بريطانيا ما بعد تيريزا ماي

استقالة رئيسة الوزراء مناسبة جديدة لتكريس ضبابية الوضع البريطاني داخليا وخارجيا.

شكل الانقسام البريطاني حول الخروج من الاتحاد تحديات متنوعة، سياسية كموقع بريطانيا في خارطة القوى الأوربية والدولية واقتصادية كمدى الاستفادة من الخروج أو البقاء، وانتهاءً بأزمات حكم أدت إلى استقالة رئيسين للوزراء، إضافة إلى انقسامات حادة ضمن الحياة الحزبية البريطانية في حزبي العمال والمحافظين. وإذا كانت هذه الإرهاصات والتحديات ظاهرة بشكل واضح، فان تداعيات الإعلان عن استقالة تيريزا ماي ستشكل مزيدا من عوامل الانقسام العامودي، وبالتالي صعوبة تكوين صورة واضحة عن مستقبل مجمل تلك التحديات والوصول بها إلى نتائج محددة.

فالإعلان عن استقالة رئيسة الوزراء تيريزا ماي في السابع من يونيو/حزيران من رئاسة حزب المحافظين، سيفسح المجال بالدرجة الأولى إلى تنافس حاد حول قيادة الحزب بين تيارين متباينين في الرؤية حول طريقة وجدولة الانسحاب، وهو أمر تمكنت ماي من إدارته واحتواءه منذ وصولها إلى رئاسة الحزب ورئاسة مجلس الوزراء، وتمكنت من تجاوز العديد من الضغوط الحزبية والوزارية لإزاحتها عبر مجلس العموم لثلاث مرات. والمفارقة في هذا الموضوع تحديدا أن حزبها شكل المواجهات الأبرز مقارنة مع خصومها من الأحزاب الأخرى لاسيما حزب العمال. وفي أي حال من الأحوال كان العامل الأبرز لتجاوزها لتلك التحديات عدم وجود شخصية قادرة على المنافسة، وعدم وجود خارطة طريق قابلة للتنفيذ خروجا أو بقاءً من الأطراف الآخرين. كل ذلك يمكن ان يعزز عودة ظهور المطالبات المؤيدة لإجراء انتخابات تشريعية مبكرة في محاولة لإعادة خلط أوراق جديدة، وهذا ما ظهر سابقا، عبر مواجهة ما اتبعته من سياسات الخروج الآمن وفقا لرؤية الاتحاد. فعلى سبيل المثال واجه مشروع "شبكة الأمان" المتعلق بالجانب الايرلندي رفضا شديدا، مما رفع سقف الاصطفاف السياسي وصولا إلى المطالبة بانتخابات تشريعية مبكرة، بصرف النظر عن حسابات الربح والخسارة فيها لجهة ما يمكن أن تحدثه الانتخابات في سير عملية الخروج ضمن اتفاق محدد أو البقاء في الاتحاد لاسيما وأن الاستفتاء الأساسي لم تكن نتائجه حاسمة لجهة الفروق البسيطة جدا بين مؤيد ومعارض، وبالتدقيق في استطلاعات الرأي لم يلحظ تغيرات ذات دلالات جادة عن تحولات حاسمة في هذا المجال، ما يعزز أيضا بأن أي انتخابات مبكرة يمكن أن تجرى لن تكون أيضا ذات دلالات واضحة في تركيبة الحكومة أو سياساتها الخارجية والداخلية تجاه الاتحاد والقضايا المتصلة به.

وبصرف النظر عن الشخصية التي ستقود الحزب وبالتالي رئاسة الحكومة إذا ظل حزب المحافظين مسيطرا على الأغلبية البرلمانية، فان سياقات ومظاهر باتت متحكمة في مستقبل بريطانيا، كالتردد والتوجّس تجاه الانخراط في الاتحاد بشكل فاعل ومؤثر في مستقبله، ومجازا في توصيف العلاقة ثمة من يقول أن بريطانيا هي في الضفة الغربية للأطلسي، أي هي أقرب في الجغرافيا السياسية للولايات المتحدة منها إلى الجانب الشرقي للأطلسي أي القارة الأوروبية، وهي دلالات تظهر حجم توجس بريطانيا من الانزلاق أساسا في مشاريع الاتحاد، انطلاقا من إمكانية ضمور قوتها المرغوبة إلى جانب الطرفين الآخرين المتحمسين تاريخيا للاتحاد ألمانيا وفرنسا.

من الواضح اليوم، إن بريطانيا ذاهبة نحو المزيد من التخبط السياسي في إدارة أزمة الخروج، وهي أساسا لا تمتلك العناصر الداخلية القادرة على حسم التوجهات، ولا تتوافر العناصر الموضوعية التي تسهم في إخراجها من هذا المأزق الموصوف. فإضافة إلى الانقسام حول السياسات الخارجية والدفاعية أيضا، ثمة عوامل قانونية واقتصادية ومالية تزيد في ضبابية وضعها، وبالتالي ذهاب الأمور إلى صور أشد تعقيدا من السائدة حاليا. فبريطانيا المستفيدة اقتصاديا وتجاريا في الأساس عبر وجودها في الاتحاد، ستعاني وبشكل واضح في العديد من القطاعات كانتقال رؤوس الأموال وحجم الاستثمارات والإنتاج الزراعي وغيره، عدا عن القضايا الأخرى كالمسألة الايرلندية، وقضايا الهجرة والتنقل والقضايا ذات الصلة التي لا تنتهي، وهي قضايا حاولت تيريزا ماي التخفيف من آثارها عبر سياسة الخروج الآمن.

باختصار شديد ربما ستعتبر الاستقالة مناسبة جديدة لتكريس ضبابية الوضع البريطاني داخليا وخارجيا، في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلى إعادة تموضع في ظل التحولات الدولية المتسارعة.