النيل بين التاريخ والفن الأصيل

مجلة "الثقافة الجديدة" تخصص عدد أغسطس الجاري لثقافة النيل.
مصطفى حمد عبدالقادر يتأمل الطاقات الرمزية للنيل فى الرواية النوبية
حسين عبدالبصير يتحدث عن النيل وأساطير الخصوبة في مصر القديمة 

تزامنًا مع ما يجري على الأرض من مباحثات بين مصر والسودان وإثيوبيا لتحديد قواعد ملء وتشغيل "سد النهضة" الإثيوبي لحفظ الحصص المائية لدول مصب نهر النيل، خصص الباحث والشاعر المصري مسعود شومان رئيس تحرير مجلة "الثقافة الجديدة" ملف عدد أغسطس/آب 2020 لـ "ثقافة النيل بين التاريخ والفن الأصيل" وفيه نقرأ عن: "النيل وأساطير الخصوبة في مصر القديمة" لـلدكتور حسين عبدالبصير، و"خيط الحرير الأزرق فى قلب الصحراء" ليوسف فاخوري، فيما يبحر العالم الدكتور عوض الغبارى مع "بلاغة النيل وأخيلته فى التراث العربى"، ويكشف مسعود شومان عن "تجليات النيل فى شعر العامية"، ويكتب الدكتور مصطفى الضبع عن حضور النيل فى الشعر الحديث، ويتأمل مصطفى حمد عبدالقادر الطاقات الرمزية للنيل فى الرواية النوبية، ويختتم الملف بمعجم النيل مفاجأة الدكتور هشام عبدالعزيز. 
في افتتاحية العدد يقول مسعود شومان: غافل يا سيدى من يقول إنك مجرد شريان مائي يجري من بلاد المنبع إلى بلد المصب، غافل وبليد لأنه يركن للعبارات المسكوكة التي يحلو للبعض ذكرها في حصص التعبير التي يدربون فيها الأطفال، وساذج من يكرر الجملة الأثيرة لهيرودوت "مصر هبة النيل"، لأنه لم يع "الراقات"، أو الطبقات التي كوَّنت مصر. 
 ولم يستوعب الدلالات الفائضة منك، فالنيل يعد حدثًا صغيرًا إذا ما قيس بعمر مصر على حد وصف العبقري جمال حمدان، وإذا استثنينا راقاته الجيولوجية ورحلاته التاريخية، والأرض التي مهدها لنفسه، والأنهار الصغيرة التي ابتلعها ليصبح نهرًا عظيمًا، من يعرف سيدرك ما هو نهر النيل. 

رواية بلاد النوبة حققت جمالية أدبية مغايرة، فاختارت لنفسها اتجاهًا خاصًا بالبحث في أزمة الذات وتشتتها بين الانتماء إلى النيل والأرض من ناحية ومواجهة الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية من ناحية ثانية 

ومن هنا فلن نستطيع أن نغض الطرف عن الطبقات الثقافية التي كانت نتاجًا لممارسات وخبرات ظلت تتراكم حتى كوَّنت ما يمكن تسميته بكثير من الثقة "ثقافة النيل"، ونقصد بهذا المفهوم الأنثروبولوجى للثقافة، ذلك الذي يشير إلى ”كل إنجازات العقل البشري، وكل ما يصدر عن الإنسان من قول أو فعل أو فكر، وكذلك كل ما يكتسبه من عادات وتقاليد وسلوك وقيم تسود المجتمع الذي يعيش فيه"، فهل وسم النيل الثقافة بميسمه الأرض والناس، أم أن علاقة نشأت بينه وبين الناس تعمقها الخبرة بالحياة فكانت العادات والتقاليد والممارسات والفنون والعمارة وأدوات العمل بأنواعها وتصنيفاتها المتعلقة به من أدوات للصيد وأخرى للزراعة وثالثة للري ورابعة للبذر، والجمع والحصاد ... إلخ    
وفي مقاله الذي عنوانه "النيل وأساطير الخصوبة في مصر القديمة يشير الدكتور حسين عبدالبصير إلى أن الفكر الديني المصري القديم صوَّر أن روحًا تكمن وراء نهر النيل العظيم، تدفع مياه الفيضان حاملة الخصب، وهي روح الإله حعبي، كما جاء في هذا النص من أنشودة النيل: 
"تحية لك يا حعبي، اخرج من هذه الأرض واحضر لتهب مصر الحياة، إنك تخفي مجيئك في الظلمات، أنت واهب الحياة لكل ظمآن. 
عندئذ ارتفعت أصوات الأرض مهللة؛ البطون فرحة وسعيدة، والزهور تهتز من الضحك، والأسنان تمضغ". 
وتعددت المظاهر المعبرة عن الحياة في الحضارة المصرية القديمة. وكان يمثل هذه المظاهر عدد من الآلهة المصرية القديمة، التي مثلت الحياة المصرية بكل ما بها من حيوية وتفاعل وتناغم. 
لقد أدرك المصريون القدماء أهمية النيل منذ أقدم العصور، فاجتهدوا في ابتكار طرق للإفادة من مياهه وتنظيم الري وحفر الترع لزراعة أكبر مساحة ممكنة من أرض الوادي، ذلك لأن النيل كان الأساس الذي اعتمدت عليه الحياة في مصر القديمة. وكان الإله حعبي هو إله النيل عند المصريين القدماء، واعتبروه جالب السعادة. وأطلق المصريون القدماء على نهر النيل في اللغة المصرية القديمة صفة "إيترو عا" بمعنى "النهر العظيم". 
 وتشير الأصول اللغوية لكلمة النيل، "نيلوس"، إلى أنها من أصل يوناني.  
واختار الروائي الأسواني البارز يوسف فاخوري لمقاله هذا العنوان الرومانتيكي "خيط الحرير الأزرق في قلب الصحراء" وفيه يستحضر ما كتبه العالم رشدي سعيد، فيقول فاخوري:  قد يتصور البعض أن شكل النهر الحالي ومساره الذي عرفناه هو ما كان من آلاف السنين، لكن الدكتور رشدى سعيد في مؤلفه المهم جدًا عن نهر النيل يذكرنا أن الأحداث الجيولوجية التي تشكل ظواهر الأرض مثل تلك التي ترفع الجبال أو تكوّن الأخاديد أو تسبب ارتفاع سطح البحر أو تقدم خط الجليد، لا تحدث فجأة بل إنها بطيئة إلى حد أنها تستغرق ألوف السنين لكي تكتمل. 
ويعتبر نهر النيل الذي نعرفه اليوم بمنابعه في هضبة البحيرات والمرتفعات الأثيوبية شكلًا حديث التكوين اتخذه النهر بعد سلسلة طويلة من التغيرات التي مرَّ بها قبل أن يتخذ شكله الحالي. 
وعند نشأة النهر في مصر منذ 6 ملايين سنة، قبل أن يأخذ الأخدود الإفريقي شكله الحالي، كان البحر الأحمر مجرد أخدود ضيق، وكانت الهضبة الاستوائية عالية ودون بحيرات، وكان تصريف المياه فيها يتجه شرقًا إلى المحيط الهندي وغربًا إلى نهر الكونجو. 
أما جبال إثيوبيا فكان تصريف معظم مياهها يتجه شرقًا إلى المحيط الهندي وأقله إلى حوض النيل الذي كانت تملأ معظمه بحيرة هائلة.  
كما كان إقليم مصر معزولًا عن إفريقيا بهضبة النوبة العالية فلم يكن لأنهارها أي اتصال بالجنوب. 
وعن بلاغة النيل وأخيلته في التراث العربي أكد الدكتور عوض الغبارى ارتباط الحضارة المصرية بالنيل الذي أثَّر تأثيرًا عظيمًا في بناء الشخصية المصرية على العطاء والبقاء، واستلهمه الأدباء فقدموا إبداعًا متميزًا.

لقد شرب أدباء مصر ماء النيل "وهو أحد أنهار الجنة، وترشفوا منه حلاوة لا تكون في حشا القطر مستجنة... ومن عذبت قطرات مياههم، لطفت كلمات شفاههم" على حد قول "الصفدي". 
وقد غيَّر العرب نظرتهم السلبية للزراعة فعملوا بها عندما استقروا في مصر، ورأوا النيل الذي أُطلق عليه اسم "البحر" تعظيمًا له. وقال الكندي في فضائل مصر: "من أراد أن ينظر إلى شبه الجنة فلينظر إلى مصر... إذا اطردت أنهارها". 
وقد وصف عمرو بن العاص نيل مصر في رسالة إلى عمر بن الخطاب: "يخط فيه نهر مبارك الغدوات، ميمون البركات، يسيل بالذهب، ويجري بالزيادة والنقصان كمجارى الشمس والقمر". 
وفي مقاله "تجليات النيل في شعر العامية المصرية" ذكر مسعود شومان أن علاقة الشعر بالنيل لا تتوقف عند التغني به وبتدفقه، لكنها أبعد وأعمق من ذلك، فقد اكتسبت بعض الفنون الشعرية اصطلاحها منه، ومن الأعمال التي تتعلق به، فأصبح الشعر جزءًا من آلية العمل، بل لم يكن العمل يتم إلا في سياقات تخلق الشعر، من هنا يمكن التعرف على فن المربع بوصفه فنًّا مصريًّا نيليًّا، حيث يتكون من أربع حركات بنائية صغرى هي: الطرح - العتب - الشد - الصيد، وهي اصطلاحات تتعلق بالصيد في النيل؛ فتكون البداية بطرح الشبكة وقوفًا على "العتب" ثم الشد، ويعقبه الصيد، وهنا نرى النيل وقد علم المصري آليات العمل/ الفن لتتأكد مصرية المربع، ومصرية الرائد ابن عروس. 
وفي مقاله حول "النيل في الشعر الحديث"، يقول الدكتور مصطفى الضبع إن النيل يمثل مفردة في قاموس الثقافة المصرية، ونسقًا ثقافيًّا وجد صداه في حياة المصري عبر العصور، ليس على مستوى الشعر فحسب وإنما على مستوى حياة الشخصية المصرية في كل جوانبها وفي كل تجلياتها، مما يجعل منه مفردة حاضرة في وعي الشخصية المصرية وعنه تعبر الأمثال والحكم والفنون المختلفة التي تنتجها العقلية المصرية على مر العصور، مما تنتج عنه مصطلحات كاشفة، مما يكشف عن أنظمة من التعبير جرت على ألسنة الشخصية المصرية عبر العصور؛ منها المكتوب غير المدرك بكامله، ومنها الشفاهي المتفرق الذي لم يجمع بعد، وجميعه يكشف عن تقصير واضح في جمع ثقافة النيل وتقديمها بوصفها عنصرًا أساسيًّا من مكونات الشخصية المصرية التى إن كان للنيل دور في تشكيلها، فقد كان لها دورها في اكتشاف قيمة النيل واستثمار معطياته، وهو ما يؤكده الدكتور محمد حسن عبدالله في دراسته حول النيل وهيرودوت مناقشًا المقولة الشهيرة: "مصر هبة النيل" معيدًا فيها النظر لصالح الشخصية المصرية التي كان النيل من هباتها: "مصر هبة النيل، هذه العبارة الذهبية التي يرددها ملايين المصريين عبر العصور اقتداء بهيرودوت، معتقدين أنها تؤكد خصوصيتهم، وتعمق انتماءهم، وهي - فيما نتصور- تسلبهم أهم أدوارهم الحضارية، وهو ترويض النهر، وحفظ التوازن بينه وبين الأرض من حوله حتى تختفي علاقة التوجس والالتهام، فترتقي إلى علاقة التزاوج والإخصاب. 
بينما يرى الباحث مصطفى حمد عبدالقادر إن "النيل" كان - ولابزال – نغمة مفضلة عزفها كثير من الشعراء والأدباء المصريون، وأثار اهتمامهم واختلفت وجهات نظرهم تجاه التعامل مع هذا المضمون الخصب، ومعظمهم يمنحه مساحة عريضة في أعمالهم الأدبية، ومن التيارات التي اتخذت من النيل محورًا لها بحيث يشكل ظاهرة واضحة الدلالة ويعد أبرز خصائصه؛ تيار رواية النوبة في الأدب المصري، وهو تيار يضيف بخصوصيته إلى الملامح المشتركة التي تصله بالتيارات التي تقوم عليها وحدة التنوع في المشهد القصصي المعاصر للحياة الثقافية المصرية. 
وقد حققت رواية بلاد النوبة جمالية أدبية مغايرة، فاختارت لنفسها اتجاهًا خاصًا بالبحث في أزمة الذات وتشتتها بين الانتماء إلى النيل والأرض من ناحية ومواجهة الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية من ناحية ثانية؛ لتقدم لنا في النهاية إدراكًا جماليًا حول الشخصية النوبية وما تشعر به من مشاعر الاستلاب والقهر، من هذا الفهم تتعدد طرق تناول مفردات الوجود التي تثبت وتكرس رؤية الأديب النوبي، فأصبحت الرواية مليئة بموتيفات النيل والنخيل والجبال والأرض؛ لتشكل مفتاح شفرتها فمن خلالها يعبر الروائي عن الحنين إلى الماضي لاستحضار مشاعر الأمن والاستقرار والارتباط في مواجهة دلالات الانفصال بالمعنى الواسع للكلمة.