"القرد الليبرالي" والسرد التناوبي

في رواية سفيان رجب تضطلع الشخصية الرئيسية بدورها المنوط إليها كقناع.
الحيوانات المسجونة صورة استعارية للإنسان الذي غادر الغابة وصنع لنفسه الأقفاص
لغة الإنسان كما نظرات القرد تحمل حزنا في لحظات التعبير عن الحب علنا ومنع تجسيده

في الروايات التي تقوم على أدب الفكرة وعرضها بواسطة الشخصية، تتداخل الشخصية الحاضرة في النص بصيغة المتكلم مع صوت المؤلف، متخفيا وراء السارد لبلورة فكرته، تاركا المجال لصوت السارد يتوخى تقنيات يطمس بها صوت المبدع.
تضطلع الشخصية الرئيسية بدورها المنوط إليها كقناع. ورغم معرفة السارد بكل ما يجول في فكر الشخصية في رواية "القرد الليبرالي" للتونسي سفيان رجب إلا أن الرواية اعتمدت على السرد التناوبي انطلاقا من قصة شخصية "عبد الله أشكون" أي بحث عن ماهية الإنسان تسرد سيرة الشخصة الروائية، مرورا إلى قصص أبدعتها الشخصية عبر عرض أحداث وشخصيات أخرى يشغلها نفس الهم الوجودي.  
وتثير رواية "القرد الليبرالي" حلم الشخصية بعودة الإنسان إلى الغاب ليستعيد "فردانيته التحتية" ويحرر لغته وفكره من قيم الواقع التي تكبت جماليات الجسد والروح في مواجهة مدينة مقرفة.
فالمدينة كما وصفها الرواي "عبدالله اشكون" تعج بالمقاهي والبارات وقاعات السينما والمسارح والمباني القديمة، وفي إحدى أطرافها تُسجن الحيوانات في أقفاص وتحرمهم من حرياتهم، وتلك الحيوانات المسجونة هي صورة استعارية للإنسان الذي غادر الغابة وصنع لنفسه الأقفاص، ولكنه بقي يخفي الجانب الغريزي وممارسة الجنس في المواخير السرية والغرف المغلقة، بينما "اللذة الجنسية أصل النشوء، إنها نداء الطبيعة للتوالد"، وبذلك فقد شبه الإنسان بقرد معزول في قفص مفصول عن أنثاه كي لا يمارس رغباته الطبيعية أمام مرأى زوار الحديقة.

العودة إلى الحيوانية ليس من خلال العيش البوهيمي بل الحلم بواقع آخر للإنسان بعيدا عن القبح وعن العنف. 

ولغة الإنسان كما نظرات القرد تحمل حزنا في لحظات التعبير عن الحب علنا ومنع تجسيده: "صمت القرد ونظرات الحزن في عينيه قصائد عن العراء، قصائد عن غابات الليل والنجوم البعيدة الباردة والقسوة واليتم وصراخ الضباع وشمس السافانا الحمراء ومخالب الضباع المطلية بدم الأبقار والغزلان".
فوضع القرد تجسيد لمأساة الإنسان وقد صنع لنفسه أسطورة إخراجه من الجنة لأنه أكل من الشجرة المحرمة، فالغاب الذي يحيل إلى الشجرة ما هو  إلا الفضاء الذي خلق فيه سعيدا قبل أن يجابه بقيم المدينة الأخلاقية، ذلك أن طرد الإنسان إثر تعريه هو الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة وقمع للتجارب الحسية في بعدها الجمالي وتعويضها بوضعيات ممجوجة محرمة لا نكهة فيها ولا عاطفة ولا رغبة في الإنجاب والتوالد، تقيد لغة الجسد ورشاقته وليونته، تقيد لغة الإبداع فـ "اللغة ليست شد حبال .. هي قراءة الغيم والشجر والحجر والكائنات والعقل هو تحليق لا يرجى منه وصول" فالحلم بعودة الإنسان إلى الغاب من أجل إعادة تشكيل اللغة.
المسخ والحلول
في تدحيض لروايات المسخ التي لها جذور دينية وأسطورية عند تحول الإنسان إلى قرد من ذلك قصة مسخ قرية يهودية نهاهم الرب عن الصيد يوم السبت فحولهم إلى قردة وخنازير ماتت بعد أيام. وفي تدحيض لأفكار الصوفية اليهودية وخاصة تلك التي تتحدث عن التماسخ والتناسخ لفعل ارتكبه الإنسان يبحث عن خلاص كي يحل في صورة إنسان من جديد. 
يرى الراوي أن الإنسان كان قردا سعيدا في الغابة يتنقل بين الأشجار ويمارس حياته بحرية، ولكنه بتطور قدراته العقلية بنى المدينة وترك حيزا سريا ليمارس رغباته ويقمعها في الواقع، ولكن عقله تحول إلى "عنكبوت ذئبية تصنع قناع فراشة"، بل ارتأى أن ما يشاع على أنه مشاعر محبة وقيم تحابب بين الناس هو مجرد تجميل لحالات المسخ. وأن المخيلة تتحرر من جديد حين يعود الإنسان إلى أصله والبحث عن الأصل الذي لم يهجر الغابة ولم يصنع الواقع المزري، والعودة إلى الحيوانية ليس من خلال العيش البوهيمي بل الحلم بواقع آخر للإنسان بعيدا عن القبح وعن العنف. 
ومن ثمة انطلق الحلم بتحرير المخيلة من المعارف المكتسبة حول المسخ واستعادة الصورة الأولى للإنسان "اغمضي عينيك وتخيلي الآن هذا المشهد. نحن الآن قردان في غابة مطيرة"."كانت ملكة خلية استعاراتي، كانت تبدأ الفكرة فأكملها بطريقة تذهلها."
ومن ثمة انطلقت مخيلة السارد لتصنع قصص الحلول في جسد قرد يذكره بماضيه من خلال تواجد الحيوانات في حديقة هي مرآة لوجوده السابق، فالقرد صورة سابقة له وليست لاحقة عن طريق المسخ الديني، والحديقة صورة للغاب. إنه يرى نفسه في المرآة بدون أقنعة زائفة وفي لحظات التعري انطلقت الأحلام كما بين عالم النفس آرثر فانكهاوسر فهي حالة وقع الإحساس بها وآثارها شيء ما وهي مكان مألوف يذكرنا بحياة سابقة".

The Tunisian novel
خلية استعاراتي

من الحلم إلى إعادة كتابة السرد 
إن السرديات التي تعيد كتابة الفكرة وتصويرها تنبثق من حالة استرجاع لذكريات قديمة حول الأصل. في مدينة لا تعرف الله تشبه بناية قديمة عاهرة، بحاناتها ومراحيضها ومخازنها الملوثة إلى غرفة في زقاق الحفصية حيث تمثل فضاء للعلاقات الجنسية والجلسات السرية: "كثيرة هي البارات التي دخلتها وقاعات السينما والمسارح .. لكن المكان الذي فجر ينابيع مخيلتي كان حديقة البلفدير. رأيتها قديسة جميلة تحب العشاق والأطفال. تملك حوضا أخضر يسبح فيه البط، وأقفاصا كثيرة ترفرف فيها الطيور نادرة وتمرح فيه دببة وسباع وغزالات وقردة".
ومن السمات التي تثيرها سلوكات الإنسان في تجسيدها لحنين قديم: الإنسان يحاكي الحيوانات وطباعها وطريقة عملها ويلبس جلودها ويتقمص طباعها وتبدو عليه ملامحها. 
الأفكار الخرافية والسير الشعبية والحكايات في القرية حول تعايش بعض الأشخاص مع الحيوانات من ذلك قصة بو الحناش وابنته التي تحمل العقارب على صدرها. 
تأثير بعض المرويات السردية العجيبة على وعيه باسترجاع أصله من ذلك قصة لإخوان الصفاء حول جزيرة تزواج فيها البشر بالقرود وأنجبوا وتوالدوا. 
"كنت أقول له إنني أكتب بمخيلة قرد يبحث عن شجرته، وكنت أنثر هبلي في قصص أبطالها قردة وتمتزج أدوارهم مع أدوار بشر".  
فكتب قصة "روح حبيبي"، "لمين التحق بسلك الشرطة"، "مربع السعادة"، لاسترجاع الأصل والطاقة الحيوية. في قصة "وطن الغوريلا" يكتشف عالم أحياء أنه يطمس دور الطبيعة في كتابة قصائدها بعفوية فيقرر صنع قارب والإلقاء بنفسه في نهر الكونغو. في قصة "قرد النيل الأزرق" القرد كئيب غريب عن عالم القردة والإنسان بعدما أرضعته امرأة أشفقت عليه عند مقتل أمه. 
هي قصص البحث عن الأصل الذي لم يهجر الغابة، العودة إلى الحيوانية ليس من خلال العيش البوهيمي بل الحلم بواقع آخر للإنسان بعيدا عن القبح وعن العنف. 
الانتقال إلى الحالة الطبيعية، ثم إلى الحالة الإبداعية عبر تأليف القصص والاندماج مع شخصية الإنسان القرد وتشكيل صورة مغايرة وهي الارتقاء إلى مرتبة الطبيعة السامية لا تلك المرتبطة بالحالة الطبيعية الفجة. أي البحث عن روح لهذا الحيوان ليست من صميم كبت الغرائز والتعبير عنها خارج الأسوار الاجتماعية بل التفكير في وضعه الحيواني المفكر، دون أن تلغي الغريزة العقل أو الحلم، دون حلم بالغرائز أو رغبات مكبوتة بل حلم بالفكر والبحث عن تجليات مختلفة للوجود.