنسيين. يقول طاسو مبررًا: "هي حلقة الوصل بين عساكر جبهة التحرير وعينهم في المقهى". ويقول: "تخيل أنني سمعتها مرارًا تسأل النادل عني؟ هو تهديد بالنسبة لي". كما قام بخطف وتصفية الجزائري بلقاسم زوج الفرنسية نيكول، وغيرهم الكثير، ممن وجدت جثثهم مقطعة الأوصال في خلفيه مقهاه "كافي ريش"، بعد خروج الفرنسيين سنة 1962، إثر اتفاقية إيفيان بين ديغول والجزائريين. وقام بقتل الجزائري الذي أقام علاقة مع أخته إيزابيل، وكان ثمرة ذلك جون الذي تبناه طاسو؛ حفظًا لكرامة أخته وألحقه باسمه. واعترف لصاحبه جيرار أنه صاحب فتاة في السادسة عشرة من عمرها  "وأنه أحبها وإن كان كارهًا لكونها جزائرية من رحم الشرق والصحراء".
كما اختار طاسو عاهرته "نجمة" بمساعدة أخته إيزابيل مالكة مبغى "بيت الذئبة"، واستعاد معها شبابه، وكان سعيدًا جدًا أنها ليست جزائرية. يقول: "عبرانية أم غجرية المهم أنها ليست جزائرية"، و"كان ملتزمًا بقينه أنها سليلة عبرانية، ولا علاقة لها بالجزائريين، الذين لا يفهمون أن فرنسا قدرهم وقدره". ومن نجمة أنجب ابنه عبدالحي نادل "كافي ريش" حتى سنة 2018. ويخاطب طاسو وليده من نجمة: "ستعيش على هذه الأرض، التي لن تكون إلا فرنسية".
وكان طاسو يكره وهران لوجود "حي الزنوج" حيت يقطن الجزائريون، ويقول متبجحًا: "أنا أو العدم. فرنسا أو اللا شيء! لا جزائر بدون طاسو". ويسخر من حكاية الأجداد والأصول، ويغمز من جانب الجزائريين تقليلًا من شأنهم، ويخاطب جيرار قائلًا: "مسألة الأجداد لا تهم كثيرًا، وإلا ستسمع الجزائريين يجادلون أن جدنا آدم". ويبرر كرهه للجزائريين للأب فيليب: "جاء أجدادي وأجدادك إلى هنا من أجل نداء الكنيسة، فهل يعتقد أحد أن الأحفاد مستعدون للشرب من نفس الإناء مع العرب؟!".
ولم يطق طاسو وصديقه جيرار خروج الجزائريين للاحتفال بالاستقلال، "كان يعتقد وجيرار أن مسألة رفع راية أخرى غير الراية الزرقاء أمر لا يمكن تحقيقه، بل لا يمكن تصديقه". ولم يحتمل طاسو رؤية الشاب "قاده" يحمل العلم الجزائري، فأرداه برصاصة، أشعلت أحداثًا دامية في وهران. 
أما جون ابن طاسو، أو على الأصح ابن أخته وربيبه، فسار على نهج طاسو في الكره والتعالي، يقول لغزلان عندما تجادله في صداقتها لشيماء: "ليس هناك صداقة بين الفرنسي والمسلم، لا أرى لها كلمة في قاموسي... لن تكون هذه البلاد إلا فرنسية"، وكان يشعر بمتعة عظيمة، وهو يلقي شحنة طائرته من القنابل على قرى الغرب الجزائري، ويعتبرها مهمة إنسانية. وينعت الجزائريين بأنهم "حمقى إلى درجة كبيرة"؛ لأنهم "يعتقدون أنه كان بوسعهم هزيمة جيش كجيشنا بعد أن حاولوا إسقاط إحدى الطائرات"، ويعلن عن إعجابه بأحد الطيارين لقدرته "على حرق الأرض بأنواع النبالم والصواريخ الكيميائية". ومكث جون طاسو في الجزائر، وغير اسمه إلى (وفيق بندين) وكان يعطي الأوامر لجنود البلد لإعدام أبناء البلد سنة 1994.

novel
صفحة سوداء من وجود فرنسا في الجزائر

بدوره، الصحفي جيرار، وصديق طاسو وزميله في النورماندي، كان كارهًا بأسلوبه، وعبر عن ذلك بوضوح ساخرًا من خروج الفرنسيين: "جاءت سفننا فاتحة للشمال الإفريقي، يحدوها الأمل في نشر التنوير، ويهتف جنودنا بنداء نابليون كي ينصت في نهاية كل أسبوع «موعظة الأحد»، مستعينًا بلغة الحضارة التي هيمنت على أوروبا لقرون، أما الآن، فأمر الواقع يدعونا إلى الاستعداد لسماع موعظة كل جمعة».
ولم تختلف غزلان صديقة شيماء الجزائرية كثيرًا، فقد كانت فوقية، وإن كان السطح يقول غير ذلك، فعندما تعجبت من شاعرية شيماء بالفرنسية، قالت لها: "أن تكتب عربية مثلك الشعر الفرنسي ليس بالأمر الهين؟" فتجيبها شيماء: "وهل يهتم الشعراء الفرنسيون بهوية من يكتب؟"، وعلى الرغم من علاقتها الخاطفة مع «لعربي» إلا أنها لا تخفي سخطها: "فليذهب هو وكل من كان في الحي الأسود إلى جحيم النسيان".
الأمثلة السابقة، تؤكد حقيقة الاستعمار الفرنسي للجزائر، ووجهه البشع، وأطماعه القذرة، وأنه لم يأت إلا للاستعباد والإخضاع والسيطرة على الشعب الجزائري، وسرقة ثرواته، واتخاذ الجزائر كخلفية لفرنسا، وتسخير شبابها كجنود للقتال في جبهات فرنسا المختلفة، ولو ضد إخوانهم في الدين والعروبة.
أما عودة بعض الفرنسيين لزيارة الجزائر، فليس حبًا فيها وفي أهلها، ولكنها رغبة في استذكار وجودهم وسطوتهم في الجزائر، فقد كانوا فيها أسيادًا ومميزين، ولكنهم في فرنسا مجرد مواطنين عاديين لا يأبه بهم أحد، ولا يستطيعون التعالي على أحد.
وقد كنت أفضل أن يعنون الكاتب روايته بالاسم الجزائري للمقهى "تيمقاد"، لا "كافي ريش" انحيازًا للجزائر وأصالتها، وتخلصًا من فرنسا ووجودها. فالكلمتان حسب الرواية "تختصران زمنين وحقبتين وكيانين مختلفين".
وبعد؛؛؛ فإن رواية "كافي ريش" - منشورات ضمة، الجزائر، 2020، 190 صفحة - فتحت صفحة سوداء من وجود فرنسا في الجزائر، وكشفت جانبًا من جرائمها القذرة، وهذا الكشف وغيره ضروريان، لإظهار حقيقة المستعمر المستعبد؛ لغايات تنظيف الجراح، وتحميل فرنسا مسؤولية جرائمها ولو بعد حين، والأهم أن لا ينسى الجزائريون هذه الجرائم الفرنسية، بحقهم وحق وطنهم، وأنهم سيبقون الأدنى من وجهة النظر الفرنسية، إلا أن تقوى شوكتهم، وترتقي دولتهم، وتعلو كلمتهم، وهم قادرون على ذلك، فالجزائر، منجم لكل المقومات المادية والبشرية، وتملك ما لا تملكه فرنسا، إن توفرت الإرادة الصلبة، والعزم والتصميم، ومن قبل الصدق والإخلاص.
يذكر أن الروائي الجزائري محمد فتيلينه، من مواليد مدينة "حاسي بحبح" في ولاية "الجلفة" سنة 1975، وصدر له عدد من الروايات منها: «على حافة البحيرة، 2011»، «بحيرة الملائكة، 2013»، «أحلام شهريار، 2014»، «غبار المدينة، 2015»، «تيمو، 2015»، «خيام المنفى، 2016»، «ترائب.. رحلة التيه والحب، 2018»، «رعاة أركاديا، 2020»، بالإضافة إلى بعض الإصدارات القصصية والشعرية، ونال مجموعة من الجوائر منها: «جائزة دار أطلس للرواية العربية، 2015»، عن رواية «غبار المدينة»، و«الجائزة الفرنكفونية لأحسن القصص، 2015»، لدار «المخطوطة» الفرنسية، برعاية اليونسكو، و«جائزة الطاهر وطار، 2019»، عن روايته «ترائب.. رحلة التيه والحب».