'الرأس المقطوع' في روايات آيريس مردوك

الأيرلندية مردوك تهتم في مجموع رواياتها بالشخصيات والأنماط.

اهتمت الأيرلندية آيريس مردوك في مجموع رواياتها بالشخصيات والأنماط،   ففي عملها الأول "تحت الشبكة" تابعت حياة عدة متشردين وصعاليك وجدوا مشكلة في التعايش مع حركة المجتمع. وفي روايتها الخامسة "رأس مقطوع" صورت نخبة مثقفة كل همها التسرية عن النفس بالقراءة والكحول والجدل الأفلاطوني. ولكن في روايتها القصيرة "البنت الإيطالية" حاولت تفسير التناقض الموجود في معنى الموت، فغياب شخص يفرض بالضرورة لم الشمل، وتوفير فرصة ذهبية للمصالحة وحل الخلافات.

وهذا لا يعني أنها كاتبة إشكالية مهتمة بقضايا المجتمع فقط، ولكنها تابعت سلسلة معقدة من المفاهيم والتصورات عن معنى الوطن والهوية. وإذا اختارت أن تبدأ من مسائل وجودية عامة (تصور فيها السلوك وليس التفكير أو المواقف من قضايا عامة كالمصير والقدر والسلطة) اهتمت في وقت لاحق بالحياة النفسية للشخصيات وأسلوب فهم كل منها للسلطة الغائبة (أو الإرادة الإلهية - الحدود، والغرائز - الدوافع). ولذلك يمكن القول إنها راوحت بين مشكلة الوعي الغائب (التفسير الوجودي للحياة) والعقل المستقيل (التفسير الروحي للمجتمع). ونلاحظ ذلك في أمرين. 

الأول مشروعها الفني، فقد كانت مع التجديد وليس التحديث. وهذه الحيرة أدت لبناء شخصيات مترددة، مثل مارتن بطل "رأس مقطوع"، المحتار بين زوجته وخليلته. الأولى تمثل الذاكرة والماضي، والثانية هي الحاضر. ولم يكن جاهزا، كما قال، لينسلخ عن أحد الطرفين. وربما هذه فلتة لسان من الوعي الباطن لحالة الاغتراب التي تمر بها الأمة، أو أنه تعبير موضوعي عن أزمة وجودية تمنعه من رؤية مكانه الحقيقي في هذا العالم كما قال حرفيا. ص 225. 

وتعتقد آن إنرايت أن هذا الوضع المحير مشكلة مألوفة وشائعة بين الأيرلنديين، وتسميها في روايتها "طائر النمنمة، يا طائر النمنمة" باسم 'الزمن الأيرلندي' - وهو من الثوابت الروحية التي يعجز التاريخ وتطور الحضارة عن إلغائه أو على الأقل الحد منه. ولهذا السبب تفاقمت الأزمة الوطنية في أيرلندا، على حساب الصراع الطبقي. ولم تتورط مردوك في أي جدل لا حول شكل الدولة ولا مفهوم الأمة، ولكنها بشكل غير مباشر، اهتمت بثنائية الثابت والمتحول، فحافظت على شكل الرواية، وبنفس الوقت ألقت شخصياتها في وسط غامض وغير محدد، يشبه حقل الألغام. ومع أن الأحداث محسوبة ومتوقعة، لا تخلو من مفاجأة ليست بالحسبان (وهو أحد قوانين الواقعية الجديدة - التي ينتمي لها من بين العرب نجيب محفوظ في سلسلة أعمال تصدرت رواياته في الخمسينات والستينات).

ويصح في هذا السياق كلام كريستيان مورارو Christian Moraru* الذي رأى أن مردوك احتفظت بشخصياتها وراء حاجز شفاف يسمح لهم برؤية المستقبل دون الحاضر (وعلى الأغلب أنه يشير بكلامه لبطل رواية "حلم برونو" المقعد والعاجز). وهي برأيي إعادة إنتاج لرواية بيكيت "مالون يموت". وبقليل من التساهل هي تنظيف وغسيل لذهن مالون، مع تطهيره قليلا من أنانياته. ومع أن برونو إنسان منفصل لا ينتمي لأحد، هو أيضا خارج ذاته، مشغول دائما بمجموعة نفيسة من العناكب النادرة. وربما هذه إشارة لتخبطه في شبكة من علاقات الاستغلال وانتهاز الفرص. ولكن في النهاية يحرك حدود رواية بيكيت، ويبتعد بها ما أمكن عن القضية المركزية. وفي كل الأحوال تنظر مردوك إلى الأحداث من الخارج (في "وحيد القرن" ترى كل شيء بعيون مدبرة المنزل)، أو تبدل بين الأولويات، وتجعل الهوامش مكان المركز (كأن تهتم بشخص ثانوي وغير مؤثر - حال "الفتاة الإيطالية"). 

الأمر الثاني له علاقة بالانتماء، فشخصياتها أنغلو أيرلندية مثلها. حتى أن أحداث "رأس مقطوع" تدور بين عاصمة الثقافة الإنكليزية كامبريدج وعاصمة السياسة الإنكليزية لندن. بعكس بقية أبناء جيلها، سواء من تكلم عن الهند (من بين الهنود والإنكليز) أو من تكلم عن إسكتلندا. والحقيقة أن الرواية الهندية (التي كتبها هنود أو بريطانيون) تميل جدا لإدارة مصير الأفراد من خلال التحكم بمسرح الأحداث. بمعنى أن أخلاق المكان هي التي تملي على الشخصيات الاتجاه والمصير. وتأخذ الجغرافيا دور قدر مضلل يقود وعي هذه الشخصيات باتجاه استشراقي إمبريالي (كبلنغ) أو استشراقي مضاد وتحرري (حنيف قريشي). خلافا لشخصيات مردوك التي تظهر داخل فقاعة تاريخية، وكأنها لم تسمع بدبلن أو شينفين، فهي تنظر لمشكلة الحرية بصورة شرط وجودي عام. وتضع ذاكرتها في نقطة عمياء لا ترى منها حروب الاستقلال (أو أزمات لندن ديري). وتموه على الهم السياسي بهموم وجودية - مثل الخيانة والشك والإحساس المزمن بالغربة وهكذا.

ويبدو أن مردوك تراهن على الثوابت فوق أرض متحركة، مع تبدل في الشكليات (فرواية "وحيد القرن" تعيد بناء مشاهد من ريف الإمبراطورية التي دالت دولتها كما فعلت الأخوات برونتي. ومن عجائب الصدف أنها تنتهي بحريق يلتهم كل شيء على طريقة "جين إير"، مع ذلك ينتصر الحب - وهو منحة إمبريالية أيضا تكسبها العائلة من الدم النقي في "جين إير" ومن وعي الطبقة المتوسطة الوصولية في "وحيد القرن"). وأعتقد أنه مشروع يقصد منه إجراء مصالحة وطنية - بشكل بناء جسور بين الجيوب والكانتونات التي تغرق بعزلتها. وأفضل من يمثل ذلك رواية "الجرس"، وفيها يتساوى الجميع بارتكاب المعاصي، ويزداد التناقض بتصعيد الأخطاء لمستوى مشاكل روحية مؤجلة. وبالنتيجة نشاهد مجتمعا دينيا معلقا أو راكدا.

ويمكن أن نفهم من ذلك أن مردوك يائسة من المجتمع الديني المتآكل، وأنها مع اقتصاد الأسر الصغيرة، وضد مجتمع النواة الذي ينمو في الضواحي ويجذب إليه أفراد العائلة الموزعين في الشتات - وهو رمز غير مباشر لنهاية الخيال الاستعماري بشكله البري - وأقصد بذلك الجحافل الذكورية في الشرق وصالونات ذوات الخدور في الغرب، فالمدينة معدة تهضم كل شيء تقريبا، والريف غطاء يخفي وراءه الأخطاء والعقول البليدة. ولا بد هنا من الانتباه للعلاقة المعكوسة بين الهوامش والمركز. وتخطيط المدينة الإنكليزية الضخمة يتدرج بالأهمية من وسطها التجاري - فضاء عام، إلى الأحياء الداخلية - التجمع السكني، لينتهي بالضواحي والمزارع - مركز القرار الاجتماعي والاقتصادي. ولكنها احتفظت بأنفاق اجتماعية باردة على سطح الأرض لتضمن تقريب المسافة بين الطرفين. بمعنى أن التناقضات لا تنفجر على نحو شامل، ولكنها تقود لتناحر محدود بين الأفراد. كما فعل قبلها ديكنز الإصلاحي والأخوات برونتي في سلسلة أعمال تعكس الرغبة بالتوسع والسيطرة. 

آيريس مردوك

وهكذا كان إيمانها بالأمة بطبيعته إيمانا مسيحيا، مثل لاهوت وطني، حتى أنها لم تغادر فضاءها الأنغلو أيرلندي - ولم تسافر إلى أميركا وراء قوافل سبقتها بالهجرة ونقل التجربة المحلية. ولا أتذكر أي إشارة تستحق الذكر عن مطار أو منفذ حدودي آخر (وهي نقطة انفصال وارتباط شديدة الأهمية لدى كل الكتاب الوطنيين، ولاسيما الجيل الأول والثاني من أدباء إسكتلندا). ناهيك عن تجاهلها التام للاستشراق الروحي والوجداني - مع أنه كان هدفا للرواية الإنكليزية بعد عام 1950. ولكن هذا لا يعني أن لديها تصورا واضحا عن مفهوم الأمة.

وتبدو لي القضية معقدة تماما في عموم أوروبا، وبالأخص بعد صعود مؤسسات السوق وتشكل الكارتلات لتحل محل القلعة - المدينة. وعلى ما يظهر فتحت الرأسمالية المدينة الحصينة - بلد الشعب الواحد ووضعت بمكانها الميتروبول - وهو عدة دول وأمم فوق جغرافيا واحدة. ولم يكن هناك شيء يوحّد هذه الثقافات والحدود والأعراق المهاجرة غير الاقتصاد أو السوق. ويمكنك أن تتصور أن المانيفاكتورة كانت هي مكان الإقامة، وأحيانا الوطن البديل. وبرأيي نشأت من هذه المفارقة فكرة الوجه الطيب بالظاهر والقناع الشرير بالحقيقة (وأشير لرواية وايلد "صورة دوريان غراي"). وقد تكررت كثيرا في إسكتلندا على يد لويس روبرت ستيفنسون في "دكتور جيكل ومستر هايد". ثم في إنكلترا على يد ماري شيللي في "فرانكشتاين". وكلها أعمال تلح على فكرة الهوية السائلة وتبادل الأدوار بين الأصل والمطبوع من جهة والوجه والقناع من جهة. وهذا هو مغزى رواية مردوك "راهبات وجنود". وفيها تعبر بطريقة كيفية عن مشاكل كمية. وبشكل أساسي تنتمي مردوك لجيل ما قبل 2001، أو جيل الأسرة العميقة. وقد تخلت الأجيال الشابة عن هذا الصداع، وهدمت الجدار الذي يعزل البيت عن الشارع (وأشير هنا بشكل خاص إلى سالي روني - حتى أن روايتها "أناس طبيعيون" تشبه إعادة كتابة لـ"رأس مقطوع" بعد تقريب المسافة بين المذكر والمؤنث، وبعد تصغير أعمار الشخصيات. فهم شباب يروضون حاضرهم، وليسوا من الكبار المختلفين مع ماضيهم - بالمعنى السارتري للماضي).

وإذا كان لا بد من التصنيف تقف مردوك بين الجيل الضائع الأول - بنظرته الملحمية لكل شيء ومنها علاقة الإنسان بجسده، والجيل الضائع الثاني الذي يتساوى عنده المطبخ مع غرفة النوم ومسرح السياسة الدولية. ولذلك تبدو وكأنها كاتبة تهتم بالأخلاق قبل الغرائز والسلوك. ولا أعتقد أن لكل فئة صوتها الخاص، ولكنها تلتزم بشروط وحدود حقلها. أما الأصوات فهي ظاهرة متنقلة، ورسالة كل فئة تتكرر في كل حقل. ويبقى المعيار هو مواقف ونهايات هذه الأصوات. وهي دموية وشرسة في أعمال مردوك ورموز الجيل الأول، ولكنها مترددة وحائرة ويغلب عليها الارتباك، بمعنى أنها نصف مقيدة، رغم ليبراليتها الظاهرة، في رموز الجيل الثاني. وعليه لا يمكن أن تتوقع تطورات راديكالية وحاسمة. وبلغة أوضح النهايات تبقى مفتوحة. ولا تواجه الشخصيات مصيرها المحتوم كالموت والحرق ثم الدفن - كما في "رأس مقطوع" لمردوك و"لم الشمل" (The Gathering) لإينرايت، و"أرض ملحدة" لأوبراين، وهكذا. وبتقديري هذه الحبكة القروسطية - التي تساوي بين مهد الأم وجدار الموت طريقة من طرق العصيان المدني، فهو كناية عن إضراب أو تعطيل سلمي. ولكنه علني وسافر في أعمال قوميات مجاورة (مثل ويلز - فالشخصيات غالبا ما تقطن في أبنية عابرة لنظام الحياة. وبالتحديد أمكنة انتقلت من عصر الإقطاع الزراعي لدورة الإقطاع التجاري. وبالعادة تعربد فيها أرواح متمردة لا تلتزم بالتقاليد). وأود الإشارة هنا لعدة حقائق.

أولا سرديات "لم الشمل" هي واحدة من تفريعات الرواية العائلية أو بيت الأب. ويحدد البنية اتجاه الشخصيات. إن كانت مستقلة (كما في تقنية الأصوات) يوجد ترابط عضوي بين عمر الشخصية والمكان (و"الطريق الأخضر" لآن إنرايت مثال على ذلك. وفيها يستغرق دان عدة سنوات بينما تأخذ هانا عدة ساعات). وإن كانت تحت وصاية الراوي يحتل المساحة التجربة النفسية ووعي الشخصيات للبيئة (فهو زمن ديني في "الجرس" لمردوك ومعاني الشخصيات لامتناهية. مقابل أمكنة اقتصادية وطبقية في "رأس مقطوع").

وتسمي إليزابيث ويتوم Elizabeth Whittome هذا النوع باسم "أدب القطارات"** - وهو اصطلاح مجازي يشير لمجموعة من الظروف الموضوعية وأهمها وجود تجمع بشري محدود. في مكان ضيق ومتحرك. ويمر بعدة محطات وينتهي بمأساة أو كارثة (ومن الأمثلة النموذجية "وحيد القرن" لمردوك أيضا، فهي تبدأ من محطة قطار، وتنتهي بمحطة قطار). وتوجد أمثلة كثيرة على أدب العلب المتحركة. غير القطار أذكر السيارة (ومنها "المونسنيور كيشوت" لغراهام غرين، وهي لم شمل أصدقاء أو أسرة مجازية وبغاية تقريب وجهات النظر. ثم "في بلاد حرة" لنيبول ويتخللها السفر بالباخرة والسيارة، ولذلك يهبط موضوعها من رصد نماذج إلى متابعة أطوار ومجتمعات. ويغلب سيناريو الهبوط على هذا العمل وبالأخص أن الشخصيات تسافر من الشمال إلى الجنوب. وتفرض على مشاهداتها حركة معكوسة من التحضر والاستجمام - أو أكل الثمرة المحرمة إلى النزاع التنافسي بين الأخوة الأعداء وحمام الدم - بإشارة واضحة لعقوبة التنزيل واكتشاف الوعي الباطن، وهو حال رواية "نجم يدعى هنري" لرودي دويل).

ثانيا. يلعب فيها الموت دور علامة فارقة، فهو يبتر الحاضر عن الماضي ويحاول اتباع سياسة تصفير المشاكل. ولكنه في أدبنا العربي يضخم الفروقات (انظر رواية: "لما تحطمت الجرة" لسعد محمد رحيم). ومع أنها عمل ناقص، وظهرت للنور بعد وفاته، تقدم صورة نصف غربية عن عالم ثالث متحول، يأمل بالتحديث، بواسطة المحاكاة، أو لمزيد من الإنصاف عن طريق نقل وزراعة أفكار غربية في تدتراب عربي. حتى أن الشخصيات تبدو غريبة عن شرط المكان وروحه، وأقرب ما تكون إلى ديكور غريب. ولذلك تتدحرج كرة الموت، ويتحول من غياب طبيعي، إلى تغييب قسري، بالقطيعة مع الجذور "أب أو أخ كبير" وبالحذف والإلغاء "انتحار أو أزمة قلبية لأفراد من الجيل التالي". وتجد عدة أصداء لهذا الأسلوب المضطرب في قصة قديمة لسلمان رشدي وهي "شعرة النبي". وهي تفسير لحقيقة الموت الشرقي، فهو صدفة لا تؤثر بالبنية ولا القانون الحاكم. 

ثالثا وأخيرا للموت فضاء خاص. ولكنه مقسم إلى منازل. ولا يوجد شيء يربط ويعزل هذه الحقول مثل الغيبيات، فهي إما إنكارية ومفكر بها أو أنها جزء من الوعي الباطن. حتى أن مفهوم الأمة يكون مضللا إن لم تربطه بجيل معين أو فترة محددة. وغالبا ما يعبر عن فضاء مشترك وليس عن حدود لجغرافيا ثابتة. ولذلك تدل كلمة أمة في أعمال مردوك على عدة مفهومات. في "الجرس" تشير للمجتمع الديني، لكنها تدل في "رأس مقطوع" على معنى الهوية أو المواطنة فقط. بمعنى الانتماء لفكرة المدينة، وليس لمدينة أو ميتروبول محدد. ويذكرنا هذا المفهوم بأزمة اشتراكيات العالم الثالث. فقد حولت الإقطاع الزراعي إلى إقطاع صناعي، واستبدلت ملكية الأرض بملكية العقارات والمصانع، دون أن تمس جوهر أساليب الإنتاج والحياة. ولم تنتبه أنها زرعت لغما موقوتا، يمكن أن ينفجر في أي لحظة (مثل موضوع رواية "الجرس"، فهي مزيج من الروكوكو وثقافة المكابر أو القبور). وتأتي في هذا السياق رواية "المداعبة" Tipping the Velvet لسارة ووترز. وفيها يتم تحويل المدينة القوية إلى خاصرة طرية تحتلها الطريدات والضحايا بنفس الطريقة. مع ذلك كانت السلطة آخر شيء يهم مردوك حتى أنها كتبت عن دبلن من لندن، وعن مشاكل البناء، وليس حروب الاستقلال. 

*Murdoch after Postmodernism: Metafiction, Truth, and the Aesthetic of Presence in The Black Prince.


**Re-reading early Murdoch: The Unicorn.Iris Murdoch Society blog.