الحقيقة لها ثلاثة أوجه

الحقيقة، اعبدوا الحقيقة عبادة، ليس ثمة ما هو أثمن ولا أجل منها في الوجود، اعبدوها واكفروا بأي شيء يتهددها بالفساد.
الحل بأيدينا نحن،  بأن نطالب دائما بالحقيقة كاملة غير منقوصة ولا شيء غير الحقيقة، وإلا نقوم بمقاطعة وسائل الميديا الكاذبة
تأثير الأخبار الكاذبة والمنقوصة عبر وسائل تصل للملايين أخطر كثيرا من شاهد زور قد يؤذي عددا بسيطا من المواطنين

يقول قضاة الطلاق في أميركا بأنه في حالات الطلاق التي مرت أمامهم كانت دائما هناك ثلاثة أوجه لحقيقة ما حدث، الحقيقة كما تراها الزوجة والحقيقة كما يراها الزوج، أما حقيقة ما حدث بالفعل ففي الغالب تكون ما بين هاتين الحقيقتين، لذلك في المحاكم الأميركية والعديد من قاعات المحاكم الأوروبية يتم أخذ يمين الشاهد كالتالي: "أشهد بقول الحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة".
اما في المحاكم المصرية يقول الشاهد: "والله العظيم لأشهد بالحق"، وعلى ذكر المحاكم المصرية، لقد أصبت بذهول كبير، وأنا شاب صغير، عندما سمعت بأنك قد تجد خارج بعض المحاكم في مصر أناسا يتطوعون للشهادة "الزور" مع المواطنين مقابل مبلغ من المال، ويقولون لكل الداخلين للمحكمة: "شاهد يا بيه... شاهد يا ست، شاهد يا حاج ... شاهد يا حاجة". 
ولم أصدق ما سمعت وقررت الذهاب لإحدى المحاكم لكي أرى بنفسي، واقتربت من المحكمة وتظاهرت بأني أبحث عن شخص ما، واقترب مني شاب يبدو في منتصف الثلاثينيات من العمر يرتدي ملابس لم تر حبل الغسيل منذ سنوات وبدأ هو الحوار التالي:
-    أي خدمة يا باشمهندس
-    انت مين بالضبط؟
-    انا في الخدمة .. تؤمر شاهد ياباشمهندس؟
-    تقصد شاهد لقضيتي
-    أي قضية احنا تحت أمرك، قضية طلاق، قضية أراضي ، قضية شيكات مضروبة، كل أنواع القضايا المدنية.

يبدو أن الناس بطبيعتها عندها استعداد أكبر لتصديق الأكاذيب وأخبار النميمة، لأنها أكثر إثارة من الحقيقة المجردة التي يبدو أنها تحتاج إلى كثير من الفلفل والشطة

-    طيب والقضايا الجنائية؟
-    لأ، القضايا الجانئية لها تسعيرة مختلفة ومع شريكي "عبده شقلبظات".
-    طيب القضايا السياسية؟
-    لأ .. لأ.. احنا ما نتكلمش في السياسة، ما نقدرش على الحكومة.
-    أنا عندي قضية تزوير، فيه واحد زوّر توقيعي واستولى على شقتي وأنا مسافر.
-    دي بسيطة، اعطيني أوراق القضية وأنا أدرسها بعد صلاة الظهر.
-    انت رايح تصلي الظهر؟
-    طبعا يا باشمهندس انا أصلي الوقت بوقته.
-    طيب أنت شايف ان صلاتك دي مقبولة مع شغلك اليومي كشاهد زور؟
-    لا.. لا .. يا باشمهندس عيب، احنا بنساعد الناس لأخذ حقوقها.
-    أخذ حقوقها أو أخذ حقوق الغلابة؟
-    يا باشمهندس كلنا غلابة.
-    ازاي يا راجل تحلف في المحكمة إنك تقول الحق وتشهد على أشياء لا تعرفها؟
-    لأ، أنا لما أحلف في المحكمة أقول: والله العظيم "لا أشهد" بالحق، بدلا من أقول والله العظيم لأشهد بالحق، وغالبا تعدي على القاضي!
-    طيب القضاة بالمحكمة لا يعترضوا أنك تشهد دايما، يعني زبون مستديم بالمحكمة؟
-    يا باشمهندس القاضي قدامه 200 قضية يوميا ولا يرفع عينه من أوراق القضايا ولا يري ولا يعرف من وقف أمامه.
-    على العموم اشوفك بعد صلاة الظهر عشان تقول لي تسعيرة شهادتك معي بكم، وحرما مقدما!
انصرفت ولم أرجع له بالطبع، لأنه لم يكن لدي أي قضية ولكني أحببت أن أتأكد من وجود شهود الزور أمام المحاكم كما سمعت.
والآن وفي هذه الأيام نتلقى على مدار 24 ساعة و7 أيام في الأسبوع فيضانا من الأخبار التي تصب فوق رؤوسنا من التليفزيون والراديو والنت وكل أنواع السوشيال الميديا، باقي فقط أن افتح البوتاجاز لكي أجد الأخبار تنطلق في وجهي، ومع كل هذا الفيضان من الأخبار يخلط كثير من المراسلين والصحفيين بين الخبر والرأي، بل وأحيانا يعتبرون أن آراءهم هي الحقيقة.

ومع التحزب والإستقطاب السياسي والديني والعقائدي الذي ألاحظه حول العالم في السنوات الأخيرة، أصبح هناك ثلاثة أوجه للحقيقة مثل حالات الطلاق، على سبيل المثال: حقيقة الحزب المحافظ المتدين اليميني، وحقيقة الحزب اليساري، والحقيقة المطلقة التائهة بين الحزبين.
وكثيرا ما أتساءل ما هو الفرق بين شاهد الزور الذي قابلته خارج المحكمة، وبين الصحفي الذي يختلق أخبارا لمصلحة حزبه أو لمجرد جذب أكبر عدد من المشاهدين إلى قناته التليفزيونية أو موقعه الإلكتروني. إني أرى أن شاهد الزور أفضل كثيرا وأكثر شرفا لأنه يعرف أن هذه مهنته ويكسب منها زرقه، بل ويعتقد أنه يساعد الناس على حساب الحقيقة، أما الصحفي أو النجم التليفزيوني أو صاحب حساب تويتر وفيس بوك الذي يختلق أخبارا لا وجود لها أو يبتسر من الأخبار ما يرى أنها لمصلحته أو للإضرار بخصومه حتى لو أدى ذلك إلى الإضرار بالناس والمواطنين والوطن، أنا أعتبر بأن من يفعل هذا أسوأ كثيرا من شاهد الزور، لأنه أولا: إذا لم ينقل لنا الحقيقة كاملة غير منقوصة، فيصبح كاذبا وخائنا لمهنته، ثانيا: أن تأثير الأخبار الكاذبة والمنقوصة عبر وسائل تصل للملايين أخطر كثيرا من شاهد زور قد يؤذي عددا بسيطا من المواطنين، إن التحزب والإستقطاب التخريبي قد يؤدي لإشعال فتنة كبرى قد تصل إلى الحرب الأهلية كما نرى حولنا، ثالثا: هؤلاء الأشخاص المخربون يعتقدون أنهم يؤدون خدمة جليلة لحزبهم أو لمن يدفع لهم بل ويعتقدون أنهم يفعلون هذا من أجل الوطن أيضا، ويصبحون أكثر ثراء كلما كبرت الكذبة، لأنه يبدو أن الناس بطبيعتها عندها إستعداد أكبر لتصديق الأكاذيب وأخبار النميمة، لأنها أكثر إثارة من الحقيقة المجردة التي يبدو أنها تحتاج إلى كثير من الفلفل والشطة.
والحل بأيدينا نحن، بأن نطالب دائما بالحقيقة كاملة غير منقوصة ولا شيء غير الحقيقة، وإلا نقوم بمقاطعة وسائل الميديا الكاذبة.
...
"الحقيقة، اعبدوا الحقيقة عبادة، ليس ثمة ما هو أثمن ولا أجل منها في الوجود، اعبدوها واكفروا بأي شيء يتهددها بالفساد". (نجيب محفوظ على لسان "إبراهيم عقل" الأستاذ الجامعى يخاطب تلاميذه فى الجامعة وهو أحد شخصيات رواية "المرايا").