جغرافيا الحداثة السورية في الستينات

الواقعية في سوريا مجرد قناع لحداثة ملتزمة، ومثلها الكلاسيكية هي قناع آخر لنفي النظام من داخله.

بعد انقلاب 1961 في دمشق دخلت البلاد بحرب باردة مع مصر، ولم يحسن الأجواء انقلاب عام 1963 وعودة الوحدويين إلى الحكم، فقد كانت هناك تشابهات كثيرة تخللتها خلافات أكثر، لاسيما أن الطرفين اختارا الحل العسكري - في الخارج والأمني - في الداخل.

وكان وجه الدولة عسكريا ولو أنه بثوب مدني، ولكن اهتم المصريون بالقيمة الثمينة للأرض ليس كوسيلة إنتاج بل كمعطى رمزي أو هبة ومنة إلهية. وأعرب أدباء ثورة 1952 عن ذلك ابتداء من رواية عبدالرحمن الشرقاوي الخالدة "الأرض" وجزئها الثاني "الفلاح" وحتى سلسلة أعمال محمد البساطي بعد أكثر من عقدين وبالأخص في "الأيام الصعبة" وتبعه أيضا بعد عقود خيري شلبي في ثلاثيته "الأمالي". وقد تقاسمها الشقاء الطوعي في الحقول واللهجة الشعبية لأبناء الريف. ولم ينج من هذه النوستالجيا ولا حتى النبلاء - بقايا العهد الملكي أمثال يحيى حقي في "قنديل أم هاشم" وتوفيق الحكيم في "يوميات نائب في الأرياف". وأعاد هذه السيرة إلى الصف الأول في النتاج الأدبي الدكتور محمد المنسي قنديل في قصص "من قتل مريم الصافي" ثم في روايته "طبيب أرياف".

لكن ذهب السوريون بالاتجاه المعاكس وإذا حذفنا من سجلاتنا كتاب الدولة - من يترجم الشعارات، وأقصد حرفيا الكتاب المأجورين يصعب أن تلاحظ أي دور هام للأرض على وجه الخصوص في فجر الحداثة بين 1960-1970.

وأرى نفسي أمام سؤال محير: هل فعل السوريون ذلك عمدا، نكاية بالخطاب الشعبي لحكومة ناصر أيام الوحدة أم لأسباب منطقية منها دور التفكير الماركينتالي الذي عبر عن نفسه بلغة لاتينية - وأقصد بذلك أنه كان جسرا لتعبر منه مبادئ الثورة الفرنسية. وأخص بالذكر ميشيل عفلق الأب الروحي لانقلاب 1963، ثم زكي الأرسوزي الأب الروحي لانقلاب عام 1970.

ومع أن الاثنان غير محبوبين من قبل أنصار الحداثة العربية، لكن أعتقد أنهما مهدا الطريق إليها، ولا يجب أن يغيب عن الذهن أنهما جاءا بعد الطهطاوي. ولم يكن في يد أي واحد من هؤلاء الثلاثة عصا سحرية لتبديل الواقع، وقد ابتلعتهم أنظمتهم، وتراجع مشروعهم التبشيري، فقد كانوا يبشرون بأنواع متدرجة ومتضاربة من الحداثة.

وفي خاتمة المطاف ذهب الطهطاوي ضحية للنزاع بين أذرع السياسة المصرية، وبالتحديد بسبب الخلاف بين محمد علي وعباس حلمي، ومات الأرسوزي قبل أن يرى بشائر الانقلاب على مدرسة تجار دمشق، في حين تحول عفلق إلى أسطورة وهمية صنعها الرأسمال السياسي في العراق. وحتى بالنسبة إلى رمز من رموز الانفصال وهو الدكتور العجيلي فقد كان وجها لنظام عسكري انقلابي حتى لو أنه لم يعمر غير سنتين. وغلبت المثاليات والأخلاق على كتاباته حول دوره في جيش الإنقاذ وتبنيه للقضية الفلسطينية. ولم تكن تخلو تصوراته من الفانتازيا الحضارية عن أمجاد العرب المسلمين، واتخذت في كثير من الأحيان موقفا عرقيا تغذيه خلفياته البدوية.

ومهما حاول العجيلي أن يشذب أصوله كان ولاؤه الأول للخيول ومضارب البدو. وتطورت هذه الحساسية لديه لتأخذ شكل تجوال دائم في الشمال كل أعالي أوروبا كما لو أنه بدوي يهيم على وجهه، ولكن يقيم في فنادق الخمس نجوم. ولم تكن هذه الفانتازيا السياحية تخلو من كلام حماسي عن الماضي أو اكتشاف تذكار وربما أثر تركه الأجداد.

ولا يوجد أحد يستطيع المزاودة على العجيلي في هذا الشأن، فقد خصص عدة مؤلفات ليحفر في تاريخ جيش الإنقاذ وأبطاله منها كتابه "السيف والتابوت"، أو لينقب في أرجاء الأندلس عن أي شيء عروبي، ونادرا ما يقترن عنده بالدين (انظر "قناديل إشبيلية"، و"فارس مدينة القنطرة").

ولا يجد العجيلي أي فرق بين فلسطين وإسبانيا والمغرب. وربما هذه المحطات بديل لديه عن رؤوس المثلث الهيليني: الإسكندرية - اليونان - الساحل السوري، وهو ما يحول التفسير المائي لوحدة الشعوب بالثقافة إلى تفسير عرقي لوحدة الأمة بالدم. ولكنه هذب هذا الاتجاه النمطي بروح وطنية اصطلحنا على تسميتها بالاتجاه الكلاسيكي. وأجد أنه مجرد اسم مقنع للحداثة الجديدة، وبها عبر عن أزمة الجيل الضائع الذي يضم إلى جانب العجيلي كلا من نزار قباني في الشعر، ومحي الدين صبحي في الفكر والنقد الأدبي. وللثلاثة أسلوب فحولي في ركوب المخاطر يدل على تأزم الليبيدو.

العجيلي كان أول من مهد لسرد تسجيلي، وعلى هذا الأساس فإنه أضاف للحداثة ولم يأخذ منها

وبأغلب الظن لم تكن فلسطين بالنسبة إليهم قضية تنتمي إليها بمقدار ما هي وسيلة مشروعة للهرب من إملاءات النظام. وتشكيك العجيلي بجدوى الوحدة مع مصر واضح في روايته الناقصة "ألوان الحب الثلاثة". ولكن خفف من يأسه وجدب عاطفته الوحدوية النصف الثاني الذي تكفل بكتابته أنور قصيباتي.

وعلى هذا الأساس أبرر لماذا كتبت غادة السمان عن ليالي الغربة وعن موت بحر بيروت، ولماذا كتب ياسين رفاعية عن النساء الغامضات رواية "امرأة غامضة" وعن حواري المدينة مثل "رأس بيروت" و"سوريو جسر الكولا".

وما تركه السوريون لاحقا عن الريف لا يخلو من الشوائب. وكانت الشخصيات أقرب لصعاليك المدينة، ومجتمع قريتها يشبه مجتمع الضواحي. كان الموضوع يدور عن جحافل المهاجرين الذين تركوا الحقل والتئام شملهم في أحياء رخيصة في محيط النظام، وهناك من يرمز لهم بقلب النظام أو حقيقته، لكن لا شك عندي بوجود انفصام قريب من شيزوفرانيا سريرية، والانقطاع المعرفي يوازي كسرا في بنية النظام، وهو كسر يباعد ما بين الماضي والوقت الراهن، وكأننا أمام حالة دكتور جيكل ومستر هايد، وبعد أن أخذ كل جانب من هذا التركيب خنادقه واستقر فيها. بتعبير آخر كل نصف إنسان اكتفى بحظه.

وأرى أن مجتمع الأطراف أتون للأنظمة أو مادة للحرق الاجتماعي والاستهلاك، ولا علاقة له بالبنية التي تحورت. وإن أخذ الكلام عن الأرض مساحة من أي عمل، فإنه جردها من روحها العضوية ووضعها في خلفية الأحداث كما لو أنها ديكور أو خشبة مسرح داخل صالة.

وكان الحل جاهزا بالتعبير عن المشكل المعرفي من خلال تصور ثقافي، ونقل شباب الريف إلى المدينة الجامعية أو إلى المقاهي، فقد انتشرت روايات وقصص المدينة الجامعية بنفس زخم انتشار أدب المقاهي، وخيم على الجهتين نوع من التعطيل لحركة المجتمع أو نوع من الفجوة في الروح.

وسمحت هذه التطورات بتشكيل نوع ثالث، لا هو مهتم بالأرض، ولا هو يعيش في المدينة. وأعتقد أن هذا النموذج قدم لنا صورة خاصة عن السوري الذي أنتجته جملة من الخسارات، من بينها خسارته لأدوات إنتاجية، وخسارته لمجتمع مدينته، ومعها الصالونات الأرستقراطية التي صنعت أدباء الأمة ومهدت لتجديد العقل العربي قبل أن يتعرض للانتهاك والسقوط. وأشبّه ذلك بأزمة المهاجر الشرقي في الغرب. ومن أهم أمثلته "بوذا الضواحي" لحنيف قريشي.

ويرفع هذا الموقف اللاأدرية والعبثية درجة إلى أعلى نحو التراجيديا الملحمية للأدب الأميركي الأسود، فهو عنفي، قليل الحوار، ويفكك أزماته على أساس أقلياتي وعرقي. ومشكلته تتلخص بانعدام خط العودة. لذلك لا يوجد أمامه أي خيار غير الزحف نحو الأتون، فرن العالم الجديد، بتناقضاته وإيجابياته.

وأود القول إن تجاور هذه التيارات لم يترك أمام أجيال السوريين سوى تجاور مشابه، فمرجعية القوميين العرب لم تكن عمليا في عواصم صديقة، كالصين وروسيا. وحفرت عدة خنادق على طول الجبهة الغربية.ط، ولذلك اختنق الاتجاه الاشتراكي بعدة اشتراكيات مضادة وجدت مرجعيتها في المنشقين على الدولة، وعلى رأسهم غارودي بواقعيته الفضفاضة، ولوكاتش وفيشر بواقعيتهما الجديدة أو النقدية أو التحليلية.

تعددت الأسماء والمسمى واحد. ولا أعتقد أن هذه الاتجاهات تصمد عند أي تحليل منطقي، فهي تقطع مع مؤسسة الدولة وتبني سوقا موازية للأفكار. ولذلك أرى أن الواقعية في سوريا مجرد قناع لحداثة ملتزمة، ومثلها الكلاسيكية هي قناع آخر لنفي النظام من داخله، ويمكن أن نرى أنها تجديد لأصول الخطاب. وما قدمه العجيلي لا يقل عن أي ثورة في بنية الإخبار والسرد، فقد عمق قدرة التفكير على التصور والتجسد، وكان أول من مهد لسرد تسجيلي، ويصعب أن تفصل فيه الحقيقة عن التخيل، وعلى هذا الأساس أجد أنه أضاف للحداثة ولم يأخذ منها.

والمشكلة في تأطير الأجيال لدينا لها عدة أسباب. أهمها البنية. والحداثة بالاتفاق هي كل بنية تضع الأسلوب قبل المضمون. ويأتي بعد ذلك الموضوع الاغترابي الذي يهتم بالذات وليس الواقع بمعنى الحياة.

لا توجد أشكال أدبية عارية، وكذلك لا يوجد أدب محايد، وإلا انتقلنا من التعبير إلى التدوين

وفي حقيقة الأمر لا توجد أشكال أدبية عارية، وكذلك لا يوجد أدب محايد، وإلا انتقلنا من التعبير إلى التدوين. ولتوضيح الفكرة يمكن مقارنة العجيلي بواحدة من أبناء جيله مثل وداد سكاكيني، فقد توقف وعيها عند إصلاح الأسلوب وتشذيب اللغة دون أن تهمل الدور التربوي.

لكن لم يسمح العجيلي لصوته أن يعلو على أصوات شخصياته. وبلغة أوضح لم تخرج سكاكيني ولا زوجها زكي المحاسني من عباءة شيخ معمم مثل الكواكبي، وانضم كلاهما لقافلة المثقف النازح. وهو خط الكواكبي أيضا. وليس صدفة أن الثلاثة عاشوا برعاية الدولة المصرية، في حين اختار العجيلي أن يحرق أوراقه مع الدولة، وأن يعمل في مساحة وطنية أوسع. وضمن ما أرى أنه خط الثقافة السياحية. وكل ما يسميه هو "أدب رحلات" كان في الواقع أدب كشافة، أو مذكرات سياحية، تنقل انطباعاته ولكن لا تدون أو تسجل شيئا، وأبعد شيء في أدب العجيلي هو عين الكاميرا. وأعتقد أنه كان ينظر بعينه الثالثة أو بعين إلهه المتواري. وإذا استخدمنا مفردات ريبيكا روث غولد أجد أنه لم يتكلم عن الأرض المنهوبة ولكن عن سرقة الزمن العربي أيضا، ومن أمثلة هذا المحور الفلسطينيات كتاباته عن فلسطين. وهي بالنسبة إليه المربع رقم واحد أو بديهة، أكسيوم بلغة الإغريق، ولا تحتاج لإثبات ولا نقاش.

ومن الطبيعي والحال كذلك أن أسجل نوعا من التشتت في التصورات والمعايير بين الأجيال، فقد جاءت من مصادر مختلفة، وإن اجتمعت في الستينات. وأهم ما ألاحظه على حداثة الجناح السوري أنها غريبة عن الافتراضات الثقافية للشرق الأوسط بنسخته الوطنية المصرية، فالكتابات المنشورة عن الإسكندرية لا تشبه أدبيات الساحل السوري ولو أن الأبيض المتوسط يجمع بينهما.

وكتّاب الإسكندرية إجمالا ينظرون إلى الداخل، نحو البر، وهذا ينطبق على الضيوف كذلك مثل رواية العراقي برهان الخطيب "ذلك الصيف في إسكندرية" أو رباعية الإسكندرية للورنس داريل، فالأول تعايش مع أحياء ونساء المدينة وراهن على غرام بين ذاكرة حضارية وواقع سياسي بحبكة لا تبتعد كثيرا عن الزواج العرفي والمساكنة. والثاني دخل في جوهر الموضوع وهو نبش ماضي الذاكرة الغربية التي استوطنت في الشرق وحاضرها الذي يغتصب الشرق وينهبه. أما أدباء الساحل فينظرون إلى الماء، وهم أقرب برأيي إلى صياد محترف مثل همنغواي أو رجل مستهتر ومعربد مثل زوربا كازانتزاكيس. وفي جميع الأحوال تراكم شتات السوريين في الستينات عند نقاط التقاء جوهرية.

أولا: راديكالية التفكير لدرجة أن احترام النوع يلغي الفروق في الوظائف البيولوجية، أو العواطف التي تحددها الولادة وليس التربية، ولا يمكن أن تقرأ في هذا السياق إشارات تدل على الخطيئة أو العار، حتى إن الحب يبدو وكأنه سجن رمزي لشيء غامض ومبهم. أما العلاقة العاطفية فتبدو كما لو أنها تتحرك من فوق الغرائز، وتحرص على تبرير السلوك الميكيافيلي لمجتمع الهزيمة.

ثانيا: النشاط الليلي للشخصيات. ولا أعتقد أنه قرينة على نوع فني بقدر ما هو دليل على روح المقاومة للنظام وأدب البروباغندا. وساعد على ذلك اختلاف الحداثيين مع ماضيهم ومع أنفسهم لدرجة انقسام روحي والتعبير لوائل السواح وتجده في كتابه التسجيلي "انقسام الروح". ويعزو الظاهرة لما يسميه روح وعاطفة همة الشباب. وأضيف: تفشي روح النميمة والتنافس غير الشريف، وهي حقيقة مؤكدة يعرب عنها تشرذم اليسار العربي وحركة القوميين العرب، وتشتتهم بين عدة ولاءات من المدرسة الإسبارطية الروسية إلى ليبرالية ديمقراطية فضفاضة تعيد إلى الذهن التجربة البائسة لتروتسكي. ونحن جميعا نعرف التراجيديا التي انتهت إليها، ولا يوجد شيء يغذي التروتسكيين العرب غير النزوح والهجرة والدخول في معركة من أجل البقاء.

ثالثا: سياسة هدم الجسور مع الذاكرة والاستعاضة عنها بأرشيف منتقى من عدة ذواكر، ويصعب أن لا تقول إنها بشرت بإنسان كوزموبوليتاني حتى قبل تفشي ظاهرة العولمة وما تبعها من خراب وإعادة ترتيب داخل المعسكر السلوفيني الشرقي. وأستطيع تعميم هذه النتيجة على أهم نماذج المقاومة الفلسطينية، فهي تدين لجنوب أميركا وواقعيتها السحرية، أكثر مما تدين به لقراءة واقعنا الكابوسي. ولا أستثني أدب المقاومة في العراق، فقد عبر الأكراد وأدباء الجنوب عن تململهم من سياسة صدام بإعادة إنتاج ماركيز وكاربنتييه وبقية أدباء العالم الثالث.

رابعا: ظاهرة الخوف من المخابرات والدخول في عباءة الجيش. وأعتقد أنه مبدأ بنى عليه الربيع العربي كل سياسته. مع فارق أساسي واحد، أن ثورات الألفية استهدفت النظام علنا، لكن اكتفى رموز الستينات بالدعوة لمزيد من الحريات مع إصلاح راديكالي لعلاقة الأفراد بالمجتمع، ولا أعرف كيف أفسر هذه الكلمة، فقد كان العقل الاجتماعي غامضا، ويدل في معظم الأحوال على العلاقة مع السلطة، وهي ليست محددة أيضا، ويوجد تداخل في المفاهيم بين نظام وأعراف ومؤسسات دولة. بمعنى أن المجتمع رؤية ميتافيزيقية لمجموعة من النشاطات التي يحدوها هم واحد وهو ضرورة الحياة والبقاء باعتبار أنهما مصدر للقيمة. وفي رأيي هذا هو السبب للنظر إلى القرية بصورة مدينة صغيرة انظر رواية "في المنفى" لجورج سالم. كل مشاهدها الريفية تبدو أشبه بلوحة لفان غوخ. وحتى غوخ كان أقرب للاقتصاد الريفي من سالم، فقد صور في عدة لوحات مجموعة فلاحين في موسم الحصاد، ومناجلهم تلمع فوق رؤوسهم، في حين خلت أعمال سالم من المشقة والعذاب وأوجاع الأرض، وأسهبت بالكلام عن الشك وغربة الروح.

خامسا: كل شيء دار حول نتائج الهزيمة، بغض النظر عن الأسباب، وهو خطأ منهجي آخر يلغي دور النبوءة الاستباقية، ويرهن نفسه للنقد والتجريح، ولا يشترك معنا أحد في هذا العيب غير الأدباء البيض الذين حاربوا السياسة الاستعمارية والعنصرية في أفريقيا. ومن هؤلاء هيلاري مانتل في "تبدل المناخ" وج. م كويتزي في "العار". وقد نظر كلاهما للغبن الاجتماعي وكأنه انحراف في السلوك، وليس خطأ في البنية. وهذه هي الحفرة التي وقعنا فيها، فقد انتظرنا الهزيمة لنكتشف انحرافات الأنظمة، ولم نفكر بمشكلتنا المزمنة مع الحضارة.

سادسا: طرأ تحول نوعي على شكل الرحلة العلمية، وعوضا عن أن تكون الدراسة في الغرب ويتخللها غرام ينتهي بمأساة أصبحت الدراسة في المدينة، أو ربيبتها المدينة الجامعية. وتطابقت لأول مرة رمزية المرأة والمدينة والغرب والمعرفة، لكن يجدر التنويه أن هذا النوع تبنى تصنيفا ثلاثيا للأجناس، مذكر ومؤنث وطلبة. وكان ينظر للعلاقة المحرمة بين الطلاب على أنها خطيئة ويمكن تبييضها بشراء صكوك الغفران من المؤسسة، لكن أخذت شكل اغتصاب وسلوك انتقامي مع نساء المدينة. ولهذا السبب لا يمكن تسجيل وعي درامي لا بالمجتمع الريفي ولا أخلاق المدينة. وهو خطأ يدل على قصور في جهاز التنبؤ. وينطبق ذلك على الجميع بمن فيهم العجيلي، فهو لم يسجل كلمة واحدة بحق القرية، وأصلا لا يوجد لديه وعي واضح بالمجتمع الزراعي، وانتماؤه الأول والأخير لثقافة الترحال وتجميع المصادر. ولم تنج الحداثة الأوروبية من هذا المشكل، فقد حوّل كامو الحبكة الثلاثية المعروفة في أوروبا الستينات من قصص عن الخيانة الزوجية والمخادع إلى حكاية عن مشكل غامض وطبيعة صامتة، وهي ظاهرة تؤكد على نشاط ذهن نفسي، وليس على قراءة ولا مشاركة للواقع. وانتقل هذا المرض إلى السوفييت في الثمانينات ووصل إلى آخر رموز الواقعية الاشتراكية مثل إيتماتوف وفالنتين راسبوتين.

ولذلك أرى أن الواقعية الجديدة كانت في جوهرها حداثة انتقالية مثلما كانت البيروسترويكا مرحلة للعبور إلى اقتصاد السوق، لكن اضطراب وضبابية هذا الجيل لم يؤهله لتقديم قراءة مستدامة، ولم يجد طريقة لدعم إصلاحاته الفنية بمضمون واضح، وبقي يراوح بين الرفض والنفي، دون أن يتفق اثنان على شيء واحد مفيد.