الياقات والعمائم المتسخة

كان خطيرا أن يدخل أبناء الريف وقاع المدن الحياة الدينية كشيوخ وقادة مجموعات صغيرة. سرعان ما انفتحت شهيتهم للدين والمال والسلطة.

فتح المرجع الشيعي الأعلى الراحل آية الله محمد صادق الصدر الباب واسعاً أمام فئات لم تكن تحلم بوضع العمامة على الرأس، فئات كان عليها تقبيل الأيادي التي تمد لها، وأقصى ما كانت تطمح إليه أن تكون في خدمة هذا الشيخ أو ذاك السيد. فمن قعر القاع الاجتماعي دخل الحوزات العلمية إبن الريف النائي، وإبن المدينة الفقير المدقع، وكلاهما لا سند له ولا عزوة، ولا جاه يتكئ عليه.

يمكن عد هذا الإجراء ثورة حوزوية سيتبين أثرها فيما بعد، لكنها ثورة تهبط بالوعي الفقهي وترفع من منسوب التماثل مع الناس. أصبح للمدن مهما صغرت شيخها الذي هو منها، وكذا الريف، ولم تعد النجف مصدرة للعمائم، كما كان الأمر سابقاً.

وكان من الطبيعي أن يقابل مثل هذا الإجراء بالموقف العدائي التقليدي من قبل من إحتكر إلباس العمائم والزي الديني لمن يتم إنتقاؤهم وفق معايير معينة، كانت دائماً تؤخذ بعين الاعتبار.

هؤلاء الآتين من القاع لم يكونوا على دراية بالأحابيل والحيل اللغوية والفقهية التي كان يتلهى بها مثقفو المدن المقدسة، وتحديدا النجف، وما كانوا مولعين بالنظافة، أما لسبب فقرهم، أو لأنهم إعتادوا بحكم واقعهم على عدم الاهتمام الكافي بها. وكان هذان السببان مدعاة لتندر النجفين بهؤلاء الآتين من أعماق الريف، وقاع المدن، فكانوا يسخرون من لبسهم للعمامة، أو لكنتهم، أو لمدى إتقانهم اللغة وعدم تبحرهم بالفقه، أو قلة الاهتمام والعناية بنظافة لبسهم وبالأخص العمامة التي كانت غالباً بيضاء، لأن جل الذين إنضووا تحت عباءة المرجع الشهيد لم يكونوا من السادة أو الأشراف، وإنما من عوام الناس كما أسلفنا.

في التاسع عشر من شباط عام 1999 تم إغتيال الشهيد الصدر ونجليه، وبعد ما يقارب الأربع سنوات فقط انتهى نظام البعث. لم تكن النهاية المأساوية للشهيد الصدر نهاية لتأثيره، إذ سنشهد بعد الاحتلال نهوضاً لقوى راديكالية بقيادة مقلدي الصدر ومريديه ناصبت الاحتلال العداء وقاومته مقاومة شرسه، لكنها لم تصطف مع بقايا البعث ممن قاوم الاحتلال أو إدعى مقاومته.

****

ليس كل أتباع الصدر صدريين وإن أدعوا هذا، وليس كل أتباع الصدر على نهج الشهيد. ونحن إذ نشير إلى بعض النماذج لا نعمم، فمقابل هؤلاء ثمة الآلاف من المخلصين، المستعدين للتضحية حتى آخر المشوار.

في الأيام الأولى لظهور ما سميته بالياقات والعمائم المتسخة، جلب نظري شخص من هؤلاء عرفت فيما بعد أنه كان ينتمي إلى حزب الفضيلة، كان يحشر جسده القميء بين الحضور ويرفع عنقه ليظهر في الصورة، قلت هذا متسلق، تابعوه فهو يعرف ماذا يريد؟

كانت عمامته بائسة وملابسه متقذرة وكان ضامراً ليس في وجهه سوى العظام الناتئة، فيما بعد تربرب وحسن هندامه. تابعت أمره من باب الفضول، أصبح فتى الشاشة لدى بعض القنوات، وإنقلب على من كان حزبه متحالفا معه، ثم إنتقل فيما بعد لحزب آخر. كان مهووساً بالظهور مدعيا محاربة الفساد والفاسدين، لكن من يعرفه يؤكد أنه مثال الفاسد الوصولي نهاز الفرص، بحيث في فترة قصيرة جمع ثروة طائلة وعقارات. تجمل وتهندم وأصبحت عمته ناصعة البياض (أو ربما توصيف حالكة يليق به أكثر)، وتكرّش وأصبحت ياقته كما جبته مكوية ومنشاة، وما عاد يتدافع من أجل أن يظهر في الصورة، بل أصبحت الكاميرات تترصده.

***

شخص آخر إلتقيت به في بيروت، كان متحدثاً لبقاً، يحسن ترتيب أفكاره، وكانت هيئته مهلهلة تنم عن فقر بيّن. كان صدريا بحق، يناصب الاحتلال العداء، وعلى العكس من صاحبنا الأول كان لا يحب الظهور، ولا يرغب حتى بإجراء مقابلة تلفزيونية، كان يتحدث عن المظالم التي وقعت على منطقته في عهد البعث، والمظالم التي وقعت أيضاً في عهد الاحتلال، وكان مهموماً بكيف يخدم أبناء مدينته المليونية. تابعت أخباره، كان يفرح عندما يقدم خدمة لمن يكلفه بتقديم خدمة، فيما بعد كانت الخدمات تقدم بمقابل، ثم بعد أن بدأ رصيده من الثروة يكبر أخذ يأخذ من الناس مقابل حمايتهم، من يريد بيع دار أو دكان أو أرض يجب أن يدفع خمس السيد، وخمس السيد يعني خمس القيمة، ولم تكن كل الأموال تذهب للسيد، فجيب الشيخ إتسع كثيراً، وعندما فاحت رائحته، قيل أن السيد أبعده.

****

كما يقول المثل العراقي "كل ذاك بكوم وهذا بكوم". النموذج الثالث كان الأغرب، لا أدري من دعاه، وكيف أختير لحضور لقاء كهذا، جمع فطاحل الأمة من المفكرين والساسة والمثقفين، حشر نفسه بينهم، ثم بدون مقدمات قال: صاحبنا الأعلم، هو وحده الذي حدد الخرطات بتسعة بدل السبعة!

البعض لم يفهم ما قاله، لكنني عجلت بوضع كفي على فمه وسحبته من ياقته المتسخة بعيداً عن الحضور.

قلت له: إستمع كي تتعلم، ليس في كل مرة تلتقي بمثل هؤلاء.. وصاحبك وأنت الأغبى حتى لو برهنت على تسعة وتسعين خرطة، لا تسع خرطات!

لا أدري لماذا أحسست بأني جرحته، في الليل ذهبت له في غرفته وأعتذرت منه، وحدثته حديث الأب الحاني.

فيما بعد عرفت أن هذا الشاب قتل في أحداث الزركة، كان يناضل من أجل تأكيد الخرطات التسع بدل السبع!