الرواية العراقية بعد عام 2003: أفكار وملاحظات
يبني مروان ياسين الدليمي قراءته لواقع وتطور السرد الطويل في العراق في كتابه “علامات سردية” على المشهد السياسي وخطابه، ويربط بين التحولات الحاسمة وغزارة وتنوع فن الرواية ابتداء من عام 1990، وهو تاريخ نهاية حرب الخليج الأولى وبداية الثانية التي دشنها صدام بغزو الكويت.
وتبع هذه الموجة انفجار عام 2003 بعد السقوط. وكلمة انفجار تعني للدليمي شيئين: زيادة عدد الروايات وتعدد أشكال التعبير الفني، واتباع كل الأساليب الممكنة التي قطعت مع التراث واللغة الكلاسيكية القديمة. ولا ينسى الدليمي أن يعزو ذلك لتراجع سلطة الرقيب وتحرير اللسان والعقل العربي من التابو وبقية المكبوتات. وأضيف وجود علاقة معقدة بين تجزؤ المجتمع العراقي وتحرير شعوره الباطن. فالخوف ليس حجة كافية وبالأخص أن العديد من أصحاب الأصوات المسموعة كانوا يعيشون بمأمن من السلطات في الأميركيتين وفي شرق وغرب أوروبا. هذا غير عدد آخر مزدوج الجنسية ولديه منافذ تضمن له القدر الأدنى من الأمان والحرية (أذكر على سبيل المثال غائب طعمة وجبرا وعبدالرحمن منيف.. إلخ).
ولذلك أعتقد أن التحرر من الخجل والإحراج الناجم عن طرح موضوعات تدخل في العيب الأخلاقي (مثل المشاكل الطائفية والعرقية التي تجرح الشعور الوطني) هو الذي فتح الباب لعدة مسارات ومحاور لم يكن يفكر بها أحد. وتجاوز آليات السرد التقليدية التي أشار إليها الدليمي (بعد عام 2003) هي بالحقيقة المعادل الموضوعي لتجاوز الحدود القديمة التي رعاها النظام منذ عام 1967 وحتى يوم سقوطه. وهي حدود تخدم مصالح شعوب وإمبراطوريات الشمال، ناهيك عن خدمتها لاحقا لمنطق الحرب الباردة. وإذا تكفل نظام صدام بإسكات نصف الحقيقة تكفل النظام العالمي في دول اللجوء بإسكات نصف الحقيقة الآخر.
وبالنتيجة وجدنا أنفسنا أمام روايات تعبر عن إملاءات أكثر مما تعبر عن واقع حر ومستقل. وهو ما يسميه الدليمي بنفسه “تعويم مرويات متداولة”. بمعنى أنها حقائق مصنعة، ولم يكن من الوارد التشكيك بها إلا بعد ظهور خزان من المصطلحات العارية: مثل المكون السني والرابطة الشيعية والعرق الكردي. هذا غير مئات الأفكار التي تنم عن قلق إيديولوجي لتاريخ نائم يمكن أن يحول بلدا واحدا مثل العراق إلى عشرات البلدان ذات المرجعيات الافتراضية والأحفورية، بتعبير آخر بدأت الأعماق تتكلم بلسانها. وأصبح من الشائع أن نقرأ الكثير من المفردات والتعابير الآشورية والكردية في عمل عربي. ومن الطبيعي أن تتبع النصوص هذا الواقع الجيو سياسي. فقد أنتج كل مكون صوته الخاص، ولكن هذا لا يمنع وجود طيف واسع داخل المكونات. بمعنى أن الاختلافات كانت بينية أيضا، ومهما بلغت درجة التشابه بسبب الواقع الموضوعي للمنطقة لم تنج استراتيجيات السرد من فروقات. وحتى لو أن الدليمي لم يضع مخططا لتصنيفها لكنه ناقش هذه التقسيمات ضمنا، ونستطيع أن نجملها في فئتين: حسب الموضوع وحسب الأسلوب.
وقد توزع الموضوع على خمس فئات: رواية المنفى، والحرب، والمدينة النوستالجية، والفانتازيا. بالإضافة للرواية التاريخية. وبالمقابل توزعت الأساليب على أربع اتجاهات رئيسية هي: ما بعد الحداثة، السرد الطبيعي، الشكل التجريبي، ورواية الوسائط المتعددة.
ويلاحظ على مجمل هذه الأنواع خمس ملاحظات:
الأولى أن الأحداث توزعت بين عدة مدن معروفة سواء في الداخل والخارج، مع التركيز على بغداد وكأنه يوجد اتفاق ضمني على الحكمة المعروفة: أن كل الدروب تقود إلى روما (وبهذا السياق إلى بغداد). وسبق للناقد حمزة عليوي أن انتبه لمشكلة اختزال مكان الأحداث عند العراقيين ببغداد كما لو أنه لم يعد في العراق غيرها.
الثانية أن كل الأساليب ابتعدت قدر الإمكان عن الرواية الخطية أو رواية النهر، وفتحت الباب على وسعه للتجريب ولاستعمال كافة الوسائط (ما نسميه الوسائط المتعددة - كالصوت والصورة والرسالة والإنترنت وغيرها). ولا أخفي على أحد أنني لا أنظر لهذا التطور على أنه تحديث ولكنه أقرب للتأخير أو العودة. ويشبه عندي رواية العائد وليس رواية اللاجئ. والفرق كبير بين الشكلين، ولا سيما من زاوية الخزان اللغوي والمشاهدات. فالوسائط المتعددة هي قتل أوديبي للرواية الأرستقراطية - التي تهتم بالحبكة والبيت الواسع - أو القصر - والعائلة. كما أنها أيضا إحياء لبواكير هذا الفن حينما كان يتبنى شكل المفكرات والرسائل. وهذا التحول من شجرة الطبقات إلى شبكة المجتمع المفتوح رافقه تبدل ألسني جعل اللغة أبعد ما تكون عن القواميس وأقرب إلى لغة الشارع وبيئة الطبقة المتوسطة.
الثالثة لم توفر أي رواية موضوع حروب الخليج والغزو الأمريكي الذي حول العراق من بلد فساد واستبداد إلى بلد فوضى وانفلات أمني. وقد أحصى الدليمي أكثر من أربع تعيينات لوصف الحل الأمريكي العسكري (مثل الغزو. الاحتلال. السقوط. الاستعمار)، ولم يلاحظ ورود كلمة التحرير ولو لمرة واحدة، وهو ما يدل على معارضة المثقف العراقي - ومن خلفه كتلة جماهيرية واسعة وعميقة - لهذا الحل الخارجي.
الرابعة العلاقة العضوية بين الشكل والمضمون رغم تفاوت الأساليب وتداخل الأشكال والمضامين لدرجة يصعب معها تصنيف وفرز الأعمال بطريقة صارمة. فالمدارس والاتجاهات تخترق كل النماذج، وتنشط كل أنواع التعطيل الناجمة عن التورط بثنائيات، كل طرف منها يلغي الآخر. ولكن الظاهرة الأكثر إلحاحا هي انتماء معظم النماذج لاتجاه تحرري ونضالي يهجو الاستعمار الحديث بكافة أشكاله دون أي استثناء، وبنفس الوقت يتبنى أشكالا طليعية خرجت من معطف أدباء الغرب الاستعماري نفسه. ويلاحظ بهذا الصدد تراجع واندحار المدارس السوفييتية - ومن ضمنها موجات اكتسحت دول حلف وارسو - مثل التغريب في السرد، النهاية الإيجابية، مقاومة شرور الطبيعة، الحد من ألوان الاستغلال في السوق وسوى ذلك.
ولكن هذا ليس دليلا على سحب البساط من تحت أقدام اليساريين أو حرق جذور الفكر اليساري. ورغم الشك والتنديد بنوايا اليسار الجديد تجد أنه تسلل إلى الرواية العربية، بشكل عام، والعراقية بشكل خاص، ليعمل على جبهتين: الأولى مؤازرة النخبة المثقفة بمقاومتها لأشكال الاستبداد، والثانية فتح آفاق جديدة نحو مستقبل يخلو من الفقر والشقاء. وهو ما يقول عنه الدليمي أنه محاولة أتت في إطار مغامرة فنية محضة للخروج من أسر المجتمع الاستهلاكي - وأضيف لمنع تسليع الثقافة والفكر والدين والمرأة.
وأعتقد أن الرواية العربية، بدمج المدارس والأساليب، أضافت شيئا يستحق الاهتمام، ومن ذلك رواية الكولاج (نزار عبد الستار) وأسلوب التعطيل الإيجابي (سنان أنطون) ورواية الاحتمالات (أو رواية ماذا لو - ضياء الخالدي) ورواية حماية البيئة والأقليات أو حضارة الشعوب النائمة (بولص آدم) ورواية المونتاج (أحمد السعداوي). وتقاسمت أعباء النهوض بهذا الهدف السامي والنبيل مشاهدة الواقع وسرد الخيال. بمعنى أنه تآزرت الملاحظة البسيطة مع اختبار واكشاف البقع الرمادية في هذا الواقع. وكما يقول الدليمي رغم أن المنطقة الفنية هي نتاج تأرجح بين ما هو زمني وما هو تاريخي أو واقعي وخيالي، كانت الغلبة لجهة الواقع الحار والملتهب والذي مهد الطريق لنقلة نوعية في كل المجالات، إلا في حال الأعمال التاريخية فالغلبة تكون للتخييل - وبتعبير الدليمي - يكون الانزياح ناحية منطقة التخييل، وهذا يعني - كما يضيف مباشرة - هيمنة الأسلوب بما فيه منطقة تتجاوز المحددات الموضوعية التي تهم المؤرخ.
الخامسة والأخيرة، تعدد سطوح الرواية الحربية، وقد كانت قبل عام 2003 أقرب إلى شكل الرواية العسكرية، بمعنى أنها موجهة لخدمة أهداف النظام. حتى أن الحرب مع إيران، والتطبيل والتزمير لحرب شاملة ضد إسرائيل، جاءت بسياق لا يختلف عن حرب الأنفال وحرب حلبجة. فهي موجهة للإبادة أو لإشغال الرأي العام ولفت الأنظار من الاستبداد إلى