بعد سقوط الثقافة النخبوية والشعبوية... ما البديل؟

الثقافة النخبوية متعالية لا علاقة لها بالشارع. الثقافة الشعبوية دونية لها علاقة بإفساد الشارع.

الحرية الإنسانية بمفهومها الواسع تنتج ثقافة، والثقافة تتطور من جيل لآخر وفق ما يتم من تفاعل بنَّاء، قائم على محاولة الوصول لقبول المختلف، وليس جعله متفقًا.

وما بين تعالي حاملي الثقافة النخبوية، وشيوع اللون الشعبوي في الشارع العربي، أصاب كلا الثقافتين حالة من الفشل، فسقطت الأولى في فخ الانزواء، والثانية في مجرى المكاسب المالية المؤقتة -ولو على حساب القيم- سواء الدينية أو الموروثة اجتماعيًا، لكنها لا تزال تلقى إقبالاً من جمهورها، نظرًا لغياب بديل قادر على فهم جمهوره.

الحرية التي قصدت في البداية، ليست حرية إباحية كما يفهمها البعض، أو يحاول الترويج لذلك، بل حرية اقتصادية، سياسية، اجتماعية،... ألخ. هذا المفهوم ربَّما يكون قادرًا على إنتاج معنى ما يضيف إلى مفهوم الثقافة العربية سطرًا إيجابيًا، لمحاولة تطويرها، لأنَّ نمط الصناعة أو السياسة أو العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد يشكل ثقافته أو على الأقل يكون مستعدًا لقبول ثقافة تتناسب والمزاج العام.

الثقافة النخبوية، متعالية، لا علاقة لها بالشارع، والشعبوية دونية لها علاقة بإفساده غالبًا، فما البديل في هذا الحال لإنتاج ثقافة قادرة على استيعاب التطور الحضاري لدى الشعوب الأخرى، ومحاولة السير في توازٍ مع التيارات الثقافية العالمية القادرة على تطوير ذوات الشعوب، فلا نبقى في محل المستهلك المتلقي فقط، من دون إنتاج ثقافة صاعدة من عمق الذات العربية، بدلاً من التغزل العبثي في ثقافة الآخر، الذي ينظر إلينا بفوقية، وأحيانًا باحتقار.

كم من مثقفين آثروا الانزواء، وأعلنوا فشلهم، بل وأغلقت مسارح، ودور فنية كانت تعنى بالترويج الثقافي، وفق توجه القائمين عليها، ولا يزال بعيدًا من الواقع، بدعوى الإحباط من المجريات السياسية التي غطت العالم العربي، وهي جحة واهية، لأن العالم العربي منذ تحدث العربية وهو يعاني من مجريات سياسية سواء إيجابية أو سلبية، لكن التيار الذي يطلق على نفسه تيار النخبة فشل في استقطاب الشارع، لانعزاله في أبراجه العاجية، في محاولة ادعاء أن ما يؤمنون به لن يؤمن به أحد في الراهن، لشيوع الجهل (ضد الوعي)، لكن ما تم رصده أن هناك هوة بين ما يؤمن به تيار النخبة، وبين ما هو قابل للتحقق، وبعد أحداث الربيع العربي أو العبري، أصبحت مفردة "نخبة" مشبوهة، لأن مثقفي النخبة دائمًا ما يتحدثون عن الدعم، وحين يصل الدعم، لا ترى منتوجًا إبداعيًا يتناسب وحجم الدعم المطلوب، وفي الأخير يكتشف المراقب أن الموضوع بالنسبة لهم ليس أكثر من باب تكسب بغير إيمان بما هو أبعد وأعمق لإنتاج ثقافة مؤثرة قادرة على تشكيل وعي الشارع العربي، وحدث الفراغ، بل والتندر منهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي بعد استقطابهم في قضايا سياسية وظهورهم المفرط على شاشات الفضائيات، فلم يقتنع رجل الشارع أنهم قادرون على إنتاج معنى مفهوم على الأقل بالنسبة له، يشبع حاجة لديه، وليس رفاهية المطالبة بدعم الدولة "أي دولة".

الانزواء بعيدًا من المشهد الصانع للتطور الثقافي في البلد الواحد، كانت نتيجته شغل الفراغ بالثقافة الشعبوية، التي أعلت بدورها البطولة الفردية التي تتناسب مع ثقافة العجز الإنساني على مر العصور، وتحقق للمتلقي حلمه في رفض الظلم أو رد الحق أو الفوز بالحبيبة من خلال نمط مستلهم من التراث الشعبي "السير، الحكاية"، فاختلط الشعبي بالشعبوي، وسادت فوضى في المفاهيم، لكنَّ صنَّاع الثقافة الشعبوية من مختلف أشكالها أمعنوا في الإنتاج المربح ماديًا، لأنَّه يلقى رواجًا في الشارع، الشارع الذي يغيب عن مسرح الشارع، وعروض الفرجة الشعبية، والفرق الموسيقية التي تغازل مزاج العقل الباطن للمجتمع.

حتى الآن – في منظورنا- لا الثقافة النخبوية نجحت في إنتاج وعي يغير نمطية التفكير للأرقى، ولا الثقافة الشعبوية نجحت كذلك، إلا أنَّها كسبت أرضًا إضافية في إزاحة النخبة من طريقها، خصوصًا في حال الترويج في الشارع العربي لرفض النخبة، وأنصارها، باعتبارهم "أفندية، باكوات، باشاوات" بعيدين تمامًا عن معاناة رجل الشارع.

توجد ضرورة قصوى لمحاولة إنقاذ ما تبقى من محاولة صناعة ثقافة قادرة على التأثير في الوعي العربي، على الرغم من استفحال الداء، لكن يبقى الأمل لامعًا في أفق المستقبل الآتي، إذا أرادت حكوماتنا العربية ذلك، وأعادت للشارع فنه الجماعي الموروث عبر مختلف أشكاله، وإعادة الهيبة للقراءة بالتحفيز بشتى السبل إلى ذلك، قبل أن نرى جيلاً أميًا يكتفي ببث الرسائل الصوتية عبر "واتساب"، بدلاً من الكتابة.