الوعي الفطري في رواية «خبز وشاي»

رواية أحمد الطراونة صرخة مدوية في وجه الظلم والحرمان والتهميش والفقر وغياب العدالة الاجتماعية وضياع الحقوق.
الرواية تئن وجعًا وجوعًا في كل سطر من سطورها
الوعي الشعبي الفطري ليس مقتصرًا على شخصية واحدة في الرواية

رواية «خبز وشاي» صرخة مدوية في وجه الظلم والحرمان والتهميش والفقر وغياب العدالة الاجتماعية وضياع الحقوق، رواية تئن وجعًا وجوعًا في كل سطر من سطورها؛ فأن يكون الخبز طعامك والشاي أدامك، يعني أنك «على الحديدة»، لا تستطيع أن تطعم عيالك ما هو أفضل من ذلك، ولو كان زيتًا وزعترًا!!
رواية «خبز وشاي: سيرة أبو وئام الكركي» للروائي الأردني أحمد الطراونة، على الرغم من بساطتها الظاهرة، إلا أنها عميقة، مقلقة، موجعة، توجه سهامها الغاضبة والمحذرة والمنذرة إلى من يهمه الأمر، فثمة جوع لا يرحم، وظلم قد استشرى، وحقوق هضمت، ومستقبل على كف عفريت، وإن لم يُتدارك الأمر، وتعالج المشكلات، فلا أحد يدري ما تأتي به الأيام، ولكن فليعلم أن الرجل قد يموت جوعًا صبرًا، ولكنه لن يقبل أن يموت عياله جوعًا ولو لجأ إلى السرقة والنهب والقتل!!
الوعي الشعبي الفطري كان لافتًا في الرواية، هذا الوعي الذي لا يتأتى بالدراسة وسماع أهل الفكر والسياسة والمثقفين، ولا بمتابعة الإعلام الموجه، وإنما هو نتاج تجربة حياتية، ونظر بريء في الأمور، دون زيف أو نفاق، لا يعلن عن نفسه إلا في مجالس ثقات ودوائر ضيقة، وربما بين المرء ونفسه، أما في المجالس العامة، فهؤلاء يصمتون، أو لا يقولون إلا ما تحب أن تسمعه الآذان المترصدة.
الوعي الشعبي الفطري، ليس مقتصرًا على شخصية واحدة في الرواية، بل هو ميزة معظم شخوصها غير المثقفين أو المؤدلجين، وهي محدودة بالمناسبة، وتكاد تقتصر على أسرة أبو أحمد وأخيه أبو خليل الذين يعيشون في إحدى قرى الكرك المنسية في جنوب الأردن، واللافت في هذا الوعي أنه يشمل السياسة والعلم والثقافة والأمن والاقتصاد والوطنية وغيرها، أي أنه وعي متجذر في هذه النفوس التي لم تدنسها المدينة ولا الثقافة المعلبة ولا الإعلام المزيف، وهو وعي صريح صارخ، يعبر عن نفسه دون أقنعة، أو لعب بالكلمات، وهنا تكمن أهميته وخطورته وتأثيره المباشر، وقد عبر خالد الابن الثاني لأبو أحمد عن هذا الوعي باختصار: «نحن أبناء القرى نعرف القراءة متأخرًا بعد أن نعرف الحياة». ويمكن تناول هذا الوعي الفطري ضمن عدة محاور:

الوعي الشعبي الفطري، ليس مقتصرًا على شخصية واحدة في الرواية، بل هو ميزة معظم شخوصها غير المثقفين أو المؤدلجين

العدالة الاجتماعية
على الرغم من الفقر المدقع الذي يعيشون فيه، إلا أن أحمد يستنكر نبش قبور الأجداد؛ للبحث عن ذهب أو نحاس، مستشعرًا أنهم أفضل منا: «أسئلة كثيرة لم أستطع الإجابة عنها، لكنني تأكدت أنهم أفضل منا، لا فرق بينهم، يسكنون في حفر متشابهة، لا تستطيع أن تميز بين غني وفقير، ولا تابع أو متبوع، أين قائدهم؟ لا تعرف، هم أموات، نعم، ونحن كذلك، نعيش في حفر كبيرة نمارس الرذيلة والبغاء مع أرواحنا التي تنتظر الخلاص منا، لكننا نكابر».
أبو أحمد وأبو خليل لا يستحلون لأنفسهم أن «تشحذ» من قبور الأسلاف، فلهؤلاء حرمتهم وكرامتهم، ولكنهم مضطرون من أجل لقمة العيش لأبنائهم الذين لا يجدون إلا الخبز والشاي، هم خدموا الوطن جنودًا سنوات طويلة، ولكنهم الآن لا يجدون ما يستر فقرهم إلا اللجوء إلى القبور والبحث فيها عن لُقى، فلئن أهملتهم الحكومات وقلبت لهم ظهر المجن، فالأجداد لا ينسونهم من كرمهم وما ادخروه لهم في قبورهم؛ لأنهم يعلمون أنه ستأتي حكومات على أحفادهم تأكلهم لحمًا وترميهم عظمًا. هم لا يطلبون الكثير، ولكنهم يطلبون الستر، وأن يعيشوا كبقية الناس دون تهميش أو إهمال وتجاهل.
«أهل القبور أكثر رحمة بك من الأحياء».
«حكوماتنا التي دفعتنا كي «نشحذ» أموات الرومان والأنباط أساورهم وقزازهم. نعم «نشحذها» حتى نبيعها ونصرف من ثمنها الزهيد على حالنا، وعلى أكوام اللحم التي تنتظر حتى الصبح ما جناه والدهم من التراب أو من القبور، أو كم نثر من الهياكل والعظام والجماجم».
«نحن نتماهى مع المقبرة، غيرنا يتماهى مع كل شيء على حسابنا ونحن لا يجد أولادنا الخبز والشاي».
«هم يأخذون الكثير ونحن نعد للعشرة وللمائة قبل أن نبيع زجاجة مكسورة نعمل من أجل الحصول عليها أيامًا، كي نطعم أولادنا رغيف خبز!».
«أليس لنا الحق في أن نأكل كغيرنا من الناس: زيت وزعتر، شيء آخر اسمه جبنة، حبة زيتون، بيضة؟ هذا ظلم، وهذه ليست حياة، هذا موت بطيء».
«أنت ترى الدنيا من حولي، هنالك من ضمن نفسه وأولاده بضمان، وهنالك من ضمن نفسه بتقاعد، وهنالك من لديه ولد يساعده، وهنالك من لديه أرض يبيع منها، إلا أنا عندي أكوام من اللحم ذبحتني ودفعتني لأن أعمل بأي عمل مهما كان قذرًا».
«سعيد الحظ في هذه القرية من يجد خبزًا لأولاده».
«البلد نهب من مجموعة صغيرة، والسواد الأعظم مرتهن للبنوك».
«صحيح أن هذا لا يجوز، لكن يا أخي نريد أن نأكل خبزًا. نريد أن نعلم أولادنا. نريد أن نصبح بشرًا. أريد أن أغير باب الزينكو الذي يقرعه الهواء. بعد كل هذه الخدمة نُرمى كعلبة السردين الفارغة. وها هو صدأ العمر ينخر أجسادنا ولا أحد يقدرنا». 
«يا رجل نحن أبطال. في دول أخرى يُصنع لنا تماثيل، وهنا لا نجد ثمن قوتنا. في دول أخرى تُكتب عنا روايات، وهنا تمحى أسماؤنا من ملفات الدولة. في دول أخرى يتذكرنا الكبير والصغير، وهنا نذهب في غياهب النسيان وأماكن العجزة والمسنين. حتى ظلنا تخلى عنا في هذه العتمة التي تمزقنا بالوحشة ونحن نستمرئ الحياة ولا نستطيع إيقافها».
الوعي الأثري
يدرك أبو أحمد وأبو خليل أهمية الآثار، وأنها من حق الدولة ولأبنائها، وهي تراث الأجداد الذي يجب أن يحافظ عليه، ولكنهم يشاهدون بأم أعينهم كيف يُتاجر بآثار البلد وتنهب من قبل بعثات التنقيب الأجنبية، واليهود تحت ستار العلماء والباحثين، وموظفي الدولة المؤتمنين على الآثار، وبعض الكبار الذين يسطون على كل غال ونفيس، ولذا يتساءلان: هل حلال لكل هؤلاء النهب والسرقة والتجارة، وحرام علينا، ونحن أحوج الجميع للفتات؟ 
يدرك أبو أحمد وأبو خليل خبث اليهود في البحث عن آثار تثبت وجودهم في هذه الأرض، وأنهم يزيفون الآثار ويدفنونها؛ ليزعموا بعد حين أنها دليل وجودهم عبر التاريخ، وكل ذلك تحت بصر وسمع من سمحوا لهم بالتنقيب والبحث.
«سألت نفسي: أي كائنات تسكن هذه الحفر؟ هل هم بشر؟ وإذا كانوا كذلك من منحنا الحق في أن نسطو على ما يملكون؟ من أجاز لنا أن ننثر عظامهم ونخلطها في التراب؟ حتى الموتى لا يسلمون من عبثنا».
«هذا الذي نعمله لا يجوز. هذا حرام، هذه سرقة، لا يجوز أن نسرق آثار البلد. إلى أين تذهب هذه؟ لا نعرف، قد تذهب إلى اليهود نهارًا جهارًا».
«الأجانب أحق منا في سرقتنا. أم جماعتنا الذين يتحدثون عن الأمانة وعن الوعي الأثري وهم سماسرة. سمسروا على البشر قبل الحجر».
«سرقوا البلد، قبل سنة كنت أعمل مع إحدى البعثات الأثرية في خربة أنشينش، حفرنا على العمق المطلوب ثم طلبوا من العمال الابتعاد عن المكان، أكمل الخبراء الحفر ثم أخذوا الجمل بما حمل... هؤلاء من أدخلهم على البلد كي يسرقونا؟ من كان معهم؟»
«قبل سنة ونصف تقريبًا، أخذني جمال معه. كانت بعثة أميركية تنقب عن الآثار في خربة «المضيبيع». قال لي جمال إنه لأول مرة يرى أن بعثة حفريات يرافقها أكثر من عشرين بروفسور، كلهم أميركان، لكن كلهم يهود، يبحثون عن أمر ما. قال لي بعدها إن هنالك شيئًا اسمه الأثر اليهودي في شرق الأردن، صحيح أن الكلام غريب علي، لكنني فهمته. عرفت أننا يمكن أن نسرق زجاجة من أجل رغيف خبز وكأس شاي، لكن هنالك من يسرق تاريخًا وبحماية من الدولة. صدمت حينها وبخاصة عندما أخذ جمال يحدثني عن مثلثات وتيجان وقصص لا أعرفها، ورغم أنها غير موجودة لكنهم يحاولون أن يثبتوا وجودها، وأن يؤكدوا يهودية أرضنا، ويساعدهم في ذلك العالم ليثبتوا حقهم فيها».
وعندما يستنكر جمال ما يفعلونه من نبش القبور وبيع اللقى، وأنها من حق البلد، ويجب أن تسلم لدائرة الآثار، يسخر منه أبو خليل، ويحدثه أنهم: وجدوا ذات يوم مجموعة من الأساور والعقود الثمينة في قصر البنت في ذات رأس، أخذها المدير وفق أوراق ضبط خاصة، وكان المراقب يشك في مديره، وتبين فيما بعد أن المدير وضع نسخة مقلدة منها في المتحف واحتفظ بالكنز لنفسه . 

novel
نعرف القراءة متأخرًا بعد أن نعرف الحياة

الوطنية
الوطنية مفهوم فضفاض، يفصله كل على مقاسه، وبما يناسب أهواءه وأطماعه، ولكن يبقى الفهم العفوي للوطنية هو الأجمل. يسخر أبو خليل من الأستاذ يوسف: «لم يبق إلا أستاذ التاريخ حتى يعلمنا الوطنية. ثلاثون سنة وأنا أعلم الناس الوطنية في الجيش، وها نحن نخرج من جديد لنستمر في تعليمنا للناس، ثم يأتي هذا البدين الذي لا أعرف من أين سقط علينا ليعلمنا، لقد قضينا العمر «حراث في حراث». والأخ يقول يجب أن نصون الوطن وأن نحافظ على مقدراته.. أنا خضت ثلاث معارك في الجيش العربي قبل أن تلده أمه».
فالوطنية ليست تنظيرًا أو شعارات، بل عملًا وممارسة، وكل إنسان يخدم الوطن والمواطن بأي عمل كان، فهو وطني مخلص.
يتحدث أبو أحمد مع أبو خليل عن زمرة فاسدة من الذين يتحكمون بمصالح العباد، تسرق آثار الوطن باسم الوطن، وتتاجر به، وتتبادل الأدوار فيما بينها؛ لتبقى المكاسب حكرًا عليها: «رؤوس كبار تنزل في برشوتات على هذه المقبرة وغيرها، على هذه الخربة وغيرها، وعلى تلك الخزنة وغيرها. تخطفها من يد أصحابها، يدعون أنها للدولة لكنها تذهب إلى أصحاب الدولة. أنا أعرف قصصًا وقصصًا، يأخذون ما يريدون ونحن نرى ونصفق للقوي ونبصق على الخسران ليقوى مرة أخرى بسبب بصقنا عليه ويكون هو القوي في الجولة الأخرى. فقط يبدلون مواقعهم وأدوارهم لكنهم هم هم، والوطن هو الذي يتبدل في لحظة الاختيار المرة. يكسبون ويخسرون والوطن هو الخاسر الوحيد».
قصص سرقة الوطن وآثاره كثيرة، وكل في جعبته ما يحدث به؛ يحدث أبو خليل أحمد بحكايته مع قائد الفدائيين الذي استولى على التماثيل ولا يدري ما فعل بها: «آااه يا ابن أخي، لا أحد يرحم هذه الأرض، لا أحد يرحم هذا البلد، إنه كخبز الشعير. تخيل منذ ذلك الحين حتى الآن كم من القطع الأثرية أخرجوا من هذه الخربة؟ يا الله كم نحن ظالمون لأنفسنا يا ابن أخي».
ويرفض أبو خليل منطق جمال واتهاماته المبطنة: «جمال يعتقد أننا نسرق من أرض والده. هذه الأرض نحن من يمتلكها ونحن من يدافع عنها الآن. نحن من دافع عنها قديمًا وسندافع عنها الآن. لا أحد له الحق في أن يمنعنا من أن نُخرج منها ما نريد وأن نبيع ما نريد حتى على القرود».
العلم والتعليم
على الرغم من الأمية والفقر والحرمان وشظف العيش، إلا أن أهل القرية البسطاء يدركون أهمية العلم والتعليم وأثرهما على الناس والحياة، وأن العلم ليس تنظيرًا وإنما خلقًا وسلوكًا.
توبخ سوسن زوجها يوسف أستاذ التاريخ لسوء تعامله وأخلاقه: «لا يغرك ما تسمع من أصدقائك من مديح، لأن علمك لم ينعكس عليك أبدًا. ما الفائدة من علمك؟ العلم ليس كل شيء، والثقافة ليست كل شيء، أنت ما تزال على أطراف الحياة، أو على بوابتها».
تدرك أم أحمد أن المدرسة لن تنفع ابنها خالد في هذا العمر، والأولى أن يبحث له عن عمل ليساعد والده: «أنت أصبحت رجلًا ولا بد لك أن تساعد والدك. لعبك مع الأطفال لا يعني أنك ما زلت طفلًا! إضافة إلى ذلك فأنت تضيع وقتك في مدرستك هذه، تجاوزت السابعة عشرة من عمرك وأنت لا تجيد القراءة والكتابة، ماذا تنتظر؟ هل تعتقد أنه سيأتيك وحي يعلمك آيات ربك؟ أساتذتك لن يتغيروا إلا بالموت، ولن يغيروا ما في دفاترهم، ستخرج من هذه القرية وسترى وجه ربك، من يخرج منها يرى الخير والنور وتنفتح له الحياة».
وعندما يقرر خالد أن يلتحق بالدرك، تستدرك أم أحمد نفسها، فالتعليم مهم، وينشل أهله، ويحسن أوضاعهم، تسأل خالد: «ألا تريد أن تكمل دراستك؟» وبعد ضحكة موجعة وتنهيدة أجابها: «تعليم يا أم أحمد، أليس هذا عبثًا يا والدتي، عن أي تعليم تتحدثين؟ عن مدرسة لم ينجح فيها طالب واحد في الثانوية هذا العام. عن أي تعليم تتحدثين؟ هل يوجد معك ثمن حصص الإنجليزي والرياضيات، وإذا نجحت هل تعتقدين أن أمثالي يستطيعون أن يدخلوا الجامعة؟ أحسن تعليم أن أترك التعليم لمن يمتلكون القدرة على التعليم».
بعد تنهيدة تتمتم أم أحمد: «على قولك، الدرك أفضل لك، ثم إن من يدرس ويتعب ومن لا يدرس يذهبون في نهاية الأمر إما إلى الدرك أو الجيش، سجل من الآن أفضل لك».
التعليم مُكلف في جامعات تتاجر بالعلم، ولا يُتاح إلا لمن يملك المال أو الواسطة، وحتى أبناء هؤلاء البسطاء، إن لم يجدوا من يسندهم، فلن ينفعهم تعليمهم في وظيفة مناسبة، ولذا فالجيش أو الدرك هو خاتمة المطاف لمن تعلم منهم أو لم يتعلم!!
الوعي السياسي
بساطة القرية والحياة، وتواضع أهلها وبعدهم عن تأثير المدن وأهلها، وسطة الإعلام وزيفه، لا يعني جهلهم أو عدم وعيهم بما يدور حولهم، ويدركون حقائق الحياة بفطرتهم السليمة، ويعبرون عن آرائهم بعفوية في الصميم.
يقول عجوز عن لاعبي الطرنيب الذين يجتمعون في بيت المهندس حسن مشخصًا حالة الفصام التي يعيشون فيها: «في النهار تسبون أميركا وفي الليل تلعبون الطرنيب الأميركي وتتقاتلون من منكم يحصّل أكثر الأرقام كي يكون الفائز بجوائزها».
يتحدث أبو أحمد عن خبر موت القذافي، فيقول أبو خليل: «ما لنا وللقذافي يا رجل... يموت قذافي ويخرج علينا غدًا قذافي جديد»، فالقذافي ليس شخصًا، بل نهجًا!!
عندما كان أبو خليل في السابعة عشرة من عمره يسأله القائد الفدائي: «هل تعرف فلسطين؟ قلت: أسمع بها. قال لي: وأنا أيضًا لا أعرفها، فقط أسمع بها. هؤلاء كلهم لا يعرفونها لكنهم سمعوا بها. لم تطأ قدم أحد منا أرضها، لكنها تطأ قلوبنا كل لحظة». ففلسطين بالنسبة لهم كالأردن لا فرق، وكيف لا، وهي على مرأى العين منهم، يرونها من بعيد، ويشعرون بمسؤوليتهم تجاهها.
الربيع العربي
الربيع العربي دخل القرية الوادعة، وتأثر به شبابها، وشارك بعضهم في الحراكات الشعبية. ذات حراك، أحرق البعض المحكمة، فعلق على ذلك صاحب الدكان العجوز: «لقد أحرقوا رمز العدالة التي يتباهون بها»، إنها مفارقة فطن لها العجوز، ولم يفطن لها الحراكيون المسيرون دون وعي.
استغل أحد الشيوخ ظروف أحمد ويتمه وحاجته وشعوره العارم بالظلم والضياع، فزاره ليجنده في سوريا، ولكن أم أحمد بفطرتها وفراستها حذرت ابنها منه، وأن إخوته أمانة في عنقه، وأن هذا الرجل لا يؤمن جانبه، وأن تستره هذا مخيف ومريب. ولكن أحمد لم يستمع لأمه، ودخل سوريا للجهاد ضد النظام، وبعد سنة من الموت، أدرك أن الأولى أن يموت في بلده وبين أهله، فعاد متسللًا.
في المقابل، التحق خالد بالدرك، وفي أثناء التدريب تذكر عملية تكديش الخيل، بأن تثبت الكراتين على جانبي رأس الحصان حتى لا يرى أمامه، ومع الزمن يصبح مطيعًا مهانًا، ولم يجد خالد فرقًا بين تدريبهم وبين تدريب الخيل على الطاعة ورؤية ما يريده صاحبها دون أن يكون له رأي، بل ويمنع السؤال.
في إحدى مهماته في سيارة الدرك المصفحة ينظر خالد من فتحة ضيقة، ويرى امرأة تشبه والدته في الشمال، فيخاطب نفسه: «إنها تشبه والدتي.. إنهم بشر مثلنا.. لماذا إذن لا تأخذنا الرحمة بهم كما يقول مدربنا؟ هل أبناء الشمال يختلفون عن أبناء الجنوب؟ إذا كانوا كذلك كما يقولون؛ أليست هذه أشبه ما تكون بأمي، أو أنها أمي حقًا وجاءت تبحث عني؟ ألا تشبه هذه الفتيات أختي الصغيرة؟ أليس هذا أخي أحمد أو يشبهه؟» تتوالى الأسئلة في ذهن خالد، غير مستوعب ما يجري، وذات صباح جمعة، يجهزهم مدربهم لمعركة ومهمة خطرة ويتلقون تعليمات صارمة «ويتساءل خالد في قرارة وعيه الذي ما يزال يحبو: هل حقيقة هنالك عدو؟ ومن هذا العدو؟»
وفي مفارقة قاسية، يجد أحمد نفسه دون قصد في مظاهرة في الزرقاء، ويعتقل، وفي ذات اللحظة يرى أخاه الدركي خالد، فيسأله ما الذي أتى به إلى الزرقاء، فيجيبه خالد «ألا تعرف أن أبناء الجنوب يخدمون في الشمال، وأبناء الشمال يخدمون في الجنوب» ولما يسأله: لماذا؟ يجيبه خالد: «ظنًا منهم أننا إذا خدمنا في الشمال لا نرحم من يقع في أيدينا». فخالد على الرغم من صغر سنه وبرمجته، إلا أنه يدرك ما يُخطط له، وما يُعدون لأجله، وأي تفرقة إقليمية يلعبون.
وبعد؛؛؛ فإن «خبز وشاي، عمّان: دار الآن ناشرون وموزعون، 2016، 224 صفحة»، هي الرواية الثانية للروائي الأردني أحمد الطراونة بعد «وادي الصفصافة، عمّان: دار أزمنة للنشر والتوزيع، 2009» التي نال عليها جائزة الدولة التشجيعية، وصدرت له عام 2013 دراسة بعنوان «المشهد الثقافي في الفجيرة».