الخيال يجمع جمهور الأفلام وصناعها في الأقصر

أفلام مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية تنافست في خمس مسابقات: الأفلام الطويلة، والأفلام التسجيلية الطويلة، والأفلام القصيرة، وأفلام الطلبة، وأفلام الحريات.
رغم الصعوبات والعقبات يستمر المهرجان، بفضل روح القتال لدى منظميه
"المحارب الضائع" يفوز بجائزة النيل الكبرى لأحسن فيلم

في البدء كان الفرح بصعود ثورة 25 يناير 2011، وكان الحلم بمهرجان سينمائي يعيد مصر إلى أفريقيا، ويستعيد أفريقيا إلى مصر، وكانت البداية من مؤسسة «شباب الفنانين المستقلين»، وهي مؤسسة مدنية غير ربحية، حين شرع السيناريست سيد فؤاد والمخرجة عزة الحسيني في تأسيس مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية، وانطلقت دورته الأولى في فبراير/ِشباط 2012 بحضور نخبة من المخرجين منهم هايلي جريما وعبدالرحمن سيساكو.
ويكبر الحلم ويتجاوز عثرات الصبا، ويشق طريقه بثقة إلى مرحلة الشباب، في دورته الثامنة (15 ـ 21 مارس/آذار 2019) وقد تعددت أنشطتها والمشاركون فيها، وتنوعت قضاياها التي امتدت إلى خارج أفريقيا، وإن جمع هؤلاء سحر السينما، في محافظة فريدة كمتحف مفتوح، وهي غنية بآثارها، وتفتقر إلى قاعة عرض سينمائية. وأتاحت أيام المهرجان للضيوف ولأبناء الأقصر مشاهدة الأفلام في خمسة أماكن هي: قاعة المؤتمرات، ومكتبة مصر العامة، وقصر الثقافة، وساحة سيدي أبوالحجاج أمام معبد الأقصر، والمسرح المكشوف بجامعة جنوب الوادي. ولعل المهرجان يشجع على الاستثمار في هذا الأمر، بإنشاء دار عرض دائمة للأفلام، والمدينة مؤهلة لذلك.
الحلم بالسينما، والرهان على الخيال، تحمس له عام 2011 عماد أبوغازي وزير الثقافة آنذاك، وكان من مشجعي الأنشطة الثقافية والفنية الأهلية، بعيدا عن بيروقراطية المؤسسة الرسمية. ولم يكن أكثر المتشائمين يظن أن تسير جرافة الثورة المضادة لتمحو آثار الثورة، حتى يكاد مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية يكون الثمرة الوحيدة الباقية من طيف ذلك الحلم بالتغيير. ورغم الصعوبات والعقبات يستمر المهرجان، بفضل روح القتال لدى منظميه، وهم فريق عمل محدود العدد، وانضم إليهم الممثل محمود حميدة الرئيس الشرفي لهذه الدورة التي حملت شعار «السينما.. أن تعيش حيوات أخرى»، وكانت كلمة حميدة في حفليْ الافتتاح والختام دالة؛ فلم يتوجه بالتحية إلى وزير أو محافظ أو سفراء وغيرهم من كبار المسؤولين الحاضرين، بل خاطب مباشرة «السيد الجمهور» الذي تصنع من أجله الأفلام، وبفضل تشجيعه ينال الشهرة والمجد من يتقن عمله.  

luxor
يكبر الحلم ويتجاوز عثرات الصبا

تنافست الأفلام في خمس مسابقات هي مسابقة الأفلام الطويلة، ومسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة، ومسابقة الأفلام القصيرة، ومسابقة أفلام الطلبة، ومسابقة أفلام الحريات التي تحمل اسم الشهيد الصحفي المصري الحسيني أبوضيف، وهي المسابقة الوحيدة التي تتنافس فيها أفلام من خارج أفريقيا. وخارج المسابقات عرضت أفلام من رواندا والكونجو والكاميرون ونيجيريا وتونس والجزائر والمغرب ومصر. وحلت السينما التونسية ضيف شرف، وعرضت بهذه المناسبة ستة أفلام تونسية تمثل تيارات وأجيالا مختلفة: «الهائمون» للناصر خمير، و«ريح السد» لنوري بوزيد، و«صمت القصور» لمفيدة التلاتلي، و«صندوق عجب» لرضا الباهي، و«على كف عفريت» لكوثر بن هنية، و«نحبك هادي» لمحمد بن عطية. وكرّم المهرجان كلا من المخرجة فانتا ريجينا ناكرو من بوركينا فاسو، والمنتجة التونسية درة بوشوشة، والممثلة السودانية فايزة عمسيب، والممثليْن المصريين آسر ياسين ولبلبلة والمخرج عمر عبدالعزيز.
متابع الأفلام الروائية والتسجيلية الطويلة والقصيرة في المهرجان يخرج بزاد فني وإنساني ثريّ، يصله بتراث وتقاليد القارة السمراء، ويعود به إلى بكارة العالم، ويقرّبه من عالم ساحر فقد في الأدبيات شيئا من حمولته المعرفية؛ بسبب ابتذال مصطلح الواقعية السحرية. يوجد هذا بدرجات متفاوتة في الفيلم التونسي التسجيلي الطويل «غزالة» إخراج هاجر نفزي، والفيلم الروائي المغربي «مباركة» إخراج محمد زين الدين، والفيلم الروائي الغاني «دفن كوجو» إخراج بليتز بازاول. وتنافس الفيلمان الأخيران في مسابقة الأفلام الطويلة التي ضمت عشرة أفلام تمثل كلا من غانا وموزمبيق وجنوب أفريقيا والمغرب والجزائر وتونس ومصر. وفاز «دفن كوجو» بجائزة النيل الكبرى لأحسن فيلم. وذهبت جائزة لجنة التحكيم الخاصة إلى الفيلم المصري «ليل خارجي» إخراج أحمد عبدالله السيد. وحصل فيلم «خيط الشتاء بجلدي» من جنوب أفريقيا وإخراج جميل كوبيكا على جائزة أفضل إسهام فني. ونوّهت لجنة التحكيم بالفيلم التونسي «في عينيا» إخراج نجيب بلقاضي.
وتنافست في مسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة أعمال لافتة، منها «حقول الحرية» إخراج الليبية نزيهة عريبي، وهي تقدم قراءة عميقة لليبيا بعد الثورة على نظام معمر القذافي، من خلال مجموعة من البنات يحلمن بتشكيل فريق وطني لكرة القدم النسائية، ويجدن صعوبة في تحقيق هذا الحلم، في ظل أوضاع أمنية غير مستقرة، وأفكار سلفية تحرّم هذا النشاط الرياضي. وكانت الثورات العربية نافذة على الحرية، وأدت إلى توسيع مدارك الفتيات والرهان على فكرة التحقق في البطولات، وأتاح لهن السفر إلى مصر وتونس والأردن للتدريب والمشاركة في المباريات فرصا للتفاعل، ويبقى الحلم معلقا بأمل استعادة الدولة وتمتع الجماهير بالعقلانية وإيمانهم بالمساواة.
في هذه المسابقة أيضا يشتبك المخرج السنغالي عبدالله فال، في فيلم «مهاجرون»، مع قضية حيوية هي الهجرة السرية إلى الدول الأوروبية، ولا يميل الفيلم إلى التعميم، ويحصر اهتمامه في وجود نحو مليون مهاجر سنغالي، أغلبهم وصل إلى الشاطئ الشمالي للمتوسط عبر مغامرة بالهجرة السرية أشبه بالانتحار. وقد مضى على وجود الكثير منهم بضع سنوات في فرنسا مثلا، ويعيشون في الضواحي الفقيرة من دون أوراق ثبوتية، ولا يخفى عليهم أنهم في بلادهم فقراء، وفي أوروبا مهمشون لا يستطيعون ادخار شيء، ويتعرضون للمطاردة والترحيل، ولكن البعض منهم يفضل البقاء.
وأعلنت لجنة تحكيم مسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة عن منح جائزة النيل الكبرى لأحسن فيلم إلى فيلم «المحارب الضائع» الذي شارك في إخراجه الدنماركي سورين ستين جيسبير والصومالي نسيب فرح، ويستعرض حيرة إرهابي سبق تجنيده في لندن، وتخلى عن حركة الشباب الإرهابية، وعاد إلى الصومال ويعيش من دون أوراق ثبوتية، ويخشى أن تعثر عليه حركة الشباب وتقتله، ويرغب في الهروب إلى بريطانيا ليكون مع زوجته وابنه. ومنحت لجنة التحكيم جائزتها الخاصة إلى فيلم «شاميلا» من جنوب أفريقيا وإخراج شاميلا سادات. أما جائزة أفضل إسهام فني فنالها الفيلم المصري الألماني «الحلم البعيد» إخراج مروان عمارة.
وتنافس في مسابقة «أفلام الحريات» عشرة أفلام هي «طفح الكيل» للمخرج المغربي محسن بصري وفاز بجائزة أفضل فيلم. و«رحمة الأدغال» للرواندي جويل كاركيزي وحصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة. و«الجانش» إنتاج إثيوبي إيطالي للمخرجة ليا بيلترامي، و«المغفرة: سر السلام» إنتاج رواندي أميركي للمخرجة كاتسي لونج، و«سمكة ذهبية، سمكة أفريقية» إنتاج فرنسي سنغالي وإخراج توماس جراند، و«تجربة قوس قزح» إنتاج أميركي يوناني ألماني للمخرجة كريستينا كالاس، و«روبن» للمخرجين الألمانيين كيفن شموتسلر وتوبياس شموتسلر، و«حلم الحب» للمخرج البلجيكي آرتو جيليه، و«توب العيرة» إنتاج إماراتي أردني لبناني للمخرجة السورية لين الفيصل، و«بيت النهرين» للمخرجة السورية مايا منير.
فرضت الأحداث العاصفة في سوريا نفسها على هذا القسم في المهرجان، في فيلميْ «توب العيرة» و«بيت النهرين»، وكلاهما من وجهة نظر وبحساسية مخرجة تضفي بعدا إنسانيا على المأساة. في «توب العيرة» تضطر الجدة «سوسو» إلى مغادرة دمشق، بعد فرار أبنائها من الحرب للبحث عن ملاذ آمن. وتقيم الجدة مع عائلة ابنتها في دبي، إلا أن الأمان لا يحول دون تواصل الحنين إلى بيت العائلة الفارغ، مثل بيوت كثيرة هرب أهلها من جحيم حرب أهلية كان العراق سباقا إليها في فيلم «بيت النهرين».

مهرجان الأقصر السينمائي
درة بوشوشة وانتشال التميمي في الافتتاح

في دمشق يدور فيلم «بيت النهرين»، وبطله «سلام الزهيري» وزوجته، وهما من الطائفة المندائية التي تؤمن بديانة توحيدية ترجع إلى النبي يحيى، وتحرّم حمل السلاح ولو دفاعا عن النفس، وقد هاجرت الأسرة إلى دمشق عام 2004، هروبا من حرب أهلية ترتبت على الاحتلال الأميركي للبلاد عام 2003. تصور «سلام»، وهو فنان تشكيلي لم يتوقف عن ممارسة فن النحت، أنه سيعود إلى الديار بعد سنة واحدة، واستمرت الحرب على الهوية، فقرر البقاء في مدينة تصورها ستمنحه الأمان، فلاحقته القذائف في دمشق بداية من عام 2011. 
في العاصمة السورية أنجب أبناء لم يروا العراق، وتحول إلى «اشكندا» وهي رتبة رجل دين صابئي، ولم يفقد ابتسامته وأمله في العودة، كما استمر حنينه إلى النحت، ولم يصل إلى يقين في التوفيق بين الفن والتزامه الديني. وأما ابنته، وهي صبية تشع عيناها ذكاء، فلا ترى في الدين ما يدعو إلى تحريم الفنون أو التقليل من شأنها، وتعرّف نفسها بأنها أكثر علمانية، وتدور بينها وبين أبيها محاورات عميقة، والرجل ينصت ويبتسم. وفاز فيلم «بيت النهرين» بجائزة أفضل إسهام فني.
وذهبت جائزة رضوان الكاشف، التي تمنحها مؤسسة «شباب الفنانين المستقلين» لأفضل فيلم يتناول قضية أفريقية، إلى فيلم «ماباتا باتا» من موزمبيق. أما جائزة الفيبريسي فنالها الفيلم الروائي الجزائري «حتى آخر الزمان» إخراج ياسمين الشويخ.
ونظم المهرجان «ليلة مالمو»، وبدأت بمحاورة محمد قبلاوي رئيس مهرجان مالمو للسينما العربية في السويد، وأبدى سعادته بأوجه التعاون بين المهرجانين اللذيْن انطلقا في وقت متقارب، أحدهما نافذة على السينما الأفريقية، والآخر يقدم السينما العربية إلى جمهور أوروبي. وفي نهاية الندوة عرض الفيلم الفلسطيني «واجب» الفائز بجائزة أفضل فيلم روائي طويل في مهرجران مالمو 2018، وهو من إخراج الفلسطينية آن ماري جاسر، وبطولة محمد بكري وصالح بكري. 
بخطوات واثقة، يصل المهرجان إلى الجمهور أو يجذب الجمهور إلى العروض، فمن يشاهد فيلما مصريا مثل «ليل خارجي» و«يوم الدين» و«ورد مسموم»، يتحمس مرة أخرى ويأتي بأولاده وزملائه لمشاهدة فيلم عربي أو أفريقي، مثل «الهائمون» و«صمت القصور» و«واجب». وقد امتد المهرجان إلى جامعة جنوب الوادي، بمحافظة قنا المجاورة للأقصر، وبحضور أكثر من ستة آلاف مشاهد بدأ حفل حاشد، احتفالا بالمهرجان، وقام الدكتور محمد أبوالفضل بدران نائب رئيس جامعة جنوب الوادي بتكريم سيد فؤاد رئيس مهرجان الأقصر والفنانة لبلبة ونقيب السينمائيين المصريين مسعد فودة.