تحديات شرق أوسطية

كل شيء يبدو جاهزا لتغييرات في عمق جغرافية الشرق الأوسط.

لطالما كان الشرق الأوسط محط انظار استراتيجيات القوى العظمى، بالنظر للامكانات التي يختزنها، علاوة على ما يشكله من عقد وصل في الجغرافيات السياسية الإقليمية والدولية، وتكاد لا تخلو حرب كبرى تقليدية او عالمية الا وكان هذا الشرق محورها، ومقصدا لغاياتها وتداعياتها وآثارها.

وما يجرى اليوم، وهو بطبيعة الحال استكمالا لتداعيات انهيار النظام الثنائي العالمي، وتحديدا الموجة الثانية من انهيارات النظم المحلية، بعدما عصفت به الموجة الأولى والتي كان محورها ما سُمي آنذاك بالربيع العربي وامتداداته الإقليمية التي توسعت لتشمل نظم خارج الاطار الجغرافي الذي رسا عليه لعقود طويلة نسبيا.

غريب المفارقات اليوم، ان هذا الشرق الذي كان دائما نتاج توازنات دولية دقيقة والتي عادة ما كان يتم احترامها نسبيا، انطلق اليوم بأسس جديدة عمادها انه سيكون هو نفسه محورا لتوازنات دولية جديدة، ستظهر نظاما عالميا بمحددات مغايرة، رغم كل ما قيل مثلا عن تعثر واهتزاز استئثار الولايات المتحدة لقيادة النظام العالمي منذ تسعينيات القرن الماضي.

ثمة شبه اجماع على ان متغيرات تسعينيات القرن الماضي، كان احد أهدافها بناء نظام شرق اوسطي جديد، بمسميات مختلفة تارة جديد وطورا كبير، اذ انطلقت حروب ومعارك وسقطت أنظمة وظهرت مفاهيم، حاولت البناء لصور ومقاربات مختلفة لهذا الشرق الذي يذخر بصور وانماط عقائدية واجتماعية تكاد لا تحصى. لقد دأبت الولايات المتحدة ابان ولاية الرئيس بوش الاب على الترويج لنظام شرق اوسطي مختلف الأوجه والاهداف عما ساد بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وظهر الخطاب الاميركي في ملامحه الأولى ليثبت صورة نشر الديموقراطية في نظم هجينة سادت لعقود طويلة رافعة شعارات بدت لبعض الوقت مقبولة في العقل والسردية العربية، ورغم ذلك ظلت ممتدة بدفع مما خلفته تلك النظم صورا نمطية في عقول شعوبها واحزابها، رغم تهالكها وخروج الكثير منها عن المألوف في الأنماط السياسية والاجتماعية اقله المتعارف عليها.

فعلى مدى العقود الثمانية الماضية أغرق الشرق الاوسط بحروب متعددة لا نهاية لها، ابرزها الحروب العربية الإسرائيلية الأربعة الكبرى 1948 و1956 و1967 و1973، وليس انتهاء بالمعارك ذات الطابع اللبناني 1982 و1993 و1996 و2006 و2024، إضافة الى معارك الضفة الغربية وغزة المتتالية، جميعها، انتجت مزيدا من تعقيدات العلاقات الإقليمية والدولية دون أي افق لبناء حلول مقبولة قابلة للحياة، والتي كان آخرها ما جرى في غزة اكتوبر/تشرين الأول 2024 وما تبعها من حرب اسناد ووحدة المحاور والساحات، وصولا الى انهيار النظام السوري.

وعلى الرغم من عدم غرابة ما جرى من سقوط للنظام السوري، باعتباره ملحقا لمسلسل الانهيارات التي جرت في العقد الماضي كمثال العراق وليبيا واليمن ومتغيرات مصر وتونس وغيرها، الا ان سرعة وفظاعة الانهيار الأخير في نظام دمشق، يدلل على هشاشة تلك الأنظمة التي حكمت شعوبها لعقود طويلة من الزمن في شعارات ربما لا توازي ثمنا بخسا من اثمان كبرى تستلزم عقودا أخرى لإعادة البناء والتغيير.

ثمة وجه أخر لطبيعة التحديات التي تطال دولا أخرى في هذا الشرق الممتد على حدود مترامية من بينها ايران وتركيا وإسرائيل والعرب، وجميعها، نسجت استراتيجيات لمسارات معقدة من العلاقات والتحالفات غير المستقرة في الكثير من الأحيان، والتي تسببت بزلازل سياسية واجتماعية واقتصادية غير مسبوقة في التاريخ البشري، والتي استندت بغالبيتها على محاولة الاستحواذ على القوة والسيطرة عنوة، ونشر معتقدات وايديولوجيات بدت بعضها براقة وتبين مع الوقت انتفاخها غير الواقعي، والتي كانت سببا في المزيد من الاثمان الثقيلة التي دفعتها الشعوب من اعمارها في الوقت الضائع ابان التطور الهائل لبعض المجتمعات والدول.

فايران اتي انطلقت بثورتها الإسلامية نهاية سبعينيات القرن الماضي والتي لم تتمكن من نشر ايديولوجيتها على مدى أربعة عقود ونيف، لم تحقق سوى بناء اذرع متعددة الأشكال في لبنان واليمن وغزة والعراق، وجميعها لم تتمكن عمليا من انجاز ما بنيت عليه، وكانت عبئا الى حد كبير على أصحابها وتحديدا على من انشأها وحاول الاستفادة منها. فايران اليوم التي دفعت مقدرات هائلة في سبيل الحصول على عظمة القوة عبر البرنامج النووي والصاروخي وهو الأهم، لم تتمكن من الإنجاز النهائي رغم وصولها لجميع الإمكانات العلمية والتكنولوجية المطلوبة، ولا زالت تقف عند العتبة الأخيرة، رغم شبكة التحالفات الدولية التي انشأتها مع كل من روسيا والصين وكوريا الشمالية، ورغم كل ذلك لم تصل للدعم الكافي لاعتبارها دولة نووية. كل ذلك يطرح عليها أسئلة بطبيعة تحديات وازنة في مستقبل غير واضح، وسط مخاوف من انخراطها عبر ادخالها في مسلسل الانهيارات، اما بدفع حراك شعبي داخلي تبدو اسسه ومتطلباته جاهزة، واما باطلاق رصاصة الحرب الأولى عليها مباشرة. فاما ان تتيقن للظروف القائمة وتواجه التحديات بواقعية سياسية مطلوبة، واما ستخسر مقدرات هائلة دفعت اثمانها ولم تحقق مبتغاها.

في المقلب الأخر، ثمة دور متجدد لتركيا يبدو انها استعدت له بعد محاولات كثيرة منذ استلام حزب العدالة والتنمية للسلطة بداية الالفية الثالثة، وتحديدا عبر البوابة السورية، فيما إسرائيل يبدو انها تمكنت من فرض معادلات جديدة لموازين قوى تتعدى الشرق الأوسط الى نظام عالمي قادم سيحاول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب ارساءه وتثبيته، في ظل تفاهمات واتفاقات أميركية روسية على تقاسم النفوذ وربما حدود سياسية جديدة جهزت خرائطها للمنطقة، وتنتظر نهايات المشهد الذي ستكثر فيه الدماء ومظاهر حروب التوحش.

ان زلزال الشرق الأوسط الذي انطلق من الفالق السوري والذي ستمتد آثاره وتداعياته ليشمل دولا واقاليم بعيدة عن حدودها المعروفة حاليا، ليشكل ليس شرقا اوسطا جديدا او كبيرا فحسب، وانما نظاما عالميا، ربما سيكون من بين أسبابه أيضا تفكك دول واتحادات كبرى قائمة حاليا. فهل ستتمدد الانهيارات لتصل الى روسيا مثلا بعد ايران وتركيا، والعين يجب ان تبقى ساهرة على مصر تحديدا.

ان مواكبة التطور العلمي والتكنولوجي، وبناء النظم القائمة على الواقعية السياسية والحكم الرشيد، كفيلة ان سمحت لها الظروف، ببناء مجتمعات ودول قادرة على مواجهة التحديات الكبيرة التي تنتظر العالم بأسره لا الشرق الأوسط وحده.