الرؤية الفطرية التجريدية في أعمال سعيد العدوي

الفنان المصري واصل واجتهد بشكل ملحوظ في إنتاجه الفني الغزير على المساحة الزمنية القصيرة التي عاشها من عمره الفني قبل وفاته في سن مبكرة.
سنوات الإبداع الحقيقية في حياة الفنان تقدر بحوالي عشر سنوات
أعمال الفنان ذهبت إلى مرحلة لم يبلغها فنان آخر من ناحية الغزارة العددية
العدوي اتخذ اتجاها مباشرا نحو التجريب، مستخدما طابعا ذاتيا صامتا

ولد الفنان سعيد العدوي عام 1938 بحي بحري بالإسكندرية، ورحل عام 1973. سنوات الإبداع الحقيقة في حياة الفنان تقدر بحوالي عشر سنوات، وكانت السنوات الثلاث الأخيرة منها سنوات تمثلت فيها الرمزية إلى الحد الذي دفعه لأن يتوحد معها .
ذهبت أعمال الفنان إلى مرحلة لم يبلغها فنان آخر من الناحية الغزارة العددية، متخذا اتجاها مباشرا نحو التجريب، مستخدما طابعا ذاتيا صامتا، حيث واصل واجتهد بشكل ملحوظ في إنتاجه الفني الغزير على المساحة الزمنية القصيرة التي عاشها من عمره الفني قبل وفاته في سن مبكرة ليفاجئنا بأعمال غزيرة وكثيرة ليساوى كل منها فترات زمنية طويله تحتاج عمرا بأكمله. 
كان الفنان يخشى على عناصره من خطر التحلل والنسيان أو التحور، فسعى وبإلحاح لعزف أنشودة الخلود الفنية مما دفعه إلى منح هيئه أعمالة الفنية البطولية، ولكن نوعا فريدا من البطولة هو الذي أعطى لعناصره صفة البقاء المؤثر والإبهار بجانب خشيته على عناصره من الإندثار وطمس الهوية والزوال مما دفعه إلى إنتقاء موتيفاته وأعماله بمنتهى الحرص والموضوعية ويعتبر أحد مؤسسي جماعة التجريبيين، ورائد مهم من روادها ومن فنانيها القلائل تمكنا وسيطرة على الخامه والأدوات وبزوغ الفكرة وتأثيرها بشكل مباشر في نفس المتلقي متخذا أحيانا الطابع الفطري التلقائي. 

كان أحد خريجي الدفعة الأولى من كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عند إنشائها عام 1957 محاولا بناء شخصيته الفنية بلغة شديدة الخصوصية والتفرد والإقتدار، وقد اعتمد الفنان على قدرته الإبتكارية الفريدة في إختزال العناصر والموتيفات الحية أو المادية على حد سواء ومدى قدرته الخاصة في إختزلها بداخله، وإعادة صياغتها بصورة مبدعة وظهورها للنور على مسطح أعماله متخذا طرقا ومعالجات تشكيلية متنوعة ومتعددة، تعكس هويته ووجهات نظرة ورؤاه، معتمدا على التحوير والتحول والإختزال متخذا الرمزية أحيانا للوصول إلى وضع الحلول التشكيلية لصياغه أعماله، وإيجاد صياغة جديدة غير مسبوقة لعناصره التي تنطلق في الأساس من بيئته وطبيعة شخصيته، والتي كانت دائما ترى الموت قريبًا وأن الحياة ربما تنتهى في لحظة. 
وهذا ما سعى العدوي لتجسيده من خلال لوحته المسماة "المقابر" التي رسمها عام 1971 مما جعله ينحِّي العناصر والتفاصيل المباشرة بعيداً عن رسوم لوحاته الملونة، مستخدما معالجات لونية خاصة ذات طبيعة شفافة، متخذا من الألوان طاقتها، موظفا إياها داخل أعماله بحكمة واقتدار شديدين، إلى جانب مشاعره وأحاسيسه الروحية التي توثر بشكل واضح فى أعماله حيث يلاحظ المتلقي لأعماله أن لوحاته المحفورة والمطبوعة تجسد وتعكس أيضا تألقه في وضع طبقات اللون الشفاف الناطق بجمال المعنى الداخلي لمنظومته الحسية والمجسدة من خلال أعمال فنية تتسم بإتساع وعمق الفكرة وبتفرد وعظمة فنان استطاع السيطرة على تقنيات الطباعة، متخذا أسلوبا خاصا كما في لوحة "المسجد" التي رسمها عام 1970 وهو ما يميزه عن غيره، ويجعله صاحب بصمة خاصة في أعمال تجتذب المتلقي وتدفعه لتأمل أعمالة ورؤيتها من منظور فلسفي. يرى الفنان أنه رسالة موجهة للمتلقي، وقد استطاع بقدراته الإبداعية أن يحول الخط والمساحة والفراغ من خلال الأبيض والأسود إلى عمل فني قائم بذاته متجاوزا الحدود المتعارف عليها، فالخط ومساحات الأسود المهشرة والتي تصدمنا بصرياً مع الأبيض مباشرة إلى الأسود وتقاطعاتها المتوالية في الشكل أدت إلى إيجاد إيقاع موسيقي حاد يوكد على رؤية وشخصية بالغه الخصوصية والتعمق وتعكس ارتباط  الفنان بعالم الموت، فكانت الأضرحة والجنازات تشغل مساحة واسعة في تفكيره ورسومه، وازدادت حدة ذلك عندما رحل والده، وأصبح هو العائل الوحيد للأسرة على المستويين المادي والمعنوي، فالموت أصبح موضوعا راسخا في داخله، مما أضفى عليه زهدا شديد العمق والتأمل، تسبب في أن يشق لنفسه أسلوبا متميزا وفريدا إختص به الفنان.

fine arts

تأثير البيئة على الفنان 
هناك تساؤل يطرح نفسة وبإلحاح.. هل أثرت البيئه السكندرية بمفرداتها المتنوعة من شواطئ وبحر، وشخوص صياديها وحركاتهم في تلك الأزقة والأحياء، لتظهر بهذا الزخم المنصب داخل أعماله والمغلف بالحس الشعبي وبحر الاسكندرية وقوارب الصيد؟ وهل أثرت الإسكندرية كمكان عاش فيه الفنان واستلهم منه وأخذ وأضاف إليه؟ 
هذا ما تجيب عنه لوحاته عندما تطالعها تشعر بأنك أمام فنان اإستثنائي تأثر وأثر، أنتج وأبدع، كان إنعكاسا حقيقيا لمجتمعه وبقوة. أكد أن هذا حدث موت عبدالناصر الذي رسم الفنان جنازته في واحدة من أروع رسومه وخلدها بأسلوبه في ترتيب موتيفاته من خلال لوحته المسماة "جنازة عبدالناصر" المرسومة عام 1971 والتي ظهرت فيها حالة الحزن العارم الذي إنتاب جميع أطياف الشعب المصري وصياغة كائناته الباكية إلى جانب تأكيده على أهمية رسم العين وما تمثلة من حزن شديد وبالغ ليبني تكوينا بؤريا متماسكا، حيث نلاحظ تعددية رسم العين لدى الفنان من خلال لوحة عين حورس محاطة بالنعش وشواهد القبور تحتضن المتوفي المفقود، تودع الراحل الجميل. 
ونرى الفنان وهو يوظف العين في بعض أعماله الفنية بأسلوب من المبالغة كصياغه تعبر عن أهمية الشخص، كما جسد حاله الفراق والوداع بلغه تشكيلية مؤثره للغاية مما نتج عنه ظهور مفردات اللغة البصرية التي ابتكرها الفنان مستخدما الرموز الأسطورية الشعبية كما في لوحة الحرب والحاوى التي رسمهما عام 1970محورا الفنان كل صياغاتة بشكل فلسفي فطري بديع تذوب فيه كل الحضارات المستلهمة لدى الفنان سواء كانت موتيفات شعبية أو بدائية أو تراثية جسدها الفنان بأسلوب فلسفي أسطوري بديع خاص بالفنان.
كان الفنان سعيد العدوي من طليعة الفنانين العرب الذين عالجوا الموررث في إبداعهم الفني حيث كشف عما في هذا الفن من طاقة تعبيرية وانفعالية وعناصر ورموز وقيم فكرية. ويعد العدوي من طليعة فنانينا المستلهمين للتراث في إبداعاتهم التشكيلية، المستخدمين له إستخداماً عصرياً واعياً، ليس بمجرد النقل والتقليد بل بالتطوير والإضافة، وذلك سواء من ناحية المفردات والصياغات أو من ناحية التقنية، وقد توصل من معالجته لأشكاله التراثية إلي تخليق أشكال جديدة تختلط لتولد عالما فريدا.
يعد أسلوب الفنان تجريدا رمزياً، حيث يغلب عليه الطابع التجريدي، وقد كشف عما في أعماله عن طاقة تجريدية وإنفعالية هائلة، بالإضافة إلى عمق تأثيرها في نفسية المشاهد الذي ينظر إليها متعاطفاً ومتأثرا وأحيانا منحازا لها، تميزت الصياغات التصميمية للعنصر الآدمي عند الفنان بأخذها اتجاهاً فكرياً فلسفياً في صياغاته الرمزية لهذه العناصر بجانب مخالفتها للواقع المرئي حيث لجأت المعالجات التشكيلية للعنصر الآدمي معبرة عن الحركة الحيوية في صياغاتها لتأتي ثرية بالمساحات والخطوط المدروسة، والحركة في أجزاء اللوحة بشكل إيقاعي منتظم في بعض الأحيان وغير منتظم في البعض الآخـر، وهو ما يظهر بوضوح فى لوحة "فتاة صعيدية" المرسومه عام 1969، صياغات الفنان تجسد الحيوية والجاذبية والغموض، حيث تميزت المعالجات التشكيلية للعناصر بالمبالغة والتجريد، كما ميز صياغاته الفنية أسلوب التسطيح حيث اعتمد على درجات داكنة من لون واحد، كما تتطرق إلى التأكيد على التفاصيل الداخلية للعنصر، وتميزت العناصر الآدمية في صياغاته بشكل الرأس المستطيل أحيانا والشكل الهندسي وشبه الهندسي والعيون الواسعة وتحويل تفاصيل الجسم إلى خطوط وعناصر هندسية.

كما أن الفنان اهتم بخط الأرض، بل اعتمد على فطرة التوزيع المنتظم لصياغاته داخل العمل، والتكرار الذي أكد على الحركة الراقصة في الجو السحري الذي يعبر عنه حيث تمثل العلاقات المتبادلة بين الصياغات التصميمية في بعض الأحيان علاقة تماس أو تكرار أو تراكب أو تداخل، يعبر بها الفنان عن التجمعات المختلفة للعناصر الآدمية في أعماله،  كما تميزت الصياغات التصميمية لعنصر الحيوان مثل السمكة، الطائر، الحيوانات الخرافية، حيث قام الفنان برسمها بخيال أسطوري رمزي تجريدي محمل بالطابع الفطري، وعلي خلفيات من أشكال متنوعه مستعيناً بالتسطيح والتزيين لإبراز هذه الصياغات بشكل مستحدث من قبل الفنان وقام الفنان بالاستعانة بأسلوب التبسيط والإختزال الموجز لهيئة الطائر بشكل مبسط حيث تتحدد جميع الصياغات بشكل مترابط، كذلك حرص الفنان على إظهار تفاصيل الصياغات بشكل خطي يتخذ طابعا مترابطا على أرضية العمل باتجاه واضح ليؤكد على رسوخ بقية مفردات العمل بأكمله.