الحراك الشعبي هو الرد والبديل عن الانقلابات العسكرية

تشرذم ولاءات القوات العسكرية يجعل من الصعب عليها أن تسعى لفرض التغيير بالقوة.

زمن الإنقلابات العسكرية في العراق ولّى، هذا كلام لا يطلق على عواهنه، وإنما تؤكده الوقائع التي تجري على الأرض. من يمني نفسه بإنقلاب عسكري كمن يحرث في بحر.

إعتباران هامان يتقدمان كل الإعتبارات. الأول، أن ولاء قادة الجيش والمنظومة الأمنية العراقية يتوزع على كل الذين إنخرطوا في العملية السياسية، عرباً وكرداً، سنة وشيعة، وحتى داخل هذه الإصطفافات يتوزع الولاء على كتل وحركات وأحزاب، غالباً متناحرة، ومتصارعة على المكاسب، وأفراد وعشائر، بالإضافة إلى هذا فثمة قوى توازي القوة العسكرية الرسمية، وربما تتفوق عليها أحياناً، وهي قوى مسلحة ومدربة تدريباً عالياً، ومستعدة على الدوام للقتال، ولاؤها المطلق لمن يتبناها وينفق عليها، وهي تأتمر بأمره، وطاعتها تصل حد الانقياد الأعمى.

والإعتبار الثاني أن العراق يخضع لإرادتين أساسيتين، متناحرتين، هما على وجه التحديد أميركا المحتلة، وإيران التي عرفت كيف تزحزح المحتل وتهمش دوره في الكثير من مواقع السلطة والقرار. صحيح أن المحتل فرض على العسكر الذين قبل إنخراطهم مجددا في السلك العسكري والأمني والمخابراتي الخضوع المطلق لتعليمات حددها هو، لكنه من جانب آخر سمح بالتوازن الطائفي والأثني في هذه القوات وشجعه، مما فسح المجال لجعل الولاء الطائفي والأثني هو المقدم، لأن كل طائفة ومجموعة أثنية كانت هي التي ترشح من سيشغل حصتها. في مرحلة الإحتلال الأولى لم يكن هذا الأمر واضحاً للعيان، فالمنخرطون في قوام القوات العسكرية والأمنية كانوا تحت التجربة، لذا كانوا حريصين على إثبات ولاءهم، خصوصاً وأنهم كانوا يُبتزون بسهولة بسبب كونهم كانوا ضباطاً كبارا في القوات العسكرية والأمنية السابقة، وهي قوات كانت بعثية بالتمام، عن رضى أو إكراه، وكانوا تحت طائلة السيف المسلط عليهم ألا وهو سيف الإجتثاث، بالإضافة إلى كون المقاومة العراقية كانت تعتبرهم خونة وتهدر دمهم، وكانت تترصدهم، لذا لم يكن لهم من خيار إلا الطاعة لقوى الإحتلال. إلا أن هذا الأمر تبدل فيما بعد، عندما عزز المحتل الإحتراب الطائفي والأثني وفق القاعدة البريطانية المشهورة "فرق تسد"، فكان إن إستقوى العديد منهم بالطائفة التي ينتمي إليها أو القومية التي ينتسب لها، وضعف تدريجياً إرتباطه بالمحتل، وبالأخص بعد خروج أغلب قواته من البلد، إثر التفاهمات مع الحكومة السابقة، وتحت تأثير الخسائر الكبرى التي مني بها، والتي لم تكن متوقعة بالنسبة له.

كانت قوات الإحتلال تواجه عدواً شرساً متمثلاً بالمقاومة المسلحة لذا فقد تساهلت مع الإحزاب والقوى التي تخادمت معها، وفسحت لها المجال للتغلغل في الأجهزة الأمنية، وقد ساعد هذا الموقف الذي أضطرت إليه على خلخلة وحدانية سيطرتها على القوات المسلحة بكل صنوفها، لذا فليس من الممكن الآن الزعم بأن ولاء القوات المسلحة للمحتل فقط، بإستثناء العملاء المرتبطين فعلياً به فعلياً، مع ملاحظة أن ولاء أفراد هذه القوات لم يختبر بعد، بإستثناء البيشمركة التي عدت نفسها قوات كردية وكردية فحسب مع إسقاط مُتعمد للبعد الوطني العراقي قبل التحولات في الإقليم وإستعادة ما يسمى بالمناطق المتنازع عليها، وعراقية هذه القوات تحتاج إلى تأكيد.

تعزز دور ونفوذ العناصر المسلحة خارج القوات الرسمية بعد مساهمتها الفاعلة في قتال داعش وتحرير كامل الأرض العراقية، وهي أصبحت رقماً صعباً، لا يمكن تجاوزه أو تخطيه، ويترافق هذا مع إنحسار النفوذ الأميركي في الإقليم، وبالأخص في سوريا، وتبدل موازين القوى في المنطقة عموماً.

من يمتلك القدرة على تحريك قطعات عسكرية بعد السلطة القائمة، أميركا وإيران، وكل منهما يقامر بحرب أهلية لا تبقي ولا تذر، قد تأتي على نفوذه أو ما تبقى له من نفوذ، وبتقديرنا أن إيران سوف لن تلجأ لهذا الخيار إلا إذا حُصرت في الزاوية الضيقة، أما أميركا فقد إنتهجت سياسة التلويح بالقوة، أو إستعمالها بشكل محدود، لا يؤدي إلى حرب شاملة ستكون عواقبها وخيمة على تواجدها في المنطقة، وربما تقليص نفوذها بشكل مريع، لذا فإن الخيار العملي الممكن هو التفاهم على حفظ المصالح قدر الإمكان بين المتخاصمين إيران وأميركا من دون التجاوز على نفوذ أي منهما.

لذا فإن التعويل على إنقلاب عسكري يغير الأوضاع أمر غير ممكن، لأنه غير عملي وكارثي بكل المقاييس.

أمر واحد فقط يمكن التعويل عليه، ألا وهو إبداع الجماهيرالتي ستجترح طرائق للنضال من أجل حقوقها، وإجبار حكامها على الإنصياع لمطالبها، عبر تشديد النضال، والإنتقال من التظاهر السلمي إلى العصيان المدني، وبهذا فإنها ليس فقط ستجبر الحكومة المستبدة والفاسدة على الإنصياع لإرادتها التي لا تقهر، بل ستشل قدرات القوى الخارجية كائنة من كانت، وسيكون هذا طريقها لتدشين عمليتها السياسية، المستجيبة لمصالحها الوطنية، لا التي وضعها المحتل لتوطيد مصالحة وتكريس نفوذه، لقد آن الأوان ليقول الشعب كلمته التي لا يعلى عليها، وليمتلك زمام أمره بنفسه، وشعب العراق قادر على تحقيق هذا، وهو أهل لإجتراح المعجزات.