بين صناعة الثقافة الميتة والترفيه الاستهلاكي في العالم العربي

انحرفت بوصلة تأثير القوى الناعمة فضاع الفرق بين الثقافة والترفيه.

فرق، وفرق كبير بين صناعة الثقافة وصناعة الترفيه. فالثانية وقتية استهلاكية، لا يبقى منتوجها في الذاكرة طويلاً، سريعة العائد المادي، رغم أنَّ الترفيه قد يكون ثقافة لشعب يصنعه للآخرين، أو أنَّ من مكوناته التراثية الشعبية، ووجدانه. فالترفيه صناعة ناجحة جدًا في العالم كله، وحتى في البلدان الناطقة بالعربية بدأت صناعته تنتعش وتزدهر مؤخرًا، لأنه الأسهل الذي يمتص الطاقة السلبية من جهة، ومن جهة أخرى، عائداته المادية سريعة، وعند من يصنع تعتبر العوائد المادية نجاحًا، وهو محق، لأنَّه دال على الإقبال الجماهيري، لأنَّ صانع الترفيه "صنع" بالفعل منتوجًا تم ترويجه، فحاز إقبال الجمهور، فلا يمكن التقليل أبدًا من شأن الترفيه، لكن يمكننا اتهام القائمين على صناعة الثقافة بالتقصير.

الثقافة وصناعتها، ميتة موتًا سريرًا في البلدان الناطقة بالعربية، وذلك بحسب تعريفنا للثقافة وصناعتها، ومدى ملاءمة أو عدم ملائمة تجاور كلمتي ثقافة وصناعة.

فالثقافة - في منظورنا- هي القوى الناعمة التي لها القدرة على التأثير في لا وعي الشعوب، سواء من فنون موروثة "مسموعة، مرئية، مكتوبة"، أو إعلام بكل صوره، أو أنَها "كل عمل من شأنه أن يرتقي بالأخلاق والروح العامة لدى أبناء الأرض المتصلة، فلا فرق بين البشر، إلا المزاج الشخصي الذي يصنعه ما يبث إليه عبر اللاوعي".

هل هذه القوى الناعمة قادرة بالفعل على التأثير في الشارع العربي؟

هذا السؤال يحتاج كثيرًا من التأني لمحاولة الإجابة عليه، لأنَّه يحمل مستويات زمنية متوازية لمفهوم التأثير والتأثر، أو إن شئنا الدقة يمكن تأريخ التأثير واللا تأثير بقبل الربيع العربي، وبعده، حين سقطت القوى الناعمة في فخ الاستقطاب، وتغيرت خريطة التأثير والتأثر في الشارع العربي، وسقطت رموز أو من كان يعتبرهم رجل الشارع رموزًا موثوقة، فاهتزت ثقته في مصادر تلقيه، لأنَّ الرموز أو من كان يطلق عليهم هذا المصطلح كانوا فقاعات وقتية، وانفثأت، لغياب أسس صناعتها عن المشهد.

أصبح كل مواطن ناطق بالعربية جزيرة معزولة ثقافيًا وسياسيًا، على طريقة التعبير الذي أصبح أكثر شيوعًا بعد نكسات الربيع العربي أو العبري إن شئنا الدقة "رئيس جمهورية نفسه"، فلا تأثير من القوى الناعمة يمكن أن يؤثر فيه بالفعل، في ظل تأثيرات مواقع التواصل الاجتماعي التشكيكية في كل شيء، وكل شخص، فكل التيارات متصارعة، ولا تصالح.

انجرَّت القوى الناعمة جميعها في البلدان الناطقة بالعربية إلى فخ الاستقطاب السياسي، خصوصًا أن لا إعلام محايد في العالم، لكن ما زلنا نطالب بالنزاهة، وبعد هذا الانجرار تراجع تأثير القوى الناعمة بشكل ملحوظ، حيث لجأ الأكثرية إلى مواقع التواصل الاجتماعي في محاولة للبحث عن إجابات لأسئلة تدور داخله، والإجابات دومًا متناقضة من قناة وقناة، ومن منصة لأخرى، فانحرفت بوصلة تأثير القوى الناعمة.

والسبب أن لا قاعدة ثقافية راسخة في البلدان الناطقة بالعربية، إلا قليلاً من الاحتفال التراثي السنوي، أو إقامة معرض كتاب، أو ما شابه.

كل ذلك كان بعيدًا عن مصطلح "صناعة الثقافة"، فليس إنتاج كتب في شتى المجالات، أو إنتاج مسرحيات أو أفلام يعتبر صناعة ثقافية، الصناعة بمفهومها الأكثر وضوحًا لنا هي صناعة لاعب الكرة، وفق معطيات محددة وصارمة، والنتائج إن لم تكن مضمونة بنسبة تفوق المتوقع فلا داعي من وجوده في الملاعب، وهذا طبعًا يحدث أوروبيًا فقط.

صناعة الثقافة مصطلح غائب عن البلدان الناطقة بالعربية، لأن لا مشروع ثقافة يجمع هذه الشعوب، وكلٌ لا يزال متمسكًا بالتعبيرات القديمة "وحدة اللغة، العروبة، المصير المشترك..."، وكلها مصطلحات لا تسمن ولا تغني من جوع، طالما بعدت عن ميدان احتياج الشارع العربي لما يصنع ثقافته صناعة حقيقية، قائمة على وجود منتج، تتم صناعته وفق أسس علمية دقيقة، وليس كل من هبَّ ودب يكون قادرًا على اعتلاء المشهد، وتصديره بوصفه قوى ناعمة، بإمكانها التأثير في الآخرين.

على جميع حكومات البلدان الناطقة باللغة العربية دراسة مصطلح صناعة الثقافة، ليكون موازيًا مثلاً لصناعة السينما في الولايات المتحدة، أو الهند، الصناعة لها أسسها العلمية التي تروج القيمة بين الأجيال المتوالية الواقعة تحت تأثير دراما وسينما البلطجة التي تصدر رؤية الحل الفردي، وليس مهمًا لديها المصير.