بعد 30 عاما من حرب تشرين، المثقف والسلطة بين حربين
بعد 30 عاما مما يسمى بحرب تشرين التحريرية سقطت بغداد تحت سنابك الأميركان. وأي نظرة إلى الخلف تبين مدى عقم عمليات التجميل
التي كنا نخص بها تلك الحرب الشريفة بالمقاصد، والوطنية بالمحتوى. فقد كانت محاولة للثأر من هزيمة عام 67. ولكن كما كان يقول صديقي الفنان المغترب علي رشيد: "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن".
انتهت الحفلة بفك الارتباط مع مصر، وحصار سوريا. والعبارة الأخيرة تتضمن عدة إجراءات، منها خنق حركة السوريين في العالم، وتقييد كل الاتفاقات التجارية المعقودة مع الغرب، وتأليب الجيش التركي ضدها. وكانت النتيجة عدة سنوات من الجفاف والتوتر والتعتيم (السياسي والاجتماعي).
وإذا حصلت سوريا على القنيطرة وهضبتين من سلسلة جبال الشيخ في الجولان لم تخرج إسرائيل خالية الوفاض. وربما هي التي ضحكت في خاتمة المطاف بعد إبرام هدنة رخيصة، انتهت باتفاقيات كامب دافيد وتشريد الأمة من بيتها في القاهرة، واستقرارها لعدة سنوات في تونس. وأستعمل هنا كلمة الضحك على سبيل المجاز. فإسرائيل كالعادة أعادت ترسيم حدودها، بينما فرضت على السوريين والمصريين حدودهم. وهكذا خرجت من هذه اللعبة التي تشبه شد الحبل لتكون المنافسة بين العرب أنفسهم.
وقد كفاني مؤونة التنقيب في خفايا مجريات الهجوم السوري المباغت، ثم الهجوم الإسرائيلي المعاكس، عدة أدباء من جيل الأساتذة، أو الجيل التالي لرواد الرواية في سوريا. ومن هؤلاء نبيل سليمان وخيري الذهبي. ويضاف إليهم اسم، شق طريقه بوقت متأخر، وهو خالد خليفة. وإذا كان لا يوجد أسلوب واحد يجمعهم معا، فقد اتفقوا على النهاية التراجيدية لتحرير جبل الشيخ. ويمكن المطابقة بين رؤيتهم لكواليس هذه الحرب مع مرثيات كان لها هدف أساسي، هو تجريد حرب 67 من الميلودراما التي أسقطت عليها، ومن هذه المراثي رواية "قارب الزمن الثقيل" لعبد النبي حجازي. لم يكن الزمن، في روايته، يجري بطريقه الطبيعي، وكان أقرب للتجميد والركود، وكل الشخصيات اتصفت بالخمول الذي برع سارتر بالكلام عنه، وهو خمول موضوعي لشخصيات تحمل في داخلها رماد أفكارها الصامتة والمكبوتة.
ويختصر حجازي تراجيديا الحرب بنقطتين.
الأولى تشابه الليل والنهار بسبب سياسة الإغلاق وسد المنافذ.
الثانية الانقطاع الطوعي عن العالم. لأنه، كما ورد على لسان بطل الرواية، كلما ازداد الإنسان بتفسير الأمور زادت غموضا ص165.
وهذا أفضل تعبير عن أحداثنا المصيرية التي منيت بالفشل، ثم توقفت بمنتصف الطريق. وأولها انتقال مقر الجامعة العربية إلى تونس. ولا يوجد ترجمة لهذا الإجراء سوى إبعاد العرب عن شعار "تحرير فلسطين". يضاف لذلك سقوط ميثاق العمل القومي المشترك، والعودة لخطاب التخوين. ورافقه، بكل أسف، انفجار حرب ظل أهلية في بيروت بين أنصار البعثين العراقي والسوري. وانتهت بخروج العراقيين ليفتحوا جبهة مضادة لدمشق ولكن على حدود إيران. وكل هذه الحفر الوجودية كانت متوقعة، حتى الأعمى يمكنه أن يتنبأ بها. فبالعودة إلى أرشيف حروب تشرين، وبالأخص داخل المعسكر السوري، نلاحظ نغمة تخوين القوات الرمزية العراقية المشاركة بالحرب، مقابل تمجيد دور التجريدة المغربية.
وإذا كان لا بد من إيجاد مبرر لهذا التوجه، أعتقد أنه مجرد تحسس تقليدي بين القيادتين على زعامة الأمة العربية. وباستعمال مفردات جورج طرابيشي "التنافس على دور الديك"، أو بلغة أوضح وباللهجة الدارجة هي مرجلة واستعراض عضلات.
ويبدو أن دور المغرب في هذا السياق مثل دور تونس. مجاز آخر يدل على توسيع المنطقة المحايدة التي تعزل فلسطين عن مراكز القرار العسكري والسياسي. فالكماشة التي كانت تخنق الإسرائيليين من الشرق والجنوب تحولت إلى كماشة رخوة (على وزن خاصرة طرية) طرفاها في الجانب الفرانكوفوني، وكان يوفر غطاء لا يختلف عن سرير بروكست. إما أن يغطي القدمين أو الرأس. ورغم الأهمية الاستشراقية للفرانكوفونيين لكن دورهم آخذ بالتراجع مثل "الجلد المسحور" الذي كتب عنه بلزاك. مقابل كل خطأ فرنسي ينكمش هذا الجلد عدة سنتمترات، ومن المؤكد أنه تحول في سنوات السادات لشيء يشبه ثياب الإمبراطور العاري.
دون أي شك لا تقدم إسرائيل هدية بالمجان لدمشق. وإعادة القنيطرة كانت مقابل تحريك حدود العرب السائلة، من الشرق السوفييتي إلى الغرب الفرانكوفوني. وأيضا مقابل تحريك الأهداف السائلة، من الضغط على إسرائيل والغرب لحل القضية المؤجلة، وهو ما أختصره بالوضع الديموغرافي والجيوسياسي لمدينة القدس، إلى الضغط على إيران وبغداد ودمشق.
فقد دخل العراق بحربه المجانية مع الإيرانيين، ودخل النظام السوري بحلقة إضافية من نزاع غير ضروري مع أطياف المعارضة، وإن بدا أنه مع تنظيمات إسلامية متشددة.
وفي حقيقة الأمر كانت الاضطرابات شاملة. وشارك بها أجنحة يسارية وقومية كالشيوعيين والناصريين. كانت الدمغة الإسلامية ظالمة قليلا. وساعد الغرب على تسويقها. وهنا يجوز التذكير بالمثل الآرامي المعروف: لأمر ما جدع قصير أنفه. مع أنه لا توجد إثباتات أن الواقعة صحيحة. وعلى الأرجح العبارة مقتبسة من إحدى حكايات إيسوب.
ولكن التقليب في الأدبيات الغربية يوحي لنا أن اللعبة كانت تدور حول نقطتين.
استراتيجية. وهي التحكم بما يسمى المياه الدافئة. وقد أوكلت هذه المهمة بالفرنسيين، أكبر مصادر الترويج للثقافة المتوسطية.
واقتصادية. وهي السيطرة على مصادر الطاقة. وبالأخص منطقة الخليج العربي.
في عام 1986 شاركت بدورة تدريبية في مدينة ديدزبوري – وهي ضاحية على أطراف ميتروبول مانشستر. وكان موضوعها "أفضل استراتيجية للتقليل من دور النفط في الإنتاج". قد يبدو العنوان بسيطا لكنه يشمل إنتاج خيوط في بيئات جافة لا تحتاج لطاقة من أجل التجفيف. والتركيز على المصادر الطبيعية المستدامة التي لا تحتاج للهايدروكاربون. والاستغناء عن 10-20 % من الطاقة اللازمة لتوفير المواد الخام. ولذلك أرى أن هذا البكاء على تلوث البيئة والصناعة الخضراء يهدف إلى تحجيم الهوية العربية الصاعدة، وزرع فكرة التابع في العقل العربي.