التوظيف التركي لقضية اللاجئين السوريين

كل موجة من اللاجئين السوريين يتم توظيفها من قبل أردوغان، مرة لأوروبا، ومرة للانتخابات، ومرة ضد الأكراد.

ردّ وزير الداخلية التركي إسماعيل صويلو بغضب على تصريحات رئيس بلدية هاتاي لطفي سافاش التي حذر فيها تخوفه من أثر السوريين على الانتخابات في بعض البلديات التركية التي ترتفع فيها نسبتهم بين السكان.

واستخدم كلا المسؤولين التركيين البيانات السكانية للاجئين بما يخدم هدفه. فرئيس البلدية أشار إلى التوزع الجغرافي للسكان من أصول سورية، أي تركز السوريين في بعض البلديات كالريحانية التي قال أن نسبتهم بين المنتخبين تقارب 5%، في حين تصل في بلديات أخرى إلى قرابة 15% كما في يايلاداغ، الأمر الذي يجعل منهم كتلة مؤثرة في الميزان الانتخابي الدقيق، وكذلك فإنه أشار إلى قضية النمو السكاني من خلال تحذيره من قدرة السوريين على الفوز برئاسة مقاطعات كبرى مثل قارخان خلال خمس سنوات، بل وتعيين والي هاتاي خلال 10 سنوات بحسب ادعائه.

في حين استخدم وزير الداخلية حجم السكان الكلي لتفنيد دعوى سافاش من خلال بيانه أن من يحق لهم التصويت من السوريين الحاصلين على الجنسية هم قرابة 12 ألفا فقط من أصل أكثر من مليون شخص يحق لهم التصويت في الانتخابات البلدية المزمع إجراؤها هذا الربيع.

والقضية وإن كانت تتعدى أمر تمكن السوريين من أن يشغلوا مناصب كبيرة داخل تركيا لكونه مستبعدا حدوثه بدرجة كبيرة، فإنه داخل في إطار التنافس بين الأحزاب على أصوات المنتخبين وخشية المعارضة من أن يؤدي ازدياد عدد السوريين المجنسين تركيّاً إلى نمو كبير في حجم الكتلة الانتخابية المؤيدة لحزب العدالة والتنمية وزعيمه رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، سواء في الحال أو في المستقبل، خاصة مع الحديث عن تجنيس مئات الآلاف من الأطفال السوريين المولودين في تركيا خلال السنوات السبع الماضية، والذين سيبدأ دخولهم في قوائم المنتخبين خلال عقد من الزمان تقريبا.

الأمر الذي دفع الكثير من معارضي أردوغان إلى اتهامه باستخدام ملف تجنيس السوريين لغايات تتعدى بكثير القضايا الإنسانية والدينية أو حسن الضيافة كما يشيع أنصاره، إلى استثمار تأييد كثير من اللاجئين السوريين له والعمل على تحويل هذا التأييد إلى أصوات انتخابية تدعم موقفه وموقف حزبه في مختلف جوانب العملية السياسية.

بل تعدّت الاتهامات لأردوغان باستثمار ملف اللاجئين السوريين في خدمة سياسته الداخلية إلى اسثماره في خدمة سياستيه الإقليمية والدولية.

ففي الموضوع السوري لا تزال الحكومة التركية توظف موضوع اللاجئين كورقة ضغط على النظام الحاكم وحلفائه من جهة وعلى بعض خصومه من جهة أخرى، كما في قضيتي أموال الإعمار ومساعيها لمنع هجوم جيش النظام على المناطق الخارج عن سيطرته في إدلب وحلب وحماة.

حاول النظام الحاكم في سوريا وحلفاؤه الاستفادة من ضغط اللاجئين على الحكومات الأوروبية في عرض مقايضة إرجاع هؤلاء إلى المناطق التي يسيطر عليها بأموال تدفعها تلك الدول للنظام باسم "إعادة الإعمار"، واشترطت الدول المانحة لتقديم الأموال إحداث تغييرات سياسية وتأمين اجواء آمنة تساعد الدول المضيفة على اتخاذ القرار بترحيل ما في أرضها من لاجئين لم يتمكنوا من دخول سوق العمل، وهذا ما عجز النظام وحلفاؤه الروس عن تقديمه، بل وتواترت الأخبار بتعرض كثير من اللاجئين الذين أعادتهم الحكومة اللبنانية للاعتقال والإخفاء من قبل الأجهزة الأمنية رغم تلقيهم تطمينات مسبقة بتسوية أوضاع المطلوبين منهم.

ونظرا لاستضافة تركيا ملايين اللاجئين السوريين، فهي تضغط بهم على أوروبا من جهة بتخويفها من فتح المجال أمامهم للعبور إلى القارة مما يضع حكوماتها أمام ضغط كبير من معارضيها، وتضغط بهم على النظام وحلفائه من جهة اخرى بأنها لن تدفع اللاجئين للعودة إلى مناطق سيطرته ما لم يلب المطالب التركية بخصوص مفاوضات الحل النهائي، الأمر الذي يحجب عنهم أموال "إعادة الإعمار" المشروطة بعودة اللاجئين.

وكذلك رأينا استغلال الحكومة التركية للأمر في الضغط على النظام لمنعه من شن حملة عسكرية على إدلب، بعد تصريحات لمسؤولين في النظام بهذا الخصوص، إذ سارع المسؤولون الترك إلى تخويف الغرب من أن هذا الفعل سيؤدي إلى موجة لاجئين جديدة تدخل تركيا وعجز تركيا عن تحمل المزيد من اللاجئين، ما ساهم بإطلاق مسؤولين أوربيين تصريحات تعبر عن رفضهم شن أي حملة عسكرية على إدلب في ظل احتوائها على عدد كبير من النازحين الذين هجرهم النظام من مناطق أخرى.

وفي قضية الصراع التركي القديم مع حزب العمال الكردستاني فإن أردوغان يسعى لاستثمار اللاجئين السوريين في خطط طويلة الأمد لمجابهة مخاطر إنشاء كيان كردي في المنطقة الشمالية من سوريا المحاذية للحدود التركية، وذلك عن طريق العمل على تغيير الواقع الديموغرافي للمنطقة برفع نسبة السكان العرب فيها، وتقليل نسبة الكرد بدفعهم إلى الانتقال إلى المناطق الداخلية في سوريا بعيدا عن الشريط الحدودي الذي ترتفع كثافتهم فيه، وهذا الأمر سيفضي في النهاية إلى تشكيل مساحة عازلة بين منطقتي الكثافة السكانية الكردية العالية في سوريا وتركيا.

ولعل ما حدث في عفرين خير مثال، حيث أقدم الجيش التركي على دخول المنطقة بعد سيطرته على مناطق الباب وجرابلس والراعي ومارع واعزاز بهدف قطع الاتصال بين مناطق سيطرة وحدات حماية الشعب في منبج وعفرين، ومنع تشكيل "حزام كردي" يمتد من نهر دجلة شرقا وحتى عفرين غربا، ومع دخول القوات التركية ومن معها من فصائل الجيش الحر إلى عفرين وخروج وحدات حماية الشعب منها نزح عشرات الألوف من سكان عفرين الأكراد من المنطقة باتجاه مدينة حلب ومناطق أخرى تسيطر عليها وحدات حماية الشعب، ما أدى إلى تراجع عدد الأكراد في المنطقة التي كان وجود العرب فيها قليلا جدا قبل ذلك.

وأعقب هذا إسكان عشرات الألوف من النازحين العرب المهجرين من مناطق ريف دمشق في مخيمات ومدن المنطقة، وعملت السلطات التركية فيما بعد على تحسين ظروف المعيشة في المنطقة بما يشجع النازحين على الاستقرار فيها.

وهكذا حدث ما يطلق عليه أنصار حزب العمال الكردستاني وصف "التغيير الديموغرافي" والذي كان جيش النظام أهم المتسببين فيه بفرضه التهجير على سكان الغوطة، واستفاد من ذلك الأتراك في تنفيذ مخططهم الديموغرافي بطريقة عوضتهم عن الدفع بقسم من اللاجئين الموجودين في الداخل التركي باتجاه هذه المنطقة، وشكل بديلا لنازحي ريف دمشق عن محاولة الدخول إلى تركيا للاستقرار فيها.

ونجاح خطتها في عفرين أغرى الحكومة التركية بالعمل على توسيعها إلى مناطق أخرى من سوريا تكثر فيها نسبة الأكراد، وخاصة منطقة شرق الفرات حيث ينتشر الكرد بكثافة على الشريط الحدودي الممتد بين نهري دجلة والفرات.

ورغب أردوغان في السيطرة على هذه المنطقة وقطع التواصل بين مقاتلي وحدات حماية الشعب ورفاقهم من مقاتلي حزب العمال الكردستاني على جانبي الحدود، حيث استخدموا من قبل الأنفاق وطرق التهريب لنقل الأفراد والسلاح والأموال إلى المدن التركية الملاصقة للحدود والتي كان مقاتلو الحزب ينتشرون فيها بكثافة قبل أن يتمكن الجيش التركي من إخراجهم منها في حملة عسكرية كبيرة شملت أكثر المدن والبلدات الحدودية في ولايات ماردين وشرناق، وكذلك أعلن المسؤولون الأتراك عزمهم على استخدام هذه "المنطقة الآمنة" مستقبلا كمأوى لملايين اللاجئين الموجودين في تركيا، الأمر الذي سيؤدي إلى دفع الأكراد باتجاه المناطق الداخلية ذات الأغلبية العربية في الحسكة والرقة من جهة، ويرجح نسبة العرب على الحدود إلى الحد الذي يقضي على كل أمل للأحزاب الكردية بخلق إقليم كردي جديد شبيه بكردستان العراق.

استثمار أردوغان وحكومته لقضية اللاجئين السوريين أخذ بعدا عالميا أيضا، بتحولها إلى محور من محاور العلاقة بين الحكومة التركية والحكومات الأوروبية، وذلك بعد فيضان اللاجئين الذي اجتاح أوربا منذ سنوات وسبب مشكلات كبيرة للحكومات الأوروبية، وكان وراءه فتح تركيا حدودها لمئات الألوف من اللاجئين الذين اندفعوا عبر البحر باتجاه البر الأوروبي وعبروه سيرا على الأقدام لينتشروا في مختلف بلدانه وصولا إلى المنطقة الاسكندنافية شمالا.

وتمكن أردوغان من تحصيل مليارات الدولارات من الاتحاد الأوروبي تدفع لحكومته كتعويض عما تقدمه من خدمات ومساعدات للاجئين، رغم تقديرات دول الاتحاد أن ما يأخذه الأتراك منهم يفوق بكثير ما يقدم إلى اللاجئين السوريين من أموال وسلع وخدمات، كما تمكن من الحصول على وعد بدراسة منح المواطنين الأتراك الحق بدخول الاتحاد الأوروبي دون تأشيرات، وهو ما لم يتحقق حتى الآن.

وهكذا جنى أردوغان وحزبه منافع كبيرة سياسية واقتصادية واستراتيجية من وجود الملايين من اللاجئين السوريين على الأراضي التركية، وهو ما لم يتحقق لدول الجوار الأخرى.

ففي لبنان تعاملت بعض الأطراف مع هذا الملف بطريقة عدائية، بحكم علاقاتها مع النظام الحاكم في سوريا والذي يعادي هؤلاء اللاجئين لكونهم خرجوا من البلاد هربا من عنف جيشه وعصاباته المسلحة، أو لتخوف آخرين من استقرار طويل الأمد لهؤلاء اللاجئين المنتمين إلى "السنة" مما يقوي موقف المنتمين إلى هذه الطائفة من اللبنانيين في تكرار لقصة استقرار اللاجئين الفلسطينيين والتي تسبب رافضوها باندلاع الحرب اللبنانية المدمرة.

وفي الأردن تعاملت الحكومة مع اللاجئين السوريين كعبء اقتصادي جديد سيثقل كاهل الحكومة الذي ينوء بأحمال كبيرة في ظل تراجع عائدات الخزينة وارتفاع حجم الديون، الأمر الذي حصر هموم هذه الحكومة بتأمين الدعم الدولي لها بالاستفادة من هذا الملف، وكذلك لم تغب المخاوف المتعلقة باستقرار هؤلاء في البلد الذي يشكل اللاجئون الفلسطينيون سابقا 40% من مجموع الحاصلين على الجنسية، ويشكل المقيمون الأجانب 30% من مجموع السكان.

أما بالنسبة للعراق، وبما أن أغلب اللاجئين استقروا في مناطق كردستان، واقتصروا على الكرد غالبا، فقد سعت حكومة الإقليم لاستثمار وجودهم في الشأن التركي الداخلي، بزيادة نسبة الموالين لها بين أكراد سوريا من جهة، والعمل على إنشاء قوة عسكرية منهم سميت "بيشمركة روج آفا" شاركت قوات الإقليم معاركه في سنجار وكركوك، بينما حال رفض خصوم البرزاني في حزب العمال الكردستاني من إدخال هذه القوات إلى سوريا، حتى مع طرحهم كقوات مقبولة تركيا لتأمين مناطق شرق الفرات.

وسيبقى اللاجئون السوريون في مختلف دول العالم عاملا مؤثرا في السياسات الداخلية والخارجية للدول التي تأويهم، ويبقى ملفهم عرضة للتوظيف والاستثمار في أسواق السياسة، حتى يتمكنوا من العودة إلى بلادهم أو يتحولوا إلى جاليات مؤثرة في البلدان التي ستقبل بإعطائهم صفة مواطنين فيها.