الحلف غير المقدس.. المشايخ ورب الدم العبري

خليط من السذاجة والوعظ الديني والاستنجاد بالاسرائيليات لتفسير مرحلة موثقة من تاريخ مصر القديم.

يحلو لبعض خطباء المساجد سباب قوم يسمونهم «الفراعنة»، ويقصدون بهم ملوك مصر القديمة، ويتهمونهم بالكفر غافلين عن الآية القرآنية «من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها. ولا تزر وازرة وزر أخرى، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا»، إذ عاش أغلب هؤلاء الذين يسموْن «الفراعنة» قبل أن يبعث الله إليهم «رسولا»، قبل زيارة أسطورية ذكر العهد القديم أن إبراهيم الخليل قام بها لمصر، ولا يوجد أثر مصري يشير إلى تلك الزيارة، كما لم يسجل دليل تاريخي أو أثري، مصري أو غير مصري، أن مصر كانت مسرحا لحادث خروج بني إسرائيل.

 أقول «حادث»، لأنه وفقا للعهد القديم كان أكبر من زلزال، تسونامي كوني ترك آثارا عسكرية واجتماعية، ورسم خريطة جيوسياسية لبلد خرج منه بنو إسرائيل، وآخر سيصير جارا مثيرا لعواصف مزمنة. ويكتفي هؤلاء الوعاظ الطيبون بترديد ما ذكره القرآن كحقيقة تاريخية، ويضيفون إليه بكثير من الشماتة والتشفي بعضا مما يلمون به من إسرائيليات توعدت بالانتقام من مصر، والثأر التاريخي لشعب الله المختار. ولا يمس هؤلاء الوعاظ شيء من القلق فينظرون في «اجتهادات» باحثين صهاينة يسعون إلى التوفيق بين خرافات وأساطير اكتسبت بالتقادم قوة الحقيقة، وبين منطق يتساءل عن ذلك الرب العبري الذي تستهويه الدماء، ويحث على السرقة بالاحتيال. ولكن هؤلاء الوعاظ يتجاوزون عن هذا الأمر، ولا يرون غرابة في استحالة «خروج» هذا العدد الكبير من اليهود تسللا، وكانوا وفقا للعهد القديم «ست مئة ألف راجل، ما عدا النساء والأطفال، وخرج أيضا معهم كثير من الأغراب، وغنم وبقر ومواش كثيرة». ويصطف هؤلاء الوعاظ، من دون قصد، مع اليهود في العثور على جذور تاريخية تُبعث فيها الروح، كواجهة لصراع حضاري.

يذكر العهد القديم كيف حرض يهوه، إله موسى، على سرقة حليّ المصريين وأمتعتهم: «وفعل بنو إسرائيل كما قال لهم موسى، فطلبوا من المصريين مصاغ فضةٍ وذهبٍ وثيابا. وأعطى الرب الشعب حظوة عند المصريين فوهبوهم ما طلبوا. وهكذا سلبوا المصريين». رب الدم العبري ليس مفارقا متعاليا عليما، ولكنه يهبط بنفسه في منتصف الليل، ينزل من عليائه؛ لكي يمارس القتل، في اندفاعة هائجة لا يميز فيها بيتا لمصري عن آخر لإسرائيلي، وتجنبا للوقوع في الخطأ يدعو شعبه المختار إلى وضع علامة إرشادية على البيت المستهدف بالتدمير: «وقال موسى هكذا يقول الرب إني نحو نصف الليل أخرج في وسط مصر. فيموت كل بكر في أرض مصر من بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلف الرحى وكل بهيمة. ويكون صراخ عظيم في كل أرض مصر لم يكن مثله ولا يكون مثله أيضا». وفي الإصحاح التالي يقول: «فإني أجتاز في أرض مصر هذه الليلة، وأضرب كل بكر في أرض مصر. من الناس والبهائم... أنا الرب. ويكون لكم الدم علامة على البيوت التي أنتم فيها. فأرى الدم وأعبر عنكم. فلا يكون عليكم ضربة للهلاك حين أضرب أرض مصر. ويكون لكم هذا اليوم تذكارا فتعيدونه عيدا للرب. في أجيالكم تعيدونه فريضة أبدية».

 ولو أعمل الوعاظ العقل لتأكد لهم أن في قصص القرآن «عبرة لأولي الألباب»، ولا أظنهم في استسهال اتهام الملك رمسيس العظيم بالكفر وتعذيب بني إسرائيل، واعتباره «فرعون الخروج» قد ألموا بما كتبه إيمانويل فلايكوفسكي (1895 ـ 1980) في موسوعته «عصور في فوضى»، وهي محاولة تعارض «حرس العقيدة»، لإعادة ترتيب وقائع التاريخ القديم، واختلاق رابط بين التاريخ المصري وما يسمى التاريخ اليهودي، «وحل مشكلة تزامن تاريخي هذين الشعبين القديمين، وكل منهما يحتل مركزا مرموقا في التاريخ»، تمهيدا لإفساح مجال لوجود فاعلٍ لبني إسرائيل في فلسطين، بتلفيق لئيم يجعل من الأسطورة تاريخا، عبر الانطلاق من حقائق لتوثيق الأساطير.

مصريون يتجمعون عند تماثيل رمسيس الثاني في معبد أبوسميل
رمسيس ترك سبلا لعيش المصريين عابرة للتاريخ

في الجزء الأول من الموسوعة وعنوانه «عصور في فوضى.. من الخروج إلى الملك أخناتون»، يقول إن الخروج ليس معجزة إلهية، ولكنه مع البلايا العشر أحداث طبيعية نتجت عن اختلال كوني، بسبب اصطدام ذيل مذنب بالكرة الأرضية فاختل مركز دورانها، وحدثت تلك الظواهر «الطبيعية»، ومنها انحسار الماء، ثم اندفاعه في مدّ زلزالي، موج كالجبال.

 في إجماع نادر على أسطورة، يتفق سيسيل دي ميل وستيفن سبيلبرغ ودار الإفتاء المصرية على أن رمسيس الثاني «فرعون الخروج». ولكن عنوان هذا الجزء «من الخروج إلى الملك أخناتون»، من موسوعة فلايكوفسكي، يمنح رمسيس الثاني البراءة من تهمة تعذيب اليهود، ويرى الكاتب اليهودي أن الخروج سابق بعدة قرون على رمسيس الثاني، وأن مملكة سليمان في فلسطين عاصرت حكم الملكة حتشبسوت (1503 ـ 1482 قبل الميلاد)، التي توفيت قبل تولي رمسيس الحكم بنحو 79 عاما، كما يفترض أن الخروج سابق على أخناتون ببضعة قرون، وقد بدأ حكم رمسيس الثاني بعد الوفاة الغامضة لأخناتون بنحو 58 عاما. ولكن اليهود انتقوا رمسيس الرمز الأشهر، فجعلوه بطلا لأفلام رسّخته في الضمير العالمي طاغية ارتكب جرائم ضد الإنسانية. ثم استجاب رجال دين مسلمون لهذا التضليل، فأفتوا بغير علم، بجرأة وعدم إحالة السائل إلى أولي العلم.

  لا يقتصر هذا الجهل والتجهيل، وإذا شئت الدقة فيمكنك أن تسميه الضلال والتضليل، على خطباء أفراد من الهواة والمحترفين، وإنما لا تتورع عن الخوض فيه مع الخائضين دار الإفتاء المصرية، من دون أي تهيّب يفترض أن يقترن بتدبر آيات قرآنية تثبت قطيعة ما قبل الخروج عما بعده، «كم تركوا من جنات وعيون. وزروع ومقام كريم. ونعمة كانوا فيها فاكهين. كذلك وأورثناها قوما آخرين»، ولم يرث أحدٌ مصر والمصريين، بعد هلاك مفترض لحاكم يلقبونه بالفرعون، كما بقيت الصروح التي تحمل أسماء بناتها العظام شاهدة على تواصل الحضارة المصرية القديمة.

 هناك فتاوى تدخل في باب الفكاهة المريرة، ويمكن لغيري أن يراها مصطنعة اصطناعا لإلهاء الناس وشغلهم عن قضايا أكثر أهمية، كأن يتطوع الدكتور صبري عبدالرؤوف بفتوى لا تستهدف فك ضائقة أحد، سواء الضائقة المادية والجسدية. لم يقل الرجل الذي يعمل أستاذا للفقه المقارن بجامعة الأزهر إن مسلما مزنوقا استفتاه فاضطر إلى الإجابة عن السؤال، وبشره بأن «معاشرة الزوج لزوجته الميتة حلال، وليست زنا، ولا يقام عليه الحد، لأنها شرعا زوجته».

  لا أظن من يرتكب مثل هذا السلوك إنسانا سويّا يبحث عن مسوّغ شرعي لانحرافه النفسي، لكي يفتي أستاذ الفقه المقارن بلغو ينافي الذوق والفطرة الإنسانية. هذه الفتوى إحدى ثمار أفق نصوصي منغلق سيتكفل بنسفه التطور الأخلاقي الذي ينسخ النص، ويتجاوزه. ولكن من غير المفهوم ألا يأخذ مسؤولو الفتوى الرسميون بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، فلا يتذكرون حديث «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار»، وهم يجيبون عن سؤال ربما ينفق مؤرخ وأثري فيه عمره، ولا يصل إلى مشروع للإجابة عنه: من فرعون موسى؟

 دار الإفتاء المصرية أجابت: «أرجح الأقوال عند المفسرين وعلماء التاريخ أن فرعون نبي الله موسى عليه السلام هو رمسيس الثاني.. وإن كان هناك رأي آخر يرى أن نبي الله موسى قد عاصر اثنين من الفراعنة؛ فقد كان الشيخ رشيد رضا رحمه الله يرجح أن فرعون موسى هو منفتاح، يقول: والمرجح عند المتأخرين من المؤرخين الواقفين على العادات المصرية أن فرعون موسى هو الملك منفتاح، وكان يلقب بسليل الإله «رع»، وقد جاء في آخر الأثر المصري الوحيد الذي ذكر فيه بنو إسرائيل «وهو المعروف برقم (43025) المحفوظ في متحف مصر».

  إذا كان هناك سائل حقا، فكان على دار الإفتاء توجيهه إلى العنوان الصحيح، وهم «الراسخون في العلم» من المؤرخين والأثريين. وأغلب الظن أن المشايخ لم يدرسوا التاريخ المصري القديم، ولا يحيطون بعلم المصريات، حيث تحظى مصر دون غيرها من بلاد الله بعلم يحمل اسمها، ولا يجهله سواهم. وأمام العجز عن الإجابة يسهل القول إن القرآن ليس كتابا في التاريخ، ولا يوثق سيرة أحد، «لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب»، ولو كان الملك رمسيس الثاني معاصرا للخروج لأراحنا الله بتحديد اسمه، وزمن وجوده، حين «قصّ» حكايته في القرآن الذي تضمن «أحسن القصص»، بهدف الاعتبار لا التوثيق التاريخي.

 لقبتُ رمسيس بالملك لا الفرعون، وحين أقرأ لقب «الفرعون» أو أسمعه، فإنني تلقائيا أنصرف عن القراءة والسماع، وأتهم القائل بالجهل أو الاستسهال؛ فلم يكن «فرعون» اسما لملك مصري ولا لقبا، والكلمة تعني البيت الكبير، كما كان يقال الباب العالي لمركز الحكم الاستعماري في الدولة العثمانية. وقد نجحت الآلة الدعائية الصهيونية ـ قبل تأسيس كيانها المعادي في فلسطين ـ في اصطياد الملك رمسيس، فاختارته «فرعونا» للخروج الذي يسهل أن ننفي أن تكون مصر مسرحا له، فلم يسجل مؤرخ أن تاريخها القديم عاش فيه مصريون يحملون أسماء: قارون وهامان.

 لا يملك الذين يتجرأون على الفتوى فضيلة التواضع، ولا يعرفون أن من الفتوى أيضا قول: «لا أعلم». وقبل سنوات قرأت كتاب «البيان في روائع القرآن» للدكتور تمام حسان، وهو أستاذ علم اللغة بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة وليس متخصصا في التاريخ أو الآثار، ولكن الأمر إذا تعلق برمسيس فكأنك في ميدان عام، وترى الناس يضربون شخصا ويسبونه. في الزحام لن تتحقق أو تسأل، بل ستصب غضبك من إحباطاتك وهوانك وقلة حيلتك على الرجل المضروب. وتبدو القضية في حالة رمسيس كأنها نوع من جلد الذات، أو مصادفة سيئة توافق البحث عن عدو يليق بخرافات اليهود.

 خصص الدكتور تمام حسان فصلين عن قصة يوسف عليه السلام، وبني إسرائيل في القرآن الكريم، وقال «إذا افترضنا أن يوسف ظهر في عهد الأسرة الخامسة عشرة، وأن بينه وبين موسى أسرتان ملكيتان [كذا بالنص!] هما السادسة عشرة والسابعة عشرة، فلربما رأينا الزمن بين هذين النبيين كافيا لنشوء جالية إسرائيلية محدودة العدد مجتمعة في إقليم واحد، بحيث يمكن أن يقودها إلى الخلاص شخص واحد».

 في البحث «العلمي» لا يكفي ولا يشفع للمؤلف الهاوي أن يقول «افترضنا» و«ربما»، وكأنه يردد مقولات العهد القديم الأسطورية، ويتطوع بقول «كلام» يحاول أن يرتقي به إلى مستوى «الحقيقة»، ويذكر قرائن وإشارات، مخالفا قواعد ومبادئ التحقيق العلمي في الإثبات بأدلة قاطعة. ويقول أيضا: «ثمة قرائن تشير إلى أن فرعون موسى هو رمسيس الثاني، من هذه القرائن:

 أ ـ أن رمسيس الثاني صاحب أطول مدة قضاها أحد الفراعنة على عرش مصر، فلقد ظل رمسيس الثاني في الحكم سبعة وستين عاما وذلك زمن يمكن أن يولد فيه الإنسان ويشب ويبلغ مبلغ الرجولة كما وقع لموسى عليه السلام.

 ب ـ إن في أخلاق هذا الفرعون جانبا من العدوان والتسلط وحب الذات وعدم الأمانة جعله لا يبالي أن يمحو أسماء الفراعنة السابقين من بعض الآثار ليسجل اسمه عليها فيسرق تاريخهم ليضيفه إلى نفسه. فلا عجب أن يقف من بني إسرائيل أولا ومن موسى ثانيا مثل هذا االموقف.

  ج ـ والنقطة الثالثة وإن كانت لا ترقى إلى درجة القرينة تحمل عبرة أكثر مما تحمل دلالة جازمة لقد اكتشف القائمون على الآثار في مصر أخيرا أن مومياء رمسيس الثاني تعاني من نمو بعض الطحالب فيها وأنها الوحيدة من مثيلاتها التي ظهرت فيها هذه الآفة ومن ثم أرسلت إلى فرنسا لعلاج هذه الظاهرة. والمعروف أن الطحالب كائنات مائية فنموها دليل على تعرض موضعها للماء وإذا كان الأمر كذلك فإن مومياء رمسيس تكون قد تعرضت ذات يوم للماء أي الغرق في البحر».

  كلام مرسل يحمل اتهامات متهافتة، ويمكن استخدام هذا الخطاب في نقضه، فقد كان هذا الملك بناء عظيما، حكم سبعة وستين عاما (تقريبا بين عامي 1304 و1237 قبل الميلاد)، ملأ فيها البلاد بآثاره ومنشآته، فكيف يتفق هذا مع آية تدمير آثار فرعون الخروج: «وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها، وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا. ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون». وكذلك آية «فدمرناهم تدميرا». لماذا لم ينل هذا التدمير من آثار رمسيس الثاني وصروحه المعمارية التي لا يكاد موقع مصري يخلو منها؟ ألا تبرئ هاتان الآيتان رمسيس من أساطير إسرائيلية اختارته من بين ملوك الدولة الحديثة (عصر الإمبراطورية 1567 ـ 1200 قبل الميلاد)؛ للانتقام من مصر والمصريين.

لم يقل المؤرخون والأثريون إلا إن رمسيس مات في فراشه «موتة ربنا». هذا وحده سبب كاف للشفقة على الغافلين عن موت الملك في الثالثة والتسعين، فكيف يخرج في هذه السن، على رأس جيش لمطاردة قوم موسى؟ ويقول العهد القديم «فشدّ فرعون مركبته وأخذ جيشه معه»، ثم طرحهم «الرب في وسط البحر. ورجعت المياه فغطت المركبات والفرسان وجميع جيش فرعون الذين دخلوا وراء بني إسرائيل في البحر، وما بقي منهم أحد».

توفي أبناء رمسيس الثاني في حياة أبيهم إلا مرنبتاح (يسميه رشيد رضا «منفتاح»)، وقد خلف أباه، ودام حكمه أقل من ثلاثة عشر عاما. فترة لا تسمح بميلاد طفل ونشأته وقتله مصريا وهروبه، ثم عودته إلى هداية الملك. والله أعلم.